ثم ضرب مثلا للشرك والتوحيد فقال : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا } أي : عبدا { فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ } فهم كثيرون ، وليسوا متفقين على أمر من الأمور وحالة من الحالات حتى تمكن راحته ، بل هم متشاكسون متنازعون فيه ، كل له مطلب يريد تنفيذه ويريد الآخر غيره ، فما تظن حال هذا الرجل مع هؤلاء الشركاء المتشاكسين ؟
{ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ } أي : خالصا له ، قد عرف مقصود سيده ، وحصلت له الراحة التامة . { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } أي : هذان الرجلان { مَثَلًا } ؟ لا يستويان .
كذلك المشرك ، فيه شركاء متشاكسون ، يدعو هذا ، ثم يدعو هذا ، فتراه لا يستقر له قرار ، ولا يطمئن قلبه في موضع ، والموحد مخلص لربه ، قد خلصه اللّه من الشركة لغيره ، فهو في أتم راحة وأكمل طمأنينة ، ف { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ } على تبيين الحق من الباطل ، وإرشاد الجهال . { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }
( ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل ، هل يستويان مثلاً ? الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) . .
يضرب الله المثل للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضاً فيه ، وهو بينهم موزع ؛ ولكل منهم فيه توجيه ، ولكل منهم عليه تكليف ؛ وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج ولا يستقيم على طريق ؛ ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه ! وعبد يملكه سيد واحد ، وهو يعلم ما يطلبه منه ، ويكلفه به ، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح . .
إنهما لا يستويان . فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين . وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه ، ووضوح الطريق . والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل لا يستقر على حال ولا يرضي واحداً منهم فضلاً على أن يرضي الجميع !
وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال . فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى ، لأن بصره أبداً معلق بنجم واحد على الأفق فلا يلتوي به الطريق . ولأنه يعرف مصدراً واحداً للحياة والقوة والرزق ، ومصدراً واحداً للنفع والضر ، ومصدراً واحداً للمنح والمنع ، فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد ، يستمد منه وحده ، ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته . ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره . ويخدم سيداً واحداً يعرف ماذا يرضيه فيفعله وماذا يغضبه فيتقيه . . وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد ، فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد في السماء . .
ويعقب على هذا المثل الناطق الموحي ، بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة
{ ضرب الله مثلا } للمشرك والموحد . { رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سالما لرجل } مثل المشرك على ما يقتضيه مذهبه من أن يدعي كل واحد من معبوديه عبوديته ، ويتنازعوا فيه بعبد يتشارك فيه ، جمع يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المختلفة في تحيره وتوزع قلبه ، والموحد بمن خلص لواحد ليس لغيره عليه سبيل و { رجلا } بدل من مثل وفيه صلة { شركاء } ، والتشاكس والتشاخص والاختلاف . وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون " سلما " بفتحتين ، وقرئ بفتح السين وكسرها مع سكون اللام وثلاثتها مصادر سلم نعت بها ، أو حذف منها ذا ورجل سالم أي وهناك رجل سالم ، وتخصيص الرجل لأنه أفطن للضر والنفع . { هل يستويان مثلا } صفة وحالا ونصبه على التمييز ولذلك وحده ، وقرئ " مثلين " للإشعار باختلاف النوع ، أو لأن المراد على { يستويان } في الوصفين على أن الضمير للمثلين فإن التقدير مثل رجل ومثل رجل . { الحمد لله } كل الحمد له لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه ، لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق . { بل أكثرهم لا يعلمون } فيشركون به غيره من فرط جهلهم .
لما ذكر عز وجل أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل مجملاً جاء بعد ذلك بمثل في أهم الأمور وأعظمها خطراً وهو التوحيد ، فمثل تعالى الكافر والعابد للأوثان والشياطين لرجال عدة في أخلاقهم شكاسة ونقص وعدم مسامحة ، فهم لذلك يعذبون ذلك العبد بأنهم يتضايقون في أوقاتهم ويضايقون العبد في كثرة العمل ، فهو أبداً ناصب ، فكذلك عابد الأوثان الذي يعتقد أن ضره ونفعه عندها هو معذب الفكر بها وبحراسة حاله منها ، ومتى أرضى صنماً منها بالذبح له في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر ، فهو أبداً تعب في ضلال ، وكذلك هو المصانع للناس الممتحن بخدمة الملوك ، ومثل تعالى المؤمن بالله وحده بعبد لرجل واحد يكلفه شغله فهو يعمله على تؤدته وقد ساس مولاه ، فالمولى يغفر زلته ويشكره على إعادة عمله .
وقوله : { ضرب } مأخوذ من الضريب الذي هو الشبيه ، ومنه قولهم : هذا ضرب هذا ، أي شبهه . و : { مثلاً } مفعول ب { ضرب } ، و : { رجلاً } نصب على البدل . قال الكسائي : وإن شئت على إسقاط الخافض . أي مثلاً لرجل أو في رجل ، وفي هذا نظر ، و : { متشاكسون } معناه : لا سمح في أخلاقهم بل فيها لجاج ومتابعة ومحادقة ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
خلقت شكساً للأعادي مشكسا . . .
من شاء من حر الجحيم استقبسا . . .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «سالماً » ، على اسم الفاعل بمعنى سلم من الشركة فيه . قال أبو عمرو معناه : خالصاً ، وهذه بالألف قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والجحدري والزهري والحسن بخلاف عنه . وقرأ الباقون : «سَلَماً » ، بفتح السين اللام ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة وأبي رجاء وطلحة والحسن بخلاف . وقرأ سعيد بن جبير : «سِلْماً » ، بكسر السين وسكون اللام ، وهما مصدران وصف بهما الرجل بمعنى خالصة وأمر قد سلم له
ثم وقف الكفار بقوله : { هل يستويان مثلاً } ونصب { مثلاً } على التمييز ، وهذا توقيف لا يجيب عنه أحد إلا بأنهما لا يستويان ، فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد جاوبوا ، فقال : { الحمد لله } أي على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم . ثم قال تعالى : { بل أكثرهم لا يعلمون } فأضرب عن مقدر محذوف يقتضيه المعنى ، تقديره : الحمد لله على ظهور الحجة ، وأن الأمر ليس كما يقولون { بل أكثرهم لا يعلمون } . و «أكثر » في هذه الآية على بابها ، لأنا وجدنا الأقل علم أمر التوحيد وتكلم به ورفض الأصنام كورقة وزيد وقس .
استئناف وهو من قبيل التعرض إلى المقصود بعد المقدمة فإن قوله : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } [ الروم : 58 ] توطئة لهذا المثل المضروب لحال أهل الشرك وحال أهل التوحيد ، وفي هذا الانتقال تخلص أُتبع تذكيرهم بما ضرب لهم في القرآن من كل مثل على وجه إجماللِ العموم استقصاءً في التذكير ومعاودة للإِرشاد ، وتخلصاً من وصف القرآن بأن فيه من كل مثل ، إلى تمثيل حال الذين كفروا بحاللٍ خاص .
فهذا المثل متصل بقوله تعالى : { أفَمَن شرَحَ الله صدرَهُ للإسلامِ } إلى قوله : { أُولئِكَ في ضَلاللٍ مُبينٍ } [ الزمر : 22 ] ، فهو مثل لحال من شرح الله صدرهم للإِسلام وحال من قَست قلوبهم .
ومجيء فعل { ضَرَبَ الله } بصيغة الماضي مع أن ضَرْب هذا المثل ما حصل إلا في زمن نزول هذه الآية لتقريب زمن الحال من زمن الماضي لقصد التشويق إلى علم هذا المثل فيجعل كالإِخبار عن أمر حصل لأن النفوس أرغب في علمه كقول المثوِّب : قد قامت الصلاة . وفيه التنبيه على أنه أمر محقق الوقوع كما تقدم عند قوله تعالى : { وضرب اللَّه مثلاً قرية } في سورة [ النحل : 112 ] .
أما صاحب « الكشاف » فجعل فِعل { ضرب } مستعملاً في معنى الأمر إذ فسره بقوله : اضرِبْ لهم مثلاً وقُل لهم ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء ، إلى آخر كلامه ، فكان ظاهر كلامه أن الخبر هنا مستعمل في الطلب ، فقرره شارحوه الطيبي والقزويني والتفتزاني بما حاصل مجموعه : أنه أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع قوله : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرءان من كُلّ مثلٍ } [ الزمر : 27 ] عَلِم أنه سينزل عليه مَثَل من أمثال القرآن فأنبأه الله بصدق ما عَلمه وجعَله لتحققه كأنه ماض .
وليلائم توجيه الاستفهام إليهم بقوله : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مثلاً } ( فإنه سؤال تبكيت ) فتلتئم أطراف نظم الكلام ، فعُدل عن مقتضى الظاهر من إلقاء ضرب المثل بصيغة الأمر إلى إلقائه بصيغة المضيّ لإِفادة صدق علم النبي صلى الله عليه وسلم وكل هذا أدق معنى وأنسب ببلاغة القرآن مِن قول من جعل المضي في فعل { ضَرَب } على حقيقته وقال : إن معناه : ضرب المثل في علمه فأخبِرْ به قومك .
فالذي دعا الزمخشري إلى سلوك هذا المعنى في خصوص هذه الآية هو رعي مناسبات اختص بها سياق الكلام الذي وقعت فيه ، ولا داعي إليه في غيرها من نظائر صيغتها مما لم يوجد لله فيه مقتضضٍ لِنحو هذا المحمل ، ألا ترى أنه لا يتأتى في نحو قوله : { ألم تر كيف ضرب اللَّه مثلاً كلمة } كما في سورة [ إبراهيم : 24 ] ، وقد أشرنا إليه عند قوله : { وضرب اللَّه مثلاً قرية } في سورة [ النحل : 112 ] .
وقد يقال فيه وفي نظائره : إن العدول عن أن يصاغ بصيغة الطلب كما في قوله : { واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية } [ يس : 13 ] ، { واضرب لهم مثلاً رجلين } [ الكهف : 32 ] { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا } [ الكهف : 45 ] إلى أن صيغ بصيغة الخبر هو التوسل إلى إسناده إلى الله تنويهاً بشأن المثل كما أشرنا إليه في سورة النحل .
وإسناد ضَرْب المثل إلى الله لأنه كوَّن نظمه بدون واسطة ثم أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فالقرآن كلّه من جَعْل الله سواء في ذلك أمثاله وغيرها ، وهو كله مأمور رسوله صلى الله عليه وسلم بتبليغه ، فكأنه قال له : ضَرب الله مثلاً فاضْرِبه للناس وبيَّنْه لهم ، إذ المقصود من ضرب هذا المثل محاجّة المشركين وتبكيتهم به في كشف سوء حالتهم في الإِشراك ، إذ مقتضى الظاهر أن يجري الكلام على طريقة نظائره كقوله : { واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية } [ يس : 13 ] ، وكذلك ما تقدم من الأمر في نحو قوله : { قُلْ هل يَسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] ، { قُلْ يا عِبَادِ الذينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُم } [ الزمر : 10 ] ، { قُلْ إني أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ الله } [ الزمر : 11 ] ، { قُلِ الله أعْبُد } [ الزمر : 14 ] ، { قُلْ إنَّ الخاسِرِينَ } [ الزمر : 15 ] ، { فَبَشّرْ عِبَادِ } [ الزمر : 17 ] .
وقد يُتطلب وجهه التفرقة بين ما صيغ بصيغة الخبر وما صيغ بصيغة الطلب فنفرق بين الصنفين بأن ما صيغ بصيغة الخبر كان في مقاممٍ أهمَّ لأنه إمّا تمثيل لإِبطال الإِشراك ، وإمّا لوعيد المشركين ، وإمّا لنحو ذلك ، خلافاً لما صيغ بصيغة الخبر فإنه كائن في مقام العبرة والموعظة للمسلمين أو أهل الكتاب ، وهذا ما أشرنا إليه إجمالاً في سورة النحل . وقوله : { رَّجُلاً فيهِ شُرَكَاءُ } وما بعده في موضع البيان ل { مَثَلاً } .
وجَعْل الممثَّل به حالة رجل ليس للاحتراز عن امرأة أو طفل ولكن لأن الرجل هو الذي يسبق إلى أذهان الناس في المخاطبات والحكايات ، ولأن ما يراد من الرجل من الأعمال أكثر مما يراد من المرأة والصبيّ ، ولأن الرجل أشدّ شعوراً بما هو فيه من الدعة أو الكدّ ، وأما المرأة والصبي فقد يغفلان ويلهيان .
وجملة { فِيهِ شُرَكَاءُ } نعت ل { رَّجُلاً } ، وتقديم المجرور على { شُرَكَاءُ } لأن خبر النكرة يحسن تقديمه عليها إذا وصفت ، فإذا لم توصف وجب تقديم الخبر لكراهة الابتداء بالنكرة . ومعنى { فِيهِ شُرَكَاءُ } : في ملكه شركاء .
والتشاكس : شدة الاختلاف ، وشدّة الاختلاف في الرجل الاختلاف في استخدامه وتوجيهه .
وقرأ الجمهور { سَلَماً } بفتح السين وفتح اللام بعدها ميم وهو اسم مصدر : سَلِم له ، إذا خَلَص . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب { سالماً بصيغة اسم الفاعل وهو من : سَلِم ، إذا خلص ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ولا وجه له ، والحق أنهما سواء كما أيده النحّاس وأبو حاتم ، والمعنى : أنه لا شركة فيه للرجل . وهذا تمثيل لحال المشرك في تقسّم عقله بين آلهة كثيرين فهو في حيرة وشك من رضى بعضهم عنه وغضب بعض ، وفي تردد عبادته إن أرضى بها أحدَ آلهته ، لعله يُغضب بها ضده ، فرغباتهم مختلفة وبعض القبائل أولى ببعض الأصنام من بعض ، قال تعالى : { ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون : 91 ] ، ويبقى هو ضائعاً لا يدري على أيهم يعتمد ، فوهمه شَعاع ، وقلبه أوزاع ، بحال مملوك اشترك فيه مالكون لا يخلون من أن يكون بينهم اختلاف وتنازع ، فهم يتعاورونه في مهن شتّى ويتدافعونه في حوائجهم ، فهو حيران في إرضائهم تَعبان في أداء حقوقهم لا يستقل لحظة ولا يتمكن من استراحة .
ويقابله تمثيل حال المسلم الموحّد يقوم بما كلّفه ربه عارفاً بمرضاته مؤملاً رضاه وجزاءه ، مستقرَّ البال ، بحال العبد المملوك الخالص لمالك واحد قد عرف مراد مولاه وعلم ما أوجبه عليه ففهمُه واحد وقلبه مجتمع .
وكذلك الحال في كل متّبع حق ومتبع باطل فإن الحق هو الموافق لما في الوجود والواقع ، والباطلَ مخالف لما في الواقع ، فمتبع الحق لا يعترضه ما يشوش عليه بالَه ولا ما يثقل عليه أعماله ، ومتبع الباطل يتعَثر به في مزالق الخُطَى ويتخبط في أعماله بين تناقض وخَطأ .
ثم قال : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } ، أي هل يكون هذان الرجلان المشبهان مستويين حالاً بعد ما علمتم من اختلاف حالي المشبهين بهما . والاستفهام في قوله : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } يجوز أن يكون تقريرياً ، ويجوز أن يكون إنكارياً ، وجيء فيه ب { هَلْ } لتحقيق التقرير أو الإِنكار . وانتصب { مَثَلاً } على التمييز لنسبة { يَسْتَوِيَانِ } .
والمثل : الحال . والتقدير : هل يستوي حالاهما ، والاستواء يقتضي شيئين فأكثر ، وإنما أفرد التمييز المراد به الجنس ، وقد عرف التعدد من فاعل { يَسْتَوِيَانِ } ولو أسند الفعل إلى ما وقع به التمييز لقيل : هل يستوي مثلاهما .
وجملة { الحَمْدُ لله } يجوز أن تكون جواباً للاستفهام التقريري بناء على أن أحد الظرفين المقرر عليهما محقق الوقوع لا يسع المقررَ عليه إلا الإِقرار به ، فيقَدَّرون : أنهم أقروا بعدم استوائهما في الحالة ، أي بأن أحدهما أفضل من الآخر ، فإن مثل هذا الاستفهام لا ينتظِر السائل جواباً عنه ، فلذلك يصح أن يتولى الجواب عنه قبلَ أن يجيب المسؤول كقوله تعالى : { عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم } [ النبأ : 1 2 ] ، وقد يبنى على أن المسؤول اعترف فيؤتى بما يناسب اعترافه كما هنا ، فكأنهم قالوا : لا يستويان ، وذلك هو ما يبتغيه المتكلم من استفهامه ، فلما وافق جوابهم بغية المستفهم حمد الله على نهوض حجته ، فتكون الجملة استئنافاً ، فموقعها كموقع النتيجة بعد الدليل ، وتكون جملة { بل أكثرهم لا يعلمون } قرينة على أنهم نزّلوا منزلة مَن علم فأقر وأنهم ليسوا كذلك في نفس الأمر ، ويجوز أن تكون معترضة إذا جعل الاستفهام إنكارياً فتكون معترضة بين الإنكار وبين الإضراب الانتقالي في قوله { بل أكثرهم لا يعلمون } أي لا يعلمون عدم استواء الحالتين ولو علموا لاختاروا لأنفسهم الحسنى منهما ، ولَمَا أصرُّوا على الإِشراك .
وأفاد هذا أن ما انتحلوه من الشرك وتكاذيبه لا يمتّ إلى العلم بصلة فهو جهالة واختلاق . و { بل } للإِضراب الانتقالي . وأسند عدم العلم لأكثرهم لأن أكثرهم عامة أتباعٌ لزعمائهم الذين سنُّوا لهم الإِشراك وشرائعَه انتفاعاً بالجاه والثناء الكاذب بحيث غَشَّى ذلك على عملهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ضرب الله مثلا} وذلك أن كفار قريش دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملة آبائه وإلى عبادة اللات والعزى ومناة، فضرب لهم مثلا ولآلهتهم مثلا الذين يعبدون من دون الله عز وجل، فقال: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون} يعني مختلفين يملكونه جميعا.
{ورجلا سلما لرجل} يعني خالصا لرجل لا يشركه فيه أحد، يقول: فهل يستويان؟ يقول: هل يستوي من عبد آلهة شتى مختلفة يعني الكفار، والذي يعبد ربا واحدا يعني المؤمنين؟ فذلك قوله:
{هل يستويان مثلا} فقالوا: لا يعني هل يستويان في الشبه.
فخصمهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قل {الحمد لله} حين خصمهم.
{بل أكثرهم لا يعلمون} توحيد ربهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: مثّل الله مثلاً للكافر بالله الذي يعبد آلهة شَتّى، ويطيع جماعة من الشياطين، والمؤمن الذي لا يعبُد إلا الله الواحد، يقول تعالى ذكره: ضرب الله مثلاً لهذا الكافر "رجلاً فيه شركاء". يقول: هو بين جماعة مالكين متشاكسين، يعني مختلفين متنازعين، سيئة أخلاقهم، من قولهم: رجل شَكس: إذا كان سيئ الخلق، وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه ومِلْكه فيه، "ورجلاً سَلَما لرجل"، يقول: ورجلاً خُلُوصا لرجل يعني المؤمن الموحد الذي أخلص عبادته لله، لا يعبد غيره ولا يدين لشيء سواه بالربوبية.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: "وَرَجُلاً سَلَما "فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة والبصرة: «وَرَجُلاً سالِمَا» وتأوّلوه بمعنى: رجلاً خالصا لرجل... عن ابن عباس أنه قرأها: «سالِمَا لِرَجُلٍ» يعني بالألف، وقال: ليس فيه لأحد شيء.
وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة: "وَرَجُلاً سَلَما لِرَجُلٍ" بمعنى: صلحا.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن السّلَم مصدر من قول القائل: سَلِيم فلان لله سَلَما بمعنى: خَلَص له خُلوصا... وأما الذي توهمه من رغب من قراءة ذلك سَلَما من أن معناه صلحا، فلا وجه للصلح في هذا الموضع، لأن الذي تقدم من صفة الآخر، إنما تقدّم بالخبر عن اشتراك جماعة فيه دون الخبر عن حربه بشيء من الأشياء، فالواجب أن يكون الخبر عن مخالفه بخلوصه لواحد لا شريك له، ولا موضع للخبر عن الحرب والصلح في هذا الموضع... وقوله: "هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً" يقول تعالى ذكره: هل يستوي مثلُ هذا الذي يخدمُ جماعة شركاء سيئة أخلاقهم مختلفة فيه لخدمته مع منازعته شركاءه فيه والذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه منازع إذا أطاعه عرف له موضع طاعته وأكرمه، وإذا أخطأ صفح له عن خطئه، يقول: فأيّ هذين أحسن حالاً وأروح جسما وأقلّ تعبا ونصبا؟...
وقوله: "الحَمْدِ لِلّهِ" يقول: الشكر الكامل، والحمدُ التامّ لله وحده دون كلّ معبود سواه.
وقوله: "بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ" يقول جل ثناؤه: وما يستوي هذا المشترك فيه، والذي هو منفرد ملكه لواحد، بل أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون أنهما لا يستويان، فهم بجهلهم بذلك يعبدون آلهة شتى من دون الله. وقيل: "هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً" ولم يقل: مثلين لأنهما كلاهما ضُربا مثلاً واحدا، فجرى المثل بالتوحيد...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يشبه أن يكون ما ذكر من المثل لرجُلين هو مثل للبشر كله المسلمين والكافرين، ثم يحتمل الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون: أي يتشاكسون في نسبه؛ أو يتشاكسون في المُلك فيه، وإن كان المُلك لرجل واحد أو النّسب سالما له، يصل إلى كل ما هو حق له، ويكون محفوظا في نفسه معروفا، فيكون مثل الذي فيه شركاء متشاكسون، هو الذي يعبد الشيطان أو الأصنام أو هوى النفس؛ يدعوه كل شيطان إلى غير الذي دعاه الآخر، وكذا الهوى يدعو صاحبه مرة إلى كذا ومرة إلى غير ذلك، فهو كالذي فيه شركاء متشاكسون، يدّعيه هذا وهذا فيبقى متحيِّرا، والذي يعبد الله الحق الذي تثبت ألوهيته بالحجج والآيات كالرجل السالم الواحد: يكون أبدا على حالة واحدة مطيعا له خالصا له.
{هل يستويان مثلا} وقد رأوا أنهما قد استويا في هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهما، وفيه دلالة البعث.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
واضرب لقومك مثلاً، وقل لهم: ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع: كل واحد منهم يدعي أنه عبده، فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهن شتى ومشادة، وإذا عنت له حاجة تدافعوه، فهو متحير في أمره سادر قد تشعبت الهموم قلبه وتوزعت أفكاره، لا يدري أيهم يُرضي بخدمته؟ وعلى أيهم يعتمد في حاجاته. وفي آخر: قد سلم لمالك واحد وخلص له، فهو معتنق لما لزمه من خدمته، معتمد عليه فيما يصلحه، فهمه واحد وقلبه مجتمع، أيُّ هذين العبدين أحسن حالاً وأجمل شأناً؟ والمراد: تمثيل حال من يثبت آلهة شتى، وما يلزمه على قضية مذهبه من أن يدعي كل واحد منهم عبوديته، ويتشاكسوا في ذلك ويتغالبوا، كما قال تعالى: {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] ويبقى هو متحيراً ضائعاً لا يدري أيهم يعبد؟ وعلى ربوبية أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ وممن يلتمس رفقه؟ فهمه شعاع وقلبه أوزاع. وحال من لم يثبت إلا إلها واحداً، فهو قائم بما كلفه، عارف بما أرضاه وما أسخطه، متفضل عليه في عاجله، مؤمل للثواب من آجله...
{الحمد للَّهِ} الواحد الذي لا شريك له دون كل معبود سواه، أي: يجب أن يكون الحمد متوجهاً إليه وحده والعبادة، فقد ثبت أنه لا إله إلاّ هو {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فيشركون به غيره.
اعلم أنه تعالى لما بالغ في شرح وعيد الكفار أردفه بذكر مثل ما يدل على فساد مذهبهم وقبح طريقتهم فقال: {ضرب الله مثلا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المتشاكسون المختلفون العسرون يقال شكس يشكس شكوسا وشكسا إذا عسر.
المسألة الثالثة: هذا مثل ضرب في غاية الحسن في تقبيح الشرك وتحسين التوحيد فإن قيل: هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام؛ لأنها جمادات، فليس بينها منازعة ولا مشاكسة، قلنا إن عبدة الأصنام مختلفون: منهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة، فهم في الحقيقة إنما يعبدون الكواكب السبعة، ثم إن القوم يثبتون بين هذه الكواكب منازعة ومشاكسة، ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكية، والقائلون بهذا القول زعموا أن كل نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلق بروح من الأرواح السماوية... فثبت أن هذا المثال مطابق للمقصود...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أقام سبحانه الدليل المنير على التفاوت العظيم، بين من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يدعو الله مخلصاً له الدين وبين من يدعو لله أنداداً، وختم بضرب الأمثال، وكانت الأمثال أبين فيما يراد من الأحوال، قال منبهاً على عظمتها بلفت القول عن مظهر العظمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال: {ضرب الله} أي الملك الأعظم المتفرد بصفات الكمال.
{مثلاً} لهذين الرجلين مع أنه لا يشك ذو عقل أن المشرك لا يداني المخلص فضلاً عن أن يقول: إن المشرك أعظم كما يقوله المشركون.
ولما كان الذكر أقوى من الأنثى، وأعرف بمواقع النفع والضر، وكان كونه بالغاً أعظم لقوته وأشد لشكيمته، فيكون أنفى للعار عن نفسه، وأدفع للظلم عن جانبه وأذب عن حماه، قال مبيناً للمثل مشيراً إلى تبكيت الكفار ورضاهم لأنفسهم بما لا يرضاه لنفسه أدنى الأرقاء.
ولما كانت معبوداتهم -لكونها من جملة المخلوقات- كثيرة الأشباه والنظائر، عبر عنها بجمع الكثرة فقال: {شركاء}.
{هل يستويان} أي الرجلان يكون أحدهما مساوياً للآخر بوجه من الوجوه ولو بغاية الجهد والعناية.
ولما كان الاستواء مبهماً قال: {مثلاً} أي من جهة المثل، أي هل يستوي مثلهما أي يجمعهما مثل واحد، حتى أن يكونا هما متساويين، فهو تمييز محول في الأصل عن الفاعل، والجواب في هذا الاستفهام الإنكاري قطعاً: لا سواء، بل مثل الرجل السالم في غاية الحسن، فكذا ممثوله وهو القانت المخلص، ومثل الرجل الذي وقع فيه التشاكس في غاية القبح فكذا ممثوله وهو الداعي للأنداد.
ولما علم بهذا المثل المضروب للرجلين سفول المشترك وهو الداعي للأنداد، وعلو السالم وهو القانت، ظهر بذلك بلا ريب حقارة المتشاركين وجلالة المتفرد وهو الله، فأنتج قطعاً قوله: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال.
{لله} الذي لا مكافئ له، يعلم ذلك كل أحد لما له من الظهور لما عليه من الدلائل، فلا يصح أن يكون له شريك.
{بل أكثرهم} أي الناس {لا يعلمون} لأنهم يعملون لما لا يليق بهذا العلم فيشركون به إما جلياً وإما خفياً، ويجوز أن يقال: له الكمال كله، فليس الملتفتون إلى غيره أدنى التفات علماء، بل لا علم لهم أصلاً، وهم المشركون شركاً جلياً، وأما أصحاب الشرك الخفي فهم، وإن كان لهم علم -فليس بكامل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا المثل يصور حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال. فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى، لأن بصره أبداً معلق بنجم واحد على الأفق فلا يلتوي به الطريق. ولأنه يعرف مصدراً واحداً للحياة والقوة والرزق، ومصدراً واحداً للنفع والضر، ومصدراً واحداً للمنح والمنع، فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد، يستمد منه وحده، ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته. ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره. ويخدم سيداً واحداً يعرف ماذا يرضيه فيفعله وماذا يغضبه فيتقيه.. وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد، فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد في السماء...
. ويعقب على هذا المثل الناطق الموحي، بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة والاستقرار. وهم مع هذا ينحرفون، وأكثرهم لا يعلمون.. وهذا مثل من الأمثلة التي يضربها القرآن للناس لعلهم يتذكرون. وهو قرآن عربي، مستقيم، واضح، لا لبس فيه ولا عوج ولا انحراف. يخاطب الفطرة بمنطقها القريب المفهوم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف وهو من قبيل التعرض إلى المقصود بعد المقدمة فإن قوله: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} توطئة لهذا المثل المضروب لحال أهل الشرك وحال أهل التوحيد، وفي هذا الانتقال تخلص أُتبع تذكيرهم بما ضرب لهم في القرآن من كل مثل على وجه إجمالِ العموم استقصاءً في التذكير ومعاودة للإِرشاد، وتخلصاً من وصف القرآن بأن فيه من كل مثل، إلى تمثيل حال الذين كفروا بحالٍ خاص.
ومجيء فعل {ضَرَبَ الله} بصيغة الماضي مع أن ضَرْب هذا المثل ما حصل إلا في زمن نزول هذه الآية لتقريب زمن الحال من زمن الماضي لقصد التشويق إلى علم هذا المثل فيجعل كالإِخبار عن أمر حصل لأن النفوس أرغب في علمه كقول المثوِّب: قد قامت الصلاة. وفيه التنبيه على أنه أمر محقق الوقوع كما تقدم عند قوله تعالى: {وضرب اللَّه مثلاً قرية} في سورة [النحل: 112]
وجَعْل الممثَّل به حالة رجل ليس للاحتراز عن امرأة أو طفل ولكن لأن الرجل هو الذي يسبق إلى أذهان الناس في المخاطبات والحكايات، ولأن ما يراد من الرجل من الأعمال أكثر مما يراد من المرأة والصبيّ، ولأن الرجل أشدّ شعوراً بما هو فيه من الدعة أو الكدّ، وأما المرأة والصبي فقد يغفلان ويلهيان.
وجملة {فِيهِ شُرَكَاءُ} نعت ل {رَّجُلاً}، وتقديم المجرور على {شُرَكَاءُ} لأن خبر النكرة يحسن تقديمه عليها إذا وصفت، فإذا لم توصف وجب تقديم الخبر لكراهة الابتداء بالنكرة. ومعنى {فِيهِ شُرَكَاءُ}: في ملكه شركاء.
وجملة {الحَمْدُ لله} يجوز أن تكون جواباً للاستفهام التقريري بناء على أن أحد الظرفين المقرر عليهما محقق الوقوع لا يسع المقررَ عليه إلا الإِقرار به، فيقَدَّرون: أنهم أقروا بعدم استوائهما في الحالة، أي بأن أحدهما أفضل من الآخر، فإن مثل هذا الاستفهام لا ينتظِر السائل جواباً عنه، فلذلك يصح أن يتولى الجواب عنه قبلَ أن يجيب المسؤول كقوله تعالى: {عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم} [النبأ: 1 2]، وقد يبنى على أن المسؤول اعترف فيؤتى بما يناسب اعترافه كما هنا، فكأنهم قالوا: لا يستويان، وذلك هو ما يبتغيه المتكلم من استفهامه، فلما وافق جوابهم بغية المستفهم حمد الله على نهوض حجته، فتكون الجملة استئنافاً، فموقعها كموقع النتيجة بعد الدليل، وتكون جملة {بل أكثرهم لا يعلمون} قرينة على أنهم نزّلوا منزلة مَن علم فأقر وأنهم ليسوا كذلك في نفس الأمر، ويجوز أن تكون معترضة إذا جعل الاستفهام إنكارياً فتكون معترضة بين الإنكار وبين الإضراب الانتقالي في قوله {بل أكثرهم لا يعلمون} أي لا يعلمون عدم استواء الحالتين ولو علموا لاختاروا لأنفسهم الحسنى منهما، ولَمَا أصرُّوا على الإِشراك.
وأفاد هذا أن ما انتحلوه من الشرك وتكاذيبه لا يمتّ إلى العلم بصلة فهو جهالة واختلاق. و {بل} للإِضراب الانتقالي. وأسند عدم العلم لأكثرهم لأن أكثرهم عامة أتباعٌ لزعمائهم الذين سنُّوا لهم الإِشراك وشرائعَه انتفاعاً بالجاه والثناء الكاذب بحيث غَشَّى ذلك على عملهم.
هذا مَثَل ضربه الله لبيان قضية التوحيد، ويوضح من خلاله الفرق بين عبد لسيد واحد، وعبد لعدة أسياد، وهذه صورة مكوَّنة من عدة عناصر، فالرجل مملوك لشركاء، وليْتهم متفقون على شيء، إنما متشاكسون مختلفون، كل منهم يأمر بشيء، فإنْ أرضى هذا أغضب ذاك، وإنْ أطاع سيداً عصى الآخر.
إذن: كيف يبدد نفسه؟ وكيف له أن يستريح فهو دائما في حيرة من أمره؟ أما الآخر، فعبدٌ لسيد واحد، أمره واحد، وهو مرتبط بسيده، قاصرٌ خدمته عليه.
{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً..} [الزمر: 29] ويترك الحق سبحانه لك أنْ تجيب أنت على هذا التساؤل {هَلْ يَسْتَوِيَانِ..} [الزمر: 29] لا نملك إلا أنْ نقول: لا يستويان أبداً، ونُقِر نحن بهذه الحقيقة، وهذا هو مقصد القرآن أنْ نُقِر نحن بها، لا أن تُلقى إلينا كخبر من الله تعالى، وهذا الذي نحكم به يقوله كلُّ عاقل، ولا يردّه أحد.
فالعبد المملوك لسيِّد واحد، كمَنْ آمن بالله تعالى وأخلص له العبادة وحده سبحانه، والعبد المملوك لشركاء متشاكسين مثال للعبد الذي أشرك مع الله في العبادة، وعليك أنت أنْ تعتبر.
وقوله سبحانه: {الْحَمْدُ للَّهِ..} [الزمر: 29] أي: الحمد لله على أنْ ضرب لنا الأمثال، وأوضح لنا الأمورَ لنأخذ المعقول المعنوي بالمُحَسِّ المادي، فالذي يعبد الله وحده لا شريك له يعيش مرتاحَ البال، هادئ النفس، مطمئن القلب، على خلاف مَنْ يعبد آلهةً متعددة، فهو مشتّتُ النفس، غير مستقر البال، إنْ أرضى سيداً أغضب الآخر، وليس لديه القوة التي تعينه على إرضاء الجميع.
فالحمد لله الذي نزَّل القرآن عربياً، لا عِوَجَ فيه، والحمد لله الذي ضرب لنا فيه الأمثال التوضيحية التي تُقَرِّب ما تقف فيه العقول بالذي تتفق فيه العقول.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] أي: لا يعلمون هذه القضية، لا يعلمون أن الإيمانَ بالإله الواحد الحق والعبودية الخالصة له سبحانه فيها سعادة العبد وراحته، وأن العبوديةَ لآلهة شتى في شقاوة العبد وتعبه.
وهم لا يعلمون هذه الحقيقة لأنهم ما وضعوا قضية الإيمان بالربوبية موضعَ البحث العقلي، بل أخذوها هكذا بلا تأمُّل، المهم عنده أنْ يكون لهم إله ليس له أوامر ولا نواهٍ، إله بلا منهج وبلا تكاليف، وما أحسنَ هذا الإله الذي تأخذه على مزاجك، ووفقاً لهواك.
وقوله سبحانه: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] طمأن أهل الإيمان وأهل التوحيد، فهم وإنْ كانوا القلة إلا أنهم موجودون، فالخير لا يُعدم مهما كان قليلاً، ومن ذلك قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 13-14].
وقال في أصحاب اليمين: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 39-40] فالخير إذن في هذه الأمة.