96- هو الذي يشق غبش الصبح بضوء النهار ، ليسعى الأحياء إلى تحصيل أسباب حياتهم ، وجعل الليل ذا راحة للجسم والنفس ، وجعل سير الشمس والقمر بنظام دقيق يعرف به الناس مواقيت عباداتهم ومعاملاتهم .
ذلك النظام المحكم ، تدبير القادر المسيطر على الكون المحيط بكل شيء علماً{[62]} .
ولما ذكر تعالى مادة خلق الأقوات ، ذكر منته بتهيئة المساكن ، وخلقه كل ما يحتاج إليه العباد ، من الضياء والظلمة ، وما يترتب على ذلك من أنواع المنافع والمصالح فقال : { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ } أي : كما أنه فالق الحب والنوى ، كذلك هو فالق ظلمة الليل الداجي ، الشامل لما على وجه الأرض ، بضياء الصبح الذي يفلقه شيئا فشيئا ، حتى تذهب ظلمة الليل كلها ، ويخلفها الضياء والنور العام ، الذي يتصرف به الخلق في مصالحهم ، ومعايشهم ، ومنافع دينهم ودنياهم .
ولما كان الخلق محتاجين إلى السكون والاستقرار والراحة ، التي لا تتم بوجود النهار والنور { جَعَلَ } الله { اللَّيْلَ سَكَنًا } يسكن فيه الآدميون إلى دورهم ومنامهم ، والأنعام إلى مأواها ، والطيور إلى أوكارها ، فتأخذ نصيبها من الراحة ، ثم يزيل الله ذلك بالضياء ، وهكذا أبدا إلى يوم القيامة { و } جعل تعالى { الشمس وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } بهما تعرف الأزمنة والأوقات ، فتنضبط بذلك أوقات العبادات ، وآجال المعاملات ، ويعرف بها مدة ما مضى من الأوقات التي لولا وجود الشمس والقمر ، وتناوبهما واختلافهما - لما عرف ذلك عامة الناس ، واشتركوا في علمه ، بل كان لا يعرفه إلا أفراد من الناس ، بعد الاجتهاد ، وبذلك يفوت من المصالح الضرورية ما يفوت .
{ ذَلِكَ } التقدير المذكور { تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } الذي من عزته انقادت له هذه المخلوقات العظيمة ، فجرت مذللة مسخرة بأمره ، بحيث لا تتعدى ما حده الله لها ، ولا تتقدم عنه ولا تتأخر { الْعَلِيمُ } الذي أحاط علمه ، بالظواهر والبواطن ، والأوائل والأواخر .
ومن الأدلة العقلية على إحاطة علمه ، تسخير هذه المخلوقات العظيمة ، على تقدير ، ونظام بديع ، تحيُّرُ العقول في حسنه وكماله ، وموافقته للمصالح والحكم .
( فالق الإصباح ، وجعل الليل سكنا ، والشمس والقمر حسبانا . ذلك تقدير العزيز العليم )
إن فالق الحب والنوى هو فالق الإصباح أيضا ، وهو الذي جعل الليل للسكون ، وجعل الشمس والقمر محسوبة حركاتهما مقدرة دوراتهما . . مقدرا ذلك كله بقدرته التي تهيمن على كل شيء ، وبعلمه الذي يحيط بكل شيء .
وانفلاق الإصباح من الظلام حركة تشبه في شكلها انفلاق الحبة والنواة . وانبثاق النور في تلك الحركة ، كانبثاق البرعم في هذه الحركة . . وبينهما من مشابه الحركة والحيوية والبهاء والجمال سمات مشتركة ، ملحوظة في التعبير عن الحقائق المشتركة في طبيعتهما وحقيقتهما كذلك . .
وبين انفلاق الحب والنوى وانفلاق الإصباح وسكون الليل صلة أخرى . . إن الإصباح والإمساء ، والحركة والسكون ، في هذا الكون - أو في هذه الأرض - ذات علاقة مباشرة بالنبات والحياة .
إن كون الأرض تدور دورتها هذه حول نفسها أمام الشمس ؛ وكون القمر بهذا الحجم وبهذا البعد من الأرض ؛ وكون الشمس كذلك بهذا الحجم وهذا البعد وهذه الدرجة من الحرارة . . هي تقديرات من ( العزيز ) ذي السلطان القادر( العليم ) ذي العلم الشامل . . ولولا هذه التقديرات ما انبثقت الحياة في الأرض على هذا النحو ، ولما انبثق النبت والشجر ، من الحب والنوى . .
إنه كون مقدر بحساب دقيق . ومقدر فيه حساب الحياة ، ودرجة هذه الحياة ، ونوع هذه الحياة . . كون لا مجال للمصادفة العابرة فيه - وحتى ما يسمونه المصادفة خاضع لقانون ومقدر بحساب
والذين يقولون : إن هذه الحياة فلتة عابرة في الكون . وأن الكون لا يحفلها . بل يبدو أنه يعاديها . وأن ضآلة الكوكب الذي قام عليه هذا النوع من الحياة توحي بهذا كله . بل يقول بعضهم : إن هذه الضآلة توحي بأنه لو كان للكون إله ما عنى نفسه بهذه الحياة ! . . إلى آخر ذلك اللغو ، الذي يسمونه أحيانا " علمًا ! " ويسمونه أحيانا " فلسفة " ! وهو لا يستأهل حتى مناقشته !
إن هؤلاء إنما يحكمون أهواء مستقرة في نفوسهم ؛ ولا يحكمون حتى نتائج علمهم التي تفرض نفسها عليهم ! ويقرأ لهم الإنسان فيجد كأنما هم هاربون من مواجهة حقيقة قرروا سلفا ألا يواجهوها ! . . إنهم هاربون من الله الذي تواجههم دلائل وجوده ووحدانيته وقدرته المطلقة في كل اتجاه ! وكلما سلكوا طريقا يهربون بها من مواجهة هذه الحقيقة وجدوا الله في نهايتها ، فعادوا في ذعر إلى سكة أخرى . ليواجهوا الله - سبحانه - في نهايتها كذلك !
إنهم مساكين ! بائسون ! لقد فروا ذات يوم من الكنيسة وإلهها الذي تستذل به الرقاب . . فروا( كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ) . . ثم ما زالوا في فرارهم التقليدي حتى أوائل هذا القرآن . . دون أن يتلفتوا وراءهم ليروا إن كانت الكنيسة ما تزال تتابعهم . أم انقطعت منها - كما انقطعت منهم - الأنفاس .
إنهم مساكين بائسون لأن نتائج علومهم ذاتها تواجههم اليوم أيضا . . فإلى أين الفرار ؟ . .
يقول " فرانك أللن " العالم الطبيعي الذي اقتطفنا فقرات من مقاله في الفقرة السابقة عن نشأة الحياة :
" إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورا عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية . فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها ، فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار ، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام ، فيكون في ذلك تتابع الفصول ، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا ، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت ساكنة . ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغارات اللازمة للحياة ، ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير [ يزيد على 500ميل ] .
" ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة يوميا إلينا ، منقضة بسرعة ثلاثين ميلا في الثانية . والغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة ، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات ، حيث يمكن أن يتكاثف مطر يحيي الأرض بعد موتها . والمطر مصدر الماء العذب ، ولولاه لأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة . ومن هنا نرى أن الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة " . .
إن الأدلة " العلمية " تتكاثر في وجوههم وتتجمع لتعلن عجز المصادفة عجزا كاملا عن تعليل نشأة الحياة ، بما يلزم لهذه النشأة - وللنمو والبقاء والتنوع بعدها - من موافقات لا تحصى في تصميم الكون . . منها هذه الموافقات التي ذكرها العالم الطبيعي السابق ، ووراءها من نوعها كثير . فلا يبقى إلا تقدير العزيز العليم . الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . والذي خلق كل شيء فقدره تقديرا . .
وقوله : { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا } أي : خالق الضياء والظلام ، كما قال في أول السورة : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح ، فيضيء الوجود ، ويستنير الأفق ، ويضمحل الظلام ، ويذهب الليل بدآدئه{[10980]} وظلام رواقه ، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه ، كما قال [ تعالى ]{[10981]} { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } [ الأعراف : 54 ] ، فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه ، فذكر أنه فالق الإصباح وقابل ذلك بقوله : { وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا } أي : ساجيا مظلما تسكن فيه الأشياء ، كما قال : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } [ الضحى : 1 ، 2 ] ، وقال { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [ الليل : 1 ، 2 ] ، وقال { وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } [ الشمس : 3 ، 4 ] .
وقال صهيب الرومي [ رضي الله عنه ]{[10982]} لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره : إن الله جعل الليل سكنا إلا لصهيب ، إن صهيبا إذا ذكر الجنة طال شوقه ، وإذا ذكر النار طار نومه ، رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } أي : يجريان بحساب مقنن مقدر ، لا يتغير ولا يضطرب ، بل كل منهما له منازل يسلكها في الصيف والشتاء ، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولا وقصرا ، كما قال [ تعالى ]{[10983]} { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ]{[10984]} } الآية [ يونس : 5 ] ، وكما قال : { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] ، وقال { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [ الأعراف : 54 ] .
وقوله : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } أي : الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف العليم بكل شيء ، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، وكثيرًا ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، يختم الكلام بالعزة والعلم ، كما ذكر في هذه الآية ، وكما في قوله : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ يس : 37 ، 38 ] .
ولما ذكر خلق السموات والأرض وما فيهن في أول سورة { حم } السجدة ، قال : { وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت : 12 ] .
و { فالق الإصباح } أي شاقه ومظهره ، والفلق :الصبح ، وقرأ الجمهور «فالق الإصباح » بكسر الهمزة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وعيسى بن عمر وأبو رجاء «فالق الأصباح » بفتح الهمزة جمع صبح ، وقرأت فرقة «فالق الإصباح » بحذف التنوين «فالقُ » لالتقاء الساكنين ، ونصب «الإصباحَ » ب «فالقٌ » كأنه أراد «فالق الإصباح » بتنوين القاف ، وهذه قراءة شاذة ، وإنما جوز سيبويه مثل هذا في الشعر وأنشد عليها : [ المتقارب ]
فَألْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ . . . وَلاَ ذاكِرَ الله إلاَّ قليلا{[5027]}
وحكى النحاس عن المبرد جواز ذلك في الكلام ، وقرأ أبو حيوة وإبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «فلق الإصباح » بفعل ماض ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وجاعل الليل » وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «وجعل الليل » ، وهذا لما كان «فالق » بمعنى الماضي فكأن اللفظ «فلق الإصباح » وجعل ، ويؤيد ذلك نصب { الشمسَ والقمرَ } ، وقرأ الجمهور «سكناً » وروي عن يعقوب «ساكناً » قال أبو عمرو الداني ولا يصح ذلك عنه ، ونصبه بفعل مضمر إذا قرأنا «وجاعل » لأنه بمعنى المضي ، وتقدير الفعل المضمر وجاعل الليل يجعله سكناً ، وهذا مثل قولك هذا معطي زيد أمس درهماً ، والذي حكاه أبو علي في هذا أن ينتصب بما في الكلام من معنى معطي ، وقرأ أبو حيوة «والشمسِ والقمرِ » بالخفض عطفاً على لفظ «الليل » و { حسباناً } جمع حساب كشهبان في جمع شهاب ، أي تجري بحساب ، هذا قول ابن عباس والسدي وقتادة ومجاهد ، وقال مجاهد في صحيح البخاري : المراد حسبان كحسبان الرحى{[5028]} ، وهو الدولاب والعود الذي عليه دورانه .