{ 16-17 } { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا }
يخبر تعالى أنه إذا أراد أن يهلك قرية من القرى الظالمة ويستأصلها بالعذاب أمر مترفيها أمرا قدريا ففسقوا فيها واشتد طغيانهم ، { فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ } أي : كلمة العذاب التي لا مرد لها { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا }
اختلف القراء في قراءة قوله : { أَمَرْنَا } فالمشهور قراءة التخفيف ، واختلف المفسرون في معناها ، فقيل : معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرًا قدريًا ، كقوله تعالى : { أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا } [ يونس : 24 ] ، فإن الله لا يأمر بالفحشاء ، قالوا : معناه : أنه سخرهم إلى فعل الفواحش فاستحقوا العذاب .
وقيل : معناه : أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة . رواه ابن جريج{[17366]} عن ابن عباس ، وقاله سعيد بن جبير أيضًا .
وقال ابن جرير : وقد يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء .
قلت : إنما يجيء هذا{[17367]} على قراءة من قرأ " أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا " قال علي بن طلحة ، عن ابن عباس قوله : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا } يقول : سلطنا أشرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم{[17368]} بالعذاب ، وهو قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا } [ الأنعام : 123 ] ، وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس .
وقال العَوْفِي عن ابن عباس : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا } يقول : أكثرنا عددهم ، وكذا قال عكرمة ، والحسن ، والضحاك ، وقتادة ، وعن مالك عن الزهري : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } : أكثرنا .
وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا أبو نعامة العدوي ، عن مسلم بن بُدَيْل ، عن إياس بن زهير ، عن سُوَيْد بن هُبَيْرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خير مال امرئ له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة " .
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام ، رحمه الله ، في كتابه " الغريب " : المأمورة : كثيرة النسل . والسّكة : الطريقة المصطفة من النخل ، والمأبورة : من التأبير ، وقال بعضهم : إنما جاء هذا متناسبًا كقوله : " مأزورات غير مأجورات " {[17369]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمّرْنَاهَا تَدْمِيراً } .
اختلف القرّاء في قراءة قوله أمَرْنا مُتْرَفِيها فقرأت ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق أمَرْنا بقصر الألف وغير مدها وتخفيف الميم وفتحها . وإذا قرىء ذلك كذلك ، فإن الأغلب من تأويله : أمرنا مترفيها بالطاعة ، ففسقوا فيها بمعصيتهم الله ، وخلافهم أمره ، كذلك تأوّله كثير ممن قرأه كذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس أمَرْنا مُتْرَفيها قال : بطاعة الله ، فعصوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا شريك ، عن سلمة أو غيره ، عن سعيد بن جبير ، قال : أمرنا بالطاعة فعصوا .
وقد يحتمل أيضا إذا قرىء كذلك أن يكون معناه : جعلناهم أمراء ففسقوا فيها ، لأن العرب تقول : هو أمير غير مأمور . وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : قد يتوجّه معناه إذا قرىء كذلك إلى معنى أكثرنا مترفيها ، ويحتجّ لتصحيحه ذلك بالخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خَيْرُ المَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أوْ سِكّةٌ مَأْبُورَةٌ » ويقول : إن معنى قوله : مأمورة : كثيرة النسل . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين ينكر ذلك من قيله ، ولا يجيزنا أمرنا ، بمعنى أكثرنا إلا بمدّ الألف من أمرنا . ويقول في قوله «مهرة مأمورة » : إنما قيل ذلك على الاتباع لمجيء مأبورة بعدها ، كما قيل : «ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غيرَ مَأْجُورَات » فهمز مأزورات لهمز مأجورات ، وهي من وزرت إتباعا لبعض الكلام بعضا . وقرأ ذلك أبو عثمان «أمّرْنا » بتشديد الميم ، بمعنى الإمارة .
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم عن عوف ، عن أبي عثمان النهدي أنه قرأ : «أمّرْنا » مشدّدة من الإمارة .
وقد تأوّل هذا الكلام على هذا التأويل ، جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : «أمّرْنا مُترَفِيها » يقول : سلطنا أشرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بالعذاب ، وهو قوله : وكذلكَ جَعَلنا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : سمعت الكسائي يحدّث عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، أنه قرأها : «أمّرْنا » وقال : سلّطنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي حفص ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : «أمّرْنا » مثقلة : جعلنا عليها مترفيها : مستكبريها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحرث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : «أمّرْنا مُترَفِيها » قال : بعثنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك : «آمَرْنا » بمدّ الألف من أمرنا ، بمعنى : أكثرنا فسقتها . وقد وجّه تأويل هذا الحرف إلى هذا التأويل جماعة من أهل التأويل ، إلا أن الذين حدّثونا لم يميزوا لنا اختلاف القراءات في ذلك ، وكيف قرأ ذلك المتأوّلون ، إلا القليل منهم . ذكر من تأوّل ذلك كذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : «وَإذَا أرَدْنا أنْ نُهِلكَ قَرْيَةً آمَرْنا مُترَفِيها فَفَسَقُوا فِيها » يقول : أكثرنا عددهم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة قوله : «آمَرْنا مُتْرَفِيها » قال : أكثرناهم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله أمَرْنا مُتْرَفِيها قال : أكثرناهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله أمَرْنا مُتْرَفيها يقول : أكثرنا مترفيها : أي كبراءها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «وَإذَا أرَدْنا أنْ نُهْلكَ قَرْيَةً آمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ، فَحَقّ عَلَيْها القَوْلُ » يقول : أكثرنا مترفيها : أي جبابرتها ، ففسقوا فيها وعملوا بمعصية الله فَدَمّرْناها تَدْميرا . وكان يقول : إذا أراد الله بقوم صلاحا ، بعث عليهم مصلحا . وإذا أراد بهم فسادا بعث عليهم مفسدا ، وإذا أراد أن يهلكها أكثر مترفيها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة آمَرْنا مُتْرَفِيها قال : أكثرناهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على زينب وهو يقول : «لا إلَهَ إلاّ اللّهُ وَيْلٌ للْعَرَبِ مِنْ شَرَ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمأْجُوجَ مِثُلُ هَذَا » وحلق بين إبهامه والتي تليها ، قالت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : «نَعَمْ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَإذَا أرَدْنا أنْ نُهْلكَ قَرْيَةٍ أمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها قال : ذكر بعض أهل العلم أن أمرنا : أكثرنا . قال : والعرب تقول للشيء الكثير أمِرَ لكثرته . فأما إذا وصف القوم بأنهم كثروا ، فإنه يقال : أمر بنو فلان ، وأمر القوم يأمرون أمرا ، وذلك إذا كثروا وعظم أمرهم ، كما قال لبيد .
إنْ يُغْبَطُوا يُهْبَطُوا وَإنْ أَمَرُوا *** يَوْما يَصِيرُوا للقُلّ والنّفَدِ
والأمر المصدر ، والاسم الإمر ، كما قال الله جلّ ثناؤه لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا قال : عظيما ، وحكي في مثل شرّ إمْر : أي كثير .
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ أمَرْنا مُتْرَفِيها بقصر الألف من أمرنا وتخفيف الميم منها ، لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها دون غيرها . وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة ، فأولى التأويلات به تأويل من تأوّله : أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها ، فحقّ عليهم القول : لأن الأغلب من معنى أمرنا : الأمر ، الذي هو خلاف النهي دون غيره ، وتوجيه معاني كلام الله جلّ ثناؤه إلى الأشهر الأعرف من معانيه ، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره .
ومعنى قوله : فَفَسَقُوا فِيهَا : فخالفوا أمر الله فيها ، وخرجوا عن طاعته فَحَقّ عَلَيْها القَوْلُ يقول : فوجب عليهم بمعصيتهم الله وفسوقهم فيها ، وعيد لله الذي أوعد من كفر به ، وخالف رسله ، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بالرسل والحجج فَدَمّرْناها تَدْميرا يقول : فخرّبناها عند ذلك تخريبا ، وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكا ، كما قال الفرزدق :
وكانَ لَهُمْ كَبكْرِ ثَمُودَ لَمّا *** رَغا ظُهْرا فَدَمّرَهُمْ دَمارا