فذكرهم بالنعم الدينية والدنيوية ، الداعي ذلك لإيمانهم وثباته ، وثباتهم على الجهاد ، وإقدامهم عليه ، ولهذا قال : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ }
أي : المطهرة { الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فأخبرهم خبرا تطمئن به أنفسهم ، إن كانوا مؤمنين مصدقين بخبر الله ، وأنه قد كتب الله لهم دخولها ، وانتصارهم على عدوهم . { وَلَا تَرْتَدُّوا } أي : ترجعوا { عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } قد خسرتم دنياكم بما فاتكم من النصر على الأعداء وفتح بلادكم . وآخرتكم بما فاتكم من الثواب ، وما استحققتم -بمعصيتكم- من العقاب ، فقالوا قولا يدل على ضعف قلوبهم ، وخور نفوسهم ، وعدم اهتمامهم بأمر الله ورسوله .
لقد جربهم في مواطن كثيرة طوال الطريق الطويل . . ثم ها هو ذا معهم على أبواب الأرض المقدسة . أرض الميعاد التي من أجلها خرجوا . الأرض التي وعدهم الله أن يكونوا فيها ملوكا ، وأن يبعث من بينهم الأنبياء فيها ليظلوا في رعاية الله وقيادته . .
لقد جربهم فحق له أن يشفق ، وهو يدعوهم دعوته الأخيرة ، فيحشد فيها ألمع الذكريات ، وأكبر البشريات ، وأضخم المشجعات وأشد التحذيرات :
( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) . .
نعمة الله . ووعده الواقع من أن يجعل فيهم أنبياء ويجعلهم ملوكا . وإيتاءه لهم بهذا وذلك ما لم يؤت أحدا من العالمين حتى ذلك التاريخ . والأرض المقدسة التي هم مقدمون عليها مكتوبة لهم بوعد الله . فهي إذن يقين . . وقد رأوا من قبل كيف صدقهم الله وعده . وهذا وعده الذي هم عليه قادمون . . والارتداد على الأدبار هو الخسران المبين . .
قوله : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة } هو الغرض من الخطاب ، فهو كالمقصد بعد المقدّمة ، ولذلك كرّر اللفظ الذي ابتدأ به مقالته وهو النداء ب { يَا قَوم } لزيادة استحضار أذهانهم . والأمر بالدخول أمر بالسعي في أسبابه ، أي تهيَّأوا للدخول . والأرض المقدّسة بمعنى المطهّرة المباركة ، أي الّتي بارك الله فيها ، أو لأنّها قُدّست بدفن إبراهيم عليه السلام في أوّل قرية من قراها وهي حَبْرون .
وهي هنا أرض كنعان من برية ( صِين ) إلى مدخل ( حَمَاة وإلى حبرون ) . وهذه الأرض هي أرض فلسطين ، وهي الواقعة بين البحر الأبيض المتوسّط وبين نهر الأردن والبحر الميت فتنتهي إلى ( حماة ) شمالاً وإلى ( غَزّة وحبرون ) جنوباً . وفي وصفها ب { التي كتب الله } تحريض على الإقدام لدخولهَا .
ومعنى { كتب الله } قَضَى وقدّر ، وليس ثمّة كتابة ولكنّه تعبير مجازي شائع في اللّغة ، لأنّ الشيء إذا أكده الملتزم به كتبه ، كما قال الحارث بن حلّزة :
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
فأطلقت الكتابة على ما لا سبيل لإبطاله ، وذلك أنّ الله وعد إبراهيم أن يورثها ذرّيته . ووعدُ الله لا يُخلف .
وقوله : { ولا ترتَدّوا على أدباركم } تحذير ممّا يوجب الانهزام ، لأنّ ارتداد الجيش على الأعقاب من أكبر أسباب الانخذال . والارتداد افتعال من الردّ ، يقال : ردّه فارتدّ ، والردّ : إرجاع السائر عن الإمضاء في سيره وإعادته إلى المكان الذي سار منه . والأدبار : جمع دُبُر ، وهو الظهر . والارتداد : الرجوع ، ومعنى الرجوع على الأدبار إلى جهة الأدبار ، أي الوراء لأنّهم يريدون المكان الذي يمشي عليه الماشي وهو قد كان من جهة ظهره ، كما يقُولون : نكص على عقبيه ، وركبوا ظهورهم ، وارتدّوا على أدبارهم ، وعلى أعقابهم ، فعدّي ب { على } الدالّة على الاستعلاء ، أي استعلاء طريق السير ، نزّلت الأدبار الّتي يكون السير في جهتها منزلة الطريق الّذي يسار عليه .
والانقلاب : الرجوع ، وأصله الرجوع إلى المنزل قال تعالى : { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل } [ آل عمران : 174 ] . والمراد به هنا مطلق المصير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.