{ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ } أيها الرائي ذلك اليوم العظيم { حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ } أي : قد قاموا في خدمة ربهم ، واجتمعوا حول عرشه ، خاضعين لجلاله ، معترفين بكماله ، مستغرقين بجماله . { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } أي : ينزهونه عن كل ما لا يليق بجلاله ، مما نسب إليه المشركون وما لم ينسبوا .
{ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : بين الأولين والآخرين من الخلق { بِالْحَقِّ } الذي لا اشتباه فيه ولا إنكار ، ممن عليه الحق . { وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } لم يذكر القائل من هو ، ليدل ذلك على أن جميع الخلق نطقوا بحمد ربهم وحكمته على ما قضى به على أهل الجنة وأهل النار ، حمد فضل وإحسان ، وحمد عدل وحكمة .
{ وترى الملائكة حافين } محدقين . { من حول العرش } أي حوله و { من } مزيدة أو لابتداء الحفوف . { يسبحون بحمد ربهم } ملتبسين بحمده . والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى ، والمعنى ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذا به ، وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق . { وقضي بينهم بالحق } أي بين الخلق بإدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة ، أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم . { وقيل الحمد لله رب العالمين } أي على ما قضي بيننا بالحق . والقائلون هم المؤمنون من المقضي بينهم أو الملائكة وطي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم .
ثم وصف حالة الملائكة من العرش وحفوفهم به ، وقال قوم : واحد { حافين } حاف . وقالت فرقة : لا واحد لقوله : { حافين } لأن الواحد لا يكون حافاً ، إذ الحفوف :الإحداق بالشيء ، وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف وهو الجانب ، ومنه قول الشاعر [ ابن هرمة ] : [ الطويل ]
له لحظات عن حفافي سريره . . . إذا كرها فيها عقاب ونائل{[9942]}
أي : عن جانبيه . وقالت فرقة : { من } في قوله : { من حول } زائدة ، والصواب أنها لابتداء الغاية .
وقوله : { يسبحون بحمد ربهم }{[9943]} قالت فرقة : معناه : أن تسبيحهم يتأتى بحمد الله وفضله . وقالت فرقة : تسبيحهم هو بترديد حمد الله وتكراره . قال الثعلبي : متلذذين لا متعبدين ولا مكلفين .
وقوله : { وقيل الحمد لله رب العالمين } ختم للأمر ، وقول جزم عند فصل القضاء ، أي إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه ، ومن هذه الآية جعلت { الحمد لله رب العالمين } خاتمة المجالس والمجتمعات في العلم . وقال قتادة : فتح الله أول الخلق بالحمد ، فقال : { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض }{[9944]} [ الأنعام : 1 ] وختم القيامة بالحمد في هذه الآية{[9945]} .
قال القاضي أبو محمد : وجعل الله { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 1 ] فاتحة كتابه ، فبه يبدأ كل أمر وبه يختم ، وحمد الله تعالى وتقديسه ينبغي أن يكون من المؤمن كما قال الشاعر : [ الطويل ]
وآخر شيء أنت في كل ضجعة . . . وأول شيء أنت عند هبوبي{[9946]}
{ وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } .
عطف على ما قبله من ذكر أحوال يوم القيامة التي عطف بعضها على بعض ابتداء من قوله تعالى : { ونُفِخَ في الصُّورِ فَصَعق مَن في السموات ومَن في الأرض } [ الزمر : 68 ] إن من جملة تلك الأحوال حَفّ الملائكة حول العرش .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم فيكون إيذاناً بأنها رؤية دنو من العرش وملائكته ، وذلك تكريم له بأن يكون قد حواه موكب الملائكة الذين حول العرش .
والحَفُّ : الإِحداق بالشيء والكون بجوانبه .
وجملة { يُسَبحون بحمد ربهم } حال ، أي يقولون أقوالاً تدل على تنزيه الله تعالى وتعظيمه مُلابِسَةً لحمدهم إياه . فالباء في { بحمد ربهم } للملابسة تتعلق ب { يسبحون } . وفي استحضار الله تعالى بوصف ربهم إيماء إلى أن قربهم من العرش ترفيع في مقام العبودية الملازمة للخلائق .
{ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق } .
تأكيد لجملة { وقُضِي بينهم بالحقِّ وهُم لا يُظلمون } [ الزمر : 69 ] المتقدمةِ .
{ وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين } .
يجوز أن يكون توكيداً لجملة { وقالوا الحَمْدُ لله الَّذي صَدَقنا وَعْده } [ الزمر : 74 ] . ويجوز أن يكون حكاية قول آخر لقائلين من الملائكة والرسل وأهل الجنة ، فهو أعم من القول المتقدم الذي هو قول المسُوقين إلى الجنة من المتقين ، فهذا قولهم يحمدون الله على عدل قضائه وجميع صفات كماله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وترى} يا محمد {الملائكة حافين من حول العرش} يعني تحت العرش.
{يسبحون بحمد ربهم} يعني يذكرونه بأمر ربهم.
{وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين}.
وذلك أن الله تبارك وتعالى افتتح الخلق بالحمد، وختم بالحمد، فقال: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض} [الأنعام:1]، وختم بالحمد حين قال: {وقضي بينهم بالحق} يعني العدل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وترى يا محمد الملائكة محدقين من حول عرش الرحمن، ويعني بالعرش: السرير... والمعنى: حافّين حول العرش...
"يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ": يصلون حول عرش الله شكرا له، والعرب تدخل الباء أحيانا في التسبيح، وتحذفها أحيانا، فتقول: سبح بحمد الله، وسبح حَمْدَ الله، كما قال جلّ ثناؤه: "سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَى"، وقال في موضع آخر: "فَسَبّحْ باسْم رَبّكَ العَظِيمِ". "وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحَقّ": وقضى الله بين النبيين الذين جيء بهم، والشهداء وأممها بالعدل، فأسكن أهل الإيمان بالله، وبما جاءت به رسله الجنة، وأهل الكفر به، وبما جاءت به رسله النار.
"وَقِيلَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالمِينَ": وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر للذي ابتدأ خلقهم الذي له الألوهية، ومُلك جميع ما في السموات والأرض من الخلق من ملك وجنّ وإنس، وغير ذلك من أصناف الخلق...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}: التسبيح عندنا بحمد ربهم، هو أن يسبّحوا بثناء ربهم وحمده، أي يبرّؤوه، وينزّهوه عن جميع معاني الخلق؛ بثناء وحمد يحمدونه، ويثنون عليه على ما ذكرنا في غير موضع.
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ}...قيل: بين الخلائق كلهم، وجائز أن يكون بين المؤمنين وأعدائهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الحفوف:الإحداق بالشيء، وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف وهو الجانب...
ومن هذه الآية جعلت {الحمد لله رب العالمين} خاتمة المجالس والمجتمعات في العلم...
وجعل الله {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 1] فاتحة كتابه، فبه يبدأ كل أمر وبه يختم.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فحذف فاعل القول، لأنه غير معين، بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم به، فيحمده أهل السموات وأهل الأرض: والأبرار، والفجار، والإنس والجن حتى أهل النار. قال الحسن وغيره: لقد دخلوا النار، وإن حمده لفي قلوبهم، ما وجدوا عليه سبيلا.
وهذا -والله أعلم- هو السر الذي حذف لأجله الفاعل في قوله: {قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها} [الزمر: 72]
وفي قوله: {وقيل ادخلا النار مع الداخلين} [التحريم: 10] كأن الكون كله نطق بذلك، وقاله لهم ذلك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر سبحانه الذين ركب فيهم الشهوات، وما وصلوا إليه من المقامات، أتبعهم أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات، فقال صارفاً الخطاب لعلو الخبر إلى أعلى الخلق أنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره: {وترى} معبراً بأخص من الإبصار الأخص من النظر، كما بين في البقرة في قوله تعالى {إن القوة لله جميعاً} [البقرة: 165]
{الملائكة} القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق {حافين} أي محدقين ومستديرين وطائفين في جموع لا يحصيها إلا الله، وإدخال {من} يفهم أنهم مع كثرتهم لا يملؤون ما حوله، حال كونهم {يسبحون بحمد}، وصرف القول إلى وصف الإحسان مدحاً لهم بالتشمير لشكر المنعم وتدريباً لغيرهم فقال: {ربهم} أي يبالغون في التنزيه عن النقص بأن يتوهم متوهم أنه محتاج إلى عرش أو غيره، وأن يحويه مكان متلبسين بإثبات الكمال للمحسن إليهم بإلزامهم بالعبادة من غير شاغل يشغلهم، ولا منازع من شهوة أو حظ يغفلهم، تلذذاً بذكره وتشرفاً بتقديسه؛ ولأن حقه إظهار تعظميه على الدوام كما أنه متصل الإنعام...
ولما تقدم ذكر الحكم بين أهل الشهوات بما برز عليهم من الشهادات، ذكر هنا الحكم بينهم وبين الملائكة الذين فاضوا في أصل خلقهم بقولهم {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} الآية فقال: {وقضى بينهم} أي بين أهل الشهوات وأهل العصمة والثبات.
ولما كان السياق عاماً في الترغيب والترهيب عدلاً وفضلاً، بخلاف سياق سورة يونس عليه السلام، قال: {بالحق} بأن طوبق بما أنزلنا فيهم في الكتب التي وضعناها لحسابهم الواقع، فمن طغى منهم أسكناه لظى بعدلنا، ومن اتقى نعمناه في جنة المأوى بفضلنا، لجهادهم ما فيهم من الشهوات حتى ثبتوا على الطاعات، مع ما ينزعهم من الطبائع إلى الجهالات، وأما الملائكة فأبقيناهم على حالهم في العبادات: {وقيل} أي من كل قائل: آخر الأمور كلها {الحمد} أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال، وعدل بالقول إلى ما هو حق بهذا المقام فقال: {لله} ذي الجلال والإكرام، علمنا ذلك في هذا اليوم علم، اليقين كما كنا في الدنيا نعلمه علم اليقين.
ولما كان ذلك اليوم أحق الأيام بمعرفة شمول الربوبية؛ لاجتماع الخلائق وانفتاح البصائر وسعة الضمائر، قال واصفاً له سبحانه بأقرب الصفات إلى الاسم الأعظم {رب العالمين} أي الذي ابتدأهم أولاً من العدم، وأقامهم ثانياً بما رباهم به من التدبير، وأعادهم ثالثاً بعد إفنائهم بأكمل قضاء وتقدير، وأبقاهم رابعاً لا إلى خير، فقد حقق وعده كما أنزل في كتابه وصدق وعيده لأعدائه كما قال في كتابه، فتحقق أنه تنزيله، فقد ختم الأمر بإثبات الكمال باسم الحمد عند دخول الجنان والنيران كما ابتدأ به عند ابتداء الخلق في أول الإنعام، فله الإحاطة بالكمال في أن الأمر كما قال كتابه على كل حال، فقد انطبق آخرها على أولها بأن الكتاب تنزيله لمطابقة كل ما فيه للواقع عندما يأتي تأويله، وبأن الكتاب الحامل على التقوى المسببة للجنة أنزل للإبقاء الأول، فمن أتبعه كان له سبباً للإبقاء الثاني، وهذا الآخر هو عين أول سورة غافر فسبحان من أنزله معجزاً نظامه، فائتاً القوى أول كل شيء منه وختامه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
والخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون لكل من تصح منه الرؤية كأنه قيل: وترى أيها الرائي الملائكة حافين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم فيكون إيذاناً بأنها رؤية دنو من العرش وملائكته، وذلك تكريم له بأن يكون قد حواه موكب الملائكة الذين حول العرش. والحَفُّ: الإِحداق بالشيء والكون بجوانبه.
وجملة {يُسَبحون بحمد ربهم} حال، أي يقولون أقوالاً تدل على تنزيه الله تعالى وتعظيمه مُلابسَةً لحمدهم إياه، فالباء في {بحمد ربهم} للملابسة تتعلق ب
{يسبحون}، وفي استحضار الله تعالى بوصف ربهم، إيماء إلى أن قربهم من العرش ترفيع في مقام العبودية الملازمة للخلائق.
{وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق} تأكيد لجملة {وقُضِي بينهم بالحقِّ وهُم لا يُظلمون} [الزمر: 69] المتقدمةِ.
{وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} يجوز أن يكون توكيداً لجملة {وقالوا الحَمْدُ لله الَّذي صَدَقنا وَعْده}، ويجوز أن يكون حكاية قول آخر لقائلين من الملائكة والرسل وأهل الجنة، فهو أعم من القول المتقدم الذي هو قول المسُوقين إلى الجنة من المتقين، فهذا قولهم يحمدون الله على عدل قضائه وجميع صفات كماله...