{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } عما قالوه من الطعن في المسلمين وفي دينهم ، يقول طائفة منهم في غزوة تبوك { ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعنون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- أرغب بطونا ، [ وأكذب ألسنا ] وأجبن عند اللقاء } ونحو ذلك .
ولما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قد علم بكلامهم ، جاءوا يعتذرون إليه ويقولون : { إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } أي : نتكلم بكلام لا قصد لنا به ، ولا قصدنا الطعن والعيب .
قال اللّه تعالى -مبينا عدم عذرهم وكذبهم في ذلك- : { قُلْ } لهم { أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *
إن النص عام في حذر المنافقين أن ينزل اللّه قرآناً يكشف خبيئتهم ، ويتحدث عما في قلوبهم ، فينكشف للناس ما يخبئونه . وقد وردت عدة روايات عن حوادث معينة في سبب نزول هذه الآيات .
قال أبو معشر المديني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : قال رجل من المنافقين : ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة ، وأجبننا عند اللقاء [ يقصدون قراء القرآن ] فرفع ذلك إلى رسول اللّه - [ ص ] - فجاء إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته ؛ فقال : يا رسول اللّه إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال : أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون ? إلى قوله : ( كانوا مجرمين ) وإن رجليه لتسفعان الحجارة ، وما يلتفت إليه رسول اللّه - [ ص ] - وهو متعلق بسيف رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم .
وقال محمد بن إسحاق : وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف ، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير يسيرون مع رسول اللّه - [ ص ] - وهو منطلق إلى تبوك ؛ فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً ? واللّه لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال . . إرجافاً وترهيباً للمؤمنين . فقال مخشي بن حمير : واللّه لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وأننا ننجوا أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه . وقال رسول اللّه - [ ص ] - فيما بلغني لعمار بن ياسر " أدرك القوم فإنهم قد احترقوا ، فاسألهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى قلتم كذا وكذا " فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول اللّه - [ ص ] - يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت ، ورسول اللّه - [ ص ] - واقف على راحلته ، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها : يا رسول اللّه إنما كنا نخوض ونلعب . فقال مخشي بن حمير : يا رسول اللّه قعد بي اسمي واسم أبي . فكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشي بن حمير ، فتسمى عبد الرحمن ، وسأل اللّه أن يقتل شهيدا لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : " بينما رسول اللّه - [ ص ] - في غزوته إلى تبوك ، وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا : أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها ? هيهات هيهات . فأطلع اللّه نبيه - [ ص ] - على ذلك . فقال النبي - [ ص ] - " احبسوا على هؤلاء الركب " فأتاهم فقال : " قلتم كذا . قلتم كذا " . قالوا : يا نبي اللّه إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل اللّه فيهم ما تسمعون .
إنما كنا نخوض ونلعب . . كأن هذه المسائل الكبرى التي يتصدون لها ، وهي ذات صلة وثيقة لأصل بأصل العقيدة . . كأن هذه المسائل مما يخاض فيه ويلعب . ( قل : أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ? ) .
قال أبو معشر المديني{[13596]} عن محمد بن كعب القُرَظي وغيره قالوا : قال رجل من المنافقين : ما أرى قُرّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا ، وأكذبنا ألسنة ، وأجبننا عند اللقاء . فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته ، فقال : يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب . فقال : { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } إلى قوله : { مجرمين } وإن رجليه لتنسفان{[13597]} الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متعلق بنسعة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس{[13598]} ما رأيت مثل قُرائنا هؤلاء ، أرغبَ بطونا ، ولا أكذبَ ألسنًا ، ولا أجبن عند اللقاء . فقال رجل في المسجد : كذبتَ ، ولكنك منافق . لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن . قال عبد الله بن عمر : وأنا رأيته متعلقا بحَقَب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تَنكُبُه{[13599]} الحجارة{[13600]} وهو يقول : يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } .
وقد رواه الليث ، عن هشام بن سعد ، بنحو من هذا{[13601]}
وقال ابن إسحاق : وقد كان جماعة من المنافقين منهم وَديعة بن ثابت ، أخو بني أمية بن زيد ، من بني عمرو بن عوف ، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له : مُخَشّن{[13602]} بن حُميّر يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جِلادَ بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا ؟ والله لكأنا بكم غدا مُقَرّنين في الحبال ، إرجافا وترهيبا للمؤمنين ، فقال مُخَشّن{[13603]}
بن حُمَيّر : والله لوددتُ أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وإما نَنْفَلتُ أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني- لعمار بن ياسر : " أدرك القوم ، فإنهم قد احترقوا ، فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ، قلتم كذا وكذا " . فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على راحلته ، فجعل يقول وهو آخذ بحَقَبها : يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب ، [ فأنزل الله ، عز وجل : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } ] {[13604]} فقال مُخَشّن{[13605]} بن حُمير : يا رسول الله ، قعد بي اسمي واسم أبي . فكان الذي عفي عنه في هذه الآية مُخَشّن{[13606]} بن حُمّير ، فتسمى{[13607]} عبد الرحمن ، وسأل الله أن يقتل{[13608]} شهيدا لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة ، فلم يوجد له أثر{[13609]} وقال قتادة : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } قال : فبينما النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وركب من المنافقين يسيرون بين يديه ، فقالوا : يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها . هيهات هيهات . فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا ، فقال : " عَليَّ بهؤلاء النفر " . فدعاهم ، فقال : " قلتم كذا وكذا " . فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب .
وقال عِكْرِمة في تفسير هذه الآية : كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول : اللهم ، إني أسمع آية أنا أعنَى بها ، تقشعر منها الجلود ، وتجيب منها القلوب ، اللهم ، فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك ، لا يقول أحد : أنا غسّلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت ، قال : فأصيب يوم اليمامة ، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره{[13610]}
وقوله { ولئن سألتهم } الآية ، نزلت على ما ذكر جماعة من المفسرين في وديعة بن ثابت وذلك ؟ أنه مع قوم من المنافقين كانا يسيرون في عزوة تبوك ، فقال بعضهم لبعض هذا يريد أن يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر هيهات هيهات ، فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ، وقال لهم قلتم كذا وكذا ، فقالوا { إنما كنا نخوض ونلعب } ، يريدون كنا مجدين ، وذكر ابن إسحاق أن قوماً منهم تقدموا النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم كأنكم والله غداً في الحبال أسرى لبني الأصفر إلى نحو هذا من القول ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر : «أدرك القوم فقد احترقوا وأخبرهم بما قالوا » ونزلت الآية{[5766]} ، وروي أن وديعة بن ثابت المذكور قال في جماعة من المنافقين : ما رأيت كقرائنا هؤلاء لا أرغب بطوناً ولا أكثر كذباً ولا أجبن عند اللقاء فعنفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المقالة فقالوا { إنما كما نخوض ونلعب } ، ثم أمره بتقريرهم { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون }{[5767]} وفي ضمن هذا التقرير وعيد ، وذكر الطبري عن عبد الله بن عمر أنه قال : رأيت قائل هذه المقالة وديعة متعلقاً بحقب{[5768]} ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول { إنما كنا نخوض ونلعب } والنبي يقول { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون }{[5769]} وذكر النقاش أن هذا المتعلق كان عبد الله بن أبي ابن سلول ، وذلك خطأ لأنه لم يشهد تبوك .
الظاهر أنّها معطوفة على جملة : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } [ التوبة : 62 ] أو على جملة { ومنهم الذين يؤذون النبي } [ التوبة : 61 ] ، فيكون المراد بجملة : { يحلفون بالله لكم } [ التوبة : 62 ] أنّهم يحلفون إن لم تسألهم . فالحلف الصادر منهم حلف على الأعمّ من براءتهم من النفاق والطعن ، وجواب السؤال عن أمور خاصّة يُتهمون بها جواب يراد منه أنّ ما صدر منهم ليس من جنس ما يُتّهمون به ، فإذا سئلوا عن حديث يجري بينهم يستراب منهم أجابوا بأنّه خوض ولعب ، يريدون أنّه استجمام للراحة بين أتعاب السفر لما يحتاجه الكادُّ عملاً شاقّاً من الراحة بالمزح واللعب . وروي أنّ المقصود من هذه الآية : أنّ ركباً من المنافقين الذين خرجوا في غزوة تبوك نفاقاً ، منهم : وديعةُ بن ثابت العَوْفي ، ومخشي بن حُمَيِّر الأشجعي ، حليف بني سَلِمة ، وقفوا على عَقَبَة في الطريق ينظرون جيش المسلمين فقالوا انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح حصون الشام هيهات هيهات فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن مناجاتهم فأجابوا « إنّما كنّا نخوض ونلعب » .
وعندي أنّ هذا لا يتّجه لأنّ صيغة الشرط مستقبلة فالآية نزلت فيما هو أعمّ ، ممّا يسألون عنه في المستقبل ، إخباراً بما سيجيبون ، فهم يسألون عمّا يتحدّثون في مجالسهم ونواديهم ، التي ذكرها الله تعالى في قوله : { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون } [ البقرة : 14 ] لأنّهم كانوا كثيري الإنفراد عن مجالس المسلمين . وحذف متعلّق السؤال لظهوره من قرينة قوله : { إنما كنا نخوض ونلعب } . والتقدير : ولئن سألتهم عن حديثهم في خلواتهم ، أعلم الله رسوله بذلك وفيه شيء من دلائل النبوءة . ويجوز أن تكون الآية قد نزلت قبل أن يسألهم الرسول ، وأنّه لمَّا سألهم بعدها أجابوا بما أخبرت به الآية .
والقصر للتعيين : أي ما تحدثْنا إلاّ في خوض ولعب دون ما ظننته بنا من الطعن والأذى .
والخوض : تقدّم في قوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } في سورة الأنعام ( 68 ) .
واللعب تقدّم في قوله : { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } في الأنعام ( 32 ) ، ولمّا كان اللعب يشمل الاستهزاء بالغير جاء الجواب عن اعتذارهم بقوله : كنتم تستهزءون } فلمّا كان اعتذارهم مبهماً ردّ عليهم ذلك إذ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم جواب الموقن بحالهم بعد أن أعلمه بما سيعتذرون به فقال لهم { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون } ، على نحو قوله تعالى : { فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة } [ الإسراء : 51 ] .
والاستفهام إنكاري توبيخي . وتقديم المعمول وهو { أبالله } على فعله العامل فيه لقصد قصر التعيين لأنّهم لما أتوا في اعتذارهم بصيغة قصر تعيين جيء في الردّ عليهم بصيغة قصر تعيين لإبطال مغالطتهم في الجواب ، فاعلمهم بأنّ لعبهم الذي اعترفوا به ما كان إلاّ استهزاء بالله وآياته ورسوله لا بغير أولئك ، فقصْر الاستهزاء على تعلّقه بمن ذكر اقتضى أنّ الاستهزاء واقع لا محالة لأنّ القصر قيد في الخبر الفعلي ، فيقتضي وقوعَ الفعل ، على ما قرّره عبد القاهر في معنى القصر الواقع في قول القائل : أنَا سعيتُ في حاجتك وأنّه يؤكّد بنحو : وحدي ، أوْ لا غيري ، وأنّه يقتضي وقوع الفعل فلا يقال : ما أنا قلت هذا ولا غيري ، أي ولا يقال : أنا سعيت في حاجتك وغيري ، وكذلك هنا لا يصحّ أن يفهم أبالله كنتم تستهزِئون أم لَمْ تكونوا مستهزئين .
والاستهزاء بالله وبآياته إلزام لهم : لأنّهم استهزأوا برسوله وبدينه ، فلزمهم الاستهزاء بالذي أرسله بآيات صدقه .