وقوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } أي : حجتهم . وقال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : أي : معذرتهم . وكذا قال قتادة . وقال ابن جريج ، عن ابن عباس : أي قيلهم . وكذا قال الضحاك .
وقال عطاء الخراساني : ثم لم تكن بليتهم حين ابتلوا { إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }
وقال ابن جرير : والصواب ثم لم يكن{[10610]} قيلهم عند فتنتنا{[10611]} إياهم{[10612]} اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله { إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }{[10613]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى الرازي ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن مُطَرِّف ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : أتاه رجل فقال يا أبا{[10614]} عباس . سمعت الله يقول : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } قال : أما قوله : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة ، فقالوا : تعالوا فلنجحد ، فيجحدون ، فيختم الله على أفواههم ، وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا ، فهل في قلبك الآن شيء ؟ إنه ليس من القرآن شيء إلا قد نزل{[10615]} فيه شيء ، ولكن لا تعلمون{[10616]} وجهه .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : هذه في المنافقين .
وفي هذا نظر ، فإن هذه الآية مكية ، والمنافقون إنما كانوا بالمدينة ، والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ [ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ]{[10617]} } [ المجادلة : 18 ] ، وهكذا قال في حق هؤلاء : { انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } كَمَا قَالَ { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا [ بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ] {[10618]} } [ غافر : 73 ، 74 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْرِكِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : ثم لم يكن قولهم إذ قلنا لهم : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون إجابة منهم لنا عن سؤالنا إياهم ذلك إذ فتناهم فاختبرناهم ، إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ كذبا منهم في أيمانهم على قيلهم ذلك .
ثم اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة من قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : «ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ » بالنصب ، بمعنى : لم يكن اختبارنا لهم إلاّ قيلهم وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ غير أنهم يقرءون تَكُنْ بالتاء على التأنيث وإن كانت للقول لا للفتنة لمجاورته الفتنة وهي خبر ، وذلك عند أهل العربية شاذّ غير فصيح في الكلام وقد رُوِي بيت للبيد بنحو ذلك ، وهو قوله :
فَمَضَى وَقَدّمَها وكانَتْ عادَةً ***منهُ إذا هيَ عَرّدَتْ إقْدامُها
فقال : «وكانت » بتأنيث الإقدام لمجاورته قوله : عادة .
وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفيين : «ثمّ لَمْ يَكُنْ » بالياء «فِتْنَتَهُمْ » بالنصب إلاّ أنْ قالُوا بنحو المعنى الذي قصده الاَخرون الذين ذكرنا قراءتهم ، غير أنهم ذكروا يكون لتذكير أن وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب ، لأن «أنْ » أثبت في المعرفة من الفتنة .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ فقال بعضهم : معناه : ثم لم يكن قولهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال قتادة في قوله : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قال : مقالتهم . قال معمر : وسمعت غير قتادة يقول : معذرتهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قال : قولهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا . . . الاَية ، فهو كلامهم ، قالوا : واللّهِ رَبّنَا ما كُنَا مُشْرِكِينَ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال سمعت الضحاك : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ يعني كلامهم .
وقال آخرون : معنى ذلك معذرتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قال : معذرتهم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ يقول : اعتذارهم بالباطل والكذب .
والصواب من القول في ذلك أن يقال معناه : ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله ، إلا أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فوضعت الفتنة موضع القول لمعرفة السامعين معنى الكلام . وإنما الفتنة : الاختبار والابتلاء ، ولكن لما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلاّ عند الاختبار ، وضعت الفتنة التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم .
واختلفت القرّاء أيضا في قراءة قوله : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين والبصريين : وَاللّهِ رَبّنا خفضا على أن «الرب » نعت لله . وقرأ ذلك جماعة من التابعين : «واللّهِ رَبّنا » بالنصب بمعنى : والله يا ربنا ، وهي قراءة عامة قرّاء أهل الكوفة .
وأولى القراءتين عندي بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : «وَاللّهِ رَبّنا » بنصب الربّ ، بمعنى : يا ربنا . وذلك أن هذا جواب من المسئولين المقول لهم : أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمونَ وكان من جواب القوم لربهم : والله يا ربنا ما كنا مشركين ، فنفوا أن يكونوا قالوا ذلك في الدنيا . يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ، ويعني بقوله : ما كُنّا مُشْرِكِينَ ما كنا ندعو لك شريكا ولا ندعو سواك .
{ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا } أي كفرهم ، والمراد عاقبته وقيل معذرتهم التي يتوهمون أن يتخلصوا بها ، من فتنة الذهب إذا خلصته . وقيل جوابهم وإنما سماه فتنة لأنه كذب ، أو لأنهم قصدوا به الخلاص . وقرأ ابن كثير . وابن عامر وحفص عن عاصم { لم تكن } بالتاء و{ فتنتهم } بالرفع على أنها الاسم ، ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عنه بالتاء والنصب على أن الاسم { أن قالوا } ، والتأنيث للخبر كقولهم من كانت أمك والباقون بالياء والنصب . { والله ربنا ما كنا مشركين } يكذبون ويحلفون عليه مع علمهم بأنه لا ينفعهم من فرط الحيرة والدهشة ، كما يقولون : { ربنا أخرجنا منها } . وقد أيقنوا بالخلود . وقيل معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا وهو لا يوافق قوله { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } .