محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَالِقُ ٱلۡإِصۡبَاحِ وَجَعَلَ ٱلَّيۡلَ سَكَنٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ حُسۡبَانٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ} (96)

[ 96 ] { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ( 96 ) } .

وقوله تعالى : { فالق الإصباح } خبر آخر ل { إن } ، أو لمبتدأ محذوف . و { الإصباح } مصدر سمي به الصبح . قال امرؤ القيس{[3594]} :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي*** بصبح وما الإصباح فيك بأمثل

/ أي : شاقه عن ظلمة الليل ؛ { وجعل الليل سكنا }{[3595]} أي : صير الظلام يسكن إليه ، ويطمئن به ، استرواحا من تعب النهار . أو يسكن في الخلق ، أي : يقروا ويهدؤوا ( من السكون ) - وهو الأظهر لقوله : { لتسكنوا فيه } - وقرئ { وجاعل الليل } .

{ والشمس والقمر حسبانا } أي : على أدوار مختلفة ، لتحسب بهما الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات . كما ذكره في سورة يونس في قوله{[3596]} : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } .

{ ذلك } أي التسيير بالحساب المعلوم { تقدير العزيز } أي : الغالب على أمره ، { العليم } بتدبيرهما ، ومراعاة الحكمة في شأنهما .

/ تنيهات

الأول- قال الرازي : قوله تعالى : { فالق الإصباح . . . } الآية ، نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته . فالنوع المتقدم كان مأخوذا من دلالة أحوال النبات والحيوان . والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية . وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة في فلق الحب والنوى بالنبات والشجر ، ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية ، ثم قرر الحجة من وجوه عديدة ، وأجاد رحمه الله .

الثاني- قرئ { الأصباح } بفتح الهمزة ، على أنه جمع صبح ، كقفل وأقفال .

الثالث- في ( البحر الكبير ) : أن السنة الشرعية قمرية لا شمسية ، والشمسية مما حدث في دواوين الخراج ، وإنما أضيف الحساب في الآية إليهما ، لأن بطلوع الشمس ومغيبها يعرف عدد الأيام التي تتركب منها الشهور والسنون ، فمن هنا دخلت- انتهى .

الرابع- قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : وكثيرا ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر يختم الكلام بالعزة والعلم ، كما ذكر في هذه الآية ، وكما في قوله : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم }{[3597]} ولما ذكر خلق السماوات والأرض وما فيهن في أول سورة ( حم سجدة ) قال : { وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ، ذلك تقدير العزيز العليم }{[3598]} . انتهى .

وفي ( العزة ) معنى القهر ، أي : الذي قهرهما بجعلهما مسخرين ، لا يتيسر لهما إلا ما أريد / بهما ، كما قال : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره }{[3599]} ، ومعنى القدرة الكاملة أيضا .

قال الرازي : { العزيز } إشارة إلى كمال قدرته ، و { العليم } إشارة إلى كمال علمه . ومعناه : أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيآتها المحدودة ، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة ، لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات ، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات . وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة . وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار- والله أعلم- .

الخامس- أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس " في قوله تعالى : { حسبانا } قال : يعني عدد الأيام والشهور والسنين " . وقال قتادة : " يدوران في حساب " . قال السيوطي : فالآية أصل في الحساب والميقات . انتهى .


[3594]:- من معلقته التي أولها: قفــا نبك من ذكرى حبيـب ومنـزل*** بسقط اللــوى بين الدخول فحومــل قال الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب في شرح البيت: هذا البيت متعلق بما قبله. لأن تقديره: فقلت له ألا أيها الليل الطويل ألا انجل. أي انكشف بإقبال الصبح. ثم رجع فقال: وما الإصباح فيك بأمثل. أي إذا جاء الصبح فأنا مغموم كما كنت في الليل. فليس الصبح بأمثل من الليل. وقال الأصبهاني: معنى قوله (بأمثل) أن الصبح قد يجيء والليل مظلم. يقول: ليس الصباح بأمثل وهو فيك. أي أريد أن يجيء مجيئا منكشفا متجليا، لا سواد فيه. كما قال البحتري، وإلى هذا أشار فقال: فــأزرق الفجر يأتي قبــــل أبيضــه*** وأول الغيـــث طـــل ثـــــم ينسكـــــب قال الأصبهاني: ولو أراد أن الصباح ليس بأمثل من الليل، لقال: منك بأمثل. 1هـ.
[3595]:- [10/ يونس/ 67] ونصها: {هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون}. و[28/ القصص/ 73] ونصها: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (73)}.
[3596]:- [10/ يونس/ 5] ونصها: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (5)}.
[3597]:- [36/ يس/ 37 و38].
[3598]:- [41/ فصلت/ 12] ونصها: {فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم (12)}.
[3599]:- [7/ الأعراف/ 54] ونصها: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}.