ثم لما كان في هذا الكلام نوع تزكية لنفسها ، وأنه لم يجر منها ذنب في شأن يوسف ، استدركت فقالت : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي } أي : من المراودة والهمِّ ، والحرص الشديد ، والكيد في ذلك . { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } أي : لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء ، أي : الفاحشة ، وسائرالذنوب ، فإنها مركب الشيطان ، ومنها يدخل على الإنسان { إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } فنجاه من نفسه الأمارة ، حتى صارت نفسه مطمئنة إلى ربها ، منقادة لداعي الهدى ، متعاصية عن داعي الردى ، فذلك ليس من النفس ، بل من فضل الله ورحمته بعبده .
{ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : هو غفور لمن تجرأ على الذنوب والمعاصي ، إذا تاب وأناب ، { رَحِيمٌ } بقبول توبته ، وتوفيقه للأعمال الصالحة ، . وهذا هو الصواب أن هذا من قول امرأة العزيز ، لا من قول يوسف ، فإن السياق في كلامها ، ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر .
وتمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة :
( وما أبريء نفسي ، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، إن ربي غفور رحيم ) . .
إنها امراة أحبت . امرأة تكبر الرجل الذي تعلقت به في جاهليتها وإسلامها ، فهي لا تملك إلا أن تظل معلقة بكلمة منه ، أو خاطرة ارتياح تحس أنها صدرت عنه !
وهكذا يتجلى العنصر الإنساني في القصة ، التي لم تسق لمجرد الفن ، إنما سيقت للعبرة والعظة . وسيقت لتعالج قضية العقيدة والدعوة . ويرسم التعبير الفني فيها خفقات المشاعر وانتفاضات الوجدان رسما رشيقا رفيقا شفيفا . في واقعة كاملة تتناسق فيها جميع المؤثرات وجميع الواقعيات في مثل هذه النفوس ، في ظل بيئتها ومؤثرات هذه البيئة كذلك .
وإلى هنا تنتهي محنة السجن ومحنة الاتهام ، وتسير الحياة بيوسف رخاء ، الاختبار فيه بالنعمة لا بالشدة .
وإلى هنا نقف في هذا الجزء من الظلال ، وتتابع القصة سيرها في الجزء التالي إن شاء الله .
انتهى الجزء الثاني عشر و يليه الجزء الثالث عشر مبدوءاً بقوله تعالى : وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي . . .
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي } تقول المرأة : ولست أبرئ نفسي ، فإن النفس تتحدث{[15204]} وتتمنى ؛ ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء ، { إِلا مَا{[15205]} رَحِمَ رَبِّي } أي : إلا من عصمه الله تعالى ، { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } {[15206]} .
وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام . وقد حكاه الماوردي في تفسيره ، وانتدب لنصره الإمام العلامة أبو العباس ابن تَيميَّة ، رحمه الله ، فأفرده بتصنيف على حدة{[15207]} وقد قيل : إن ذلك من كلام يوسف ، عليه السلام ، من قوله : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ } في زوجته { بِالْغَيْبِ } الآيتين أي : إنما رَدَدْتُ الرسول ليعلم الملك براءتي وليعلم العزيز { أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ } في زوجته { بِالْغَيْبِ } { وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ الآية ]{[15208]} وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : لما جمع الملك النسوة فسألهن : هل راودتن يوسف عن نفسه ؟ { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } قَالَ يُوسُفُ { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ] } {[15209]} قال : فقال له جبريل ، عليه السلام : ولا يوم هممت بما هممت به . فقال : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ }{[15210]} وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعكرمة ، وابن أبي الهُذَيل ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدي . والقول الأول أقوى وأظهر ؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ، ولم يكن يوسف ، عليه السلام ، عندهم ، بل بعد ذلك أحضره الملك .
وقوله تعالى : { وما أبرىء نفسي } الآية ، هذه أيضاً مختلف فيها هل هي من كلام يوسف أم من كلام المرأة ، حسب التي قبلها :
فمن قال من كلام يوسف روى في ذلك : عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما قال يوسف : { أني لم أخنه بالغيب } قال له جبريل : ولا حين هممت وحللت سراويلك{[6727]} ، وقال نحوه ابن عباس وابن جبير وعكرمة والضحاك . وروي أن المرأة قالت له ذلك ، قاله السدي ، وروي أن يوسف تذكر من تلقائه ما كان هم به فقال : { وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء } ، قاله ابن عباس أيضاً .
ومن قال : إن المرأة قالت { وما أبرىء نفسي } فوجه كلامها الاعتذار عن وقوعها فيما يقع فيه البشر من الشهوات ، كأنها قالت : وما هذا ببدع ولا ذلك نكير على البشر فأبرئ أنا منه نفسي ، والنفوس أمارات بالسوء مائلة إليه .
و { أمارة } بناء مبالغة ، و { ما } في قوله : { إلا ما رحم } مصدرية ، هذا قول الجمهور فيها ، وهو على هذا . استثناء منقطع ، أي إلا رحمة ربي{[6728]} ، ويجوز أن تكون بمعنى «من » ، هذا على أن تكون النفس يراد بها النفوس إذ النفس تجري صفة لمن يعقل كالعين والسمع ، كذا قال أبو علي ، فتقدير الآية : إلا النفوس التي يرحمها الله .
قال القاضي أبو محمد : وإذن النفس اسم جنس ، فصح أن تقع { ما } مكان «من » إذ هي كذلك في صفات من يعقل وفي أجناسه ، وهو نص في كلام المبرد ، وهو - عندي - معنى كلام سيبويه ، وهو مذهب أبي علي - ذكره في البغداديات .
ويجوز أن تكون { ما } ظرفية ، المعنى : أن النفس لأمارة بالسوء إلا مدة رحمة الله العبد وذهابه عن اشتهاء المعاصي .