جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{فَالِقُ ٱلۡإِصۡبَاحِ وَجَعَلَ ٱلَّيۡلَ سَكَنٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ حُسۡبَانٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ} (96)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } .

يعني بقوله : فالِقُ الإصْباحِ شاقّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده . والإصباح : مصدر من قول القائل : أصبحنا إصباحاً .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال عامة أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : فالِقُ الإصْباحِ قال : إضاءة الصبح .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فالِقُ الإصْباحِ قال : إضاءة الفجر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : فالِقُ الإصْباحِ قال : فالق الصبح .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في قوله : فالِقُ الإصْباحِ يعني بالإصباح : ضوء الشمس باالنهار ، وضوء القمر بالليل .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن القاسم ابن أبي بزّة ، عن مجاهد : فالِقُ الإصْباحِ قال : فالق الصبح .

حدثنا به ابن حميد مرّة بهذا الإسناد ، عن مجاهد ، فقال في قوله : فالِقُ الإصْباحِ قال : إضاءة الصبح .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا بن وهب ، قال : قال بن زيد ، في قوله : فالِقُ الإصْباحِ قال : فلق الإصباح عن الليل .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فالِقُ الإصْباحِ يقول : خالق النور ، نور النهار .

وقال آخرون : معنى ذلك : خالق الليل والنهار . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : «فالقُ الإصباحِ وجاعلُ الليلِ سكَنا » يقول : خلق الليل والنهار ، وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ في قوله : فالِقُ الإصْباحِ بفتح الألف كأنه تأوّل ذلك بمعنى جمع صبح ، كأنه أراد صبح كلّ يوم ، فجعله أصباحاً ولم يبلغنا عن أحد سواه أنه قرأ كذلك . والقراءة التي لا نستجيز غيرها بكسر الألف فالِقُ الإصْباحِ لإجماع الحجة من القراءة وأهل التأويل على صحة ذلك ورفض خلافه .

وأما قوله : «وَجاعِلُ اللّيْلِ سَكَناً » فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والمدينة وبعض البصريين : «وَجاعِلُ اللّيْلِ » بالألف . على لفظ الاسم ورفعه عطفاً على «فالق » ، وخفض «الليل » بإضافة «جاعل » إليه ، ونصب «الشمس » و «القمر » عطفاً على موضع «الليل » لأن «الليل » وإن كان مخفوضاً في اللفظ فإنه في موضع النصب ، لأنه مفعول «جاعل » ، وحَسُن عطف ذلك على معنى الليل لا على لفظه ، لدخول قوله : سَكَناً بينه وبين الليل قال الشاعر :

قُعُوداً لَدَى الأبْوَابِ طُلاّبَ حاجَةٍ ***عَوَانٍ مِنَ الحاجاتِ أوْ حاجَةً بِكْرَا

فنصب الحاجة الثانية عطفاً بها على معنى الحاجة الأولى ، لا على لفظها لأن معناها النصب وإن كانت في اللفظ خفضاً . وقد يجيء مثل هذا أيضاً معطوفاً بالثاني على معنى الذي قبله لا على لفظه ، وإن لم يكن بينهما حائل ، كما قال بعضهم :

فَبَيْنَا نَحْنُ نَنْظُرُهُ أتانَا ***مُعَلّقَ شَكْوَةٍ وزِنادَ رَاعِ

وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : وَجَعَلَ اللّيْلَ سَكَناً والشّمْسَ على «فَعَلَ » بمعنى الفعل الماضي ونصب «الليل » . والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، متفقتا المعنى غير مختلفتيه ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب في الإعراب والمعنى . وأخبر جلّ ثناؤه أنه جعل الليل سكناً ، لأنه يسكن فيه كلّ متحرك بالنهار ويهدأ فيه ، فيستقرّ في مسكنه ومأواه .

القول في تأويل قوله تعالى : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً .

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن بن عباس : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً يعني : عدد الأيام والشهور والسنين .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه عن بن عباس : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً قال : يجريان إلى أجل جُعِل لهما .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً يقول : بحساب .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً قال : الشمس والقمر في حساب ، فإذا خلت أيامهما فذاك آخر الدهر وأوّل الفزع الأكبر ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً قال : يدوران في حساب .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن بن جريج ، عن مجاهد : والشّمْسُ والقَمَرُ حُسْباناً قال : هو مثل قوله : كُلّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ، ومثل قوله : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً .

وقال آخرون : معنى ذلك : وجعل الشمس والقمر ضياء . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً أي ضياء .

وأولى القولين في تأويل ذلك عندي بالصواب تأويل من تأوّله : وجعل الشمس والقمر يجريان بحساب وعدد لبلوغ أمرها ونهاية آجالهما ، ويدوران لمصالح الخلق التي جُعِلا لها .

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالاَية ، لأن الله تعالى ذِكره ذكر قبله أياديه عند خلقه وعظم سلطانه ، بفلقه الإصباح لهم وإخراج النبات والغراس من الحبّ والنوى ، وعقب ذلك بذكره خلق النجوم لهدايتهم في البرّ والبحر ، فكان وصفه إجراء الشمس والقمر لمنافعهم أشبه بهذا الموضع من ذكر إضاءتهما لأنه قد وصف ذلك قبلُ قوله : فالِقُ الإصْباحِ فلا معنى لتكريره مرّة أخرى في آية واحدة لغير معنى . والحسبان في كلام العرب : جمع حساب ، كما الشبهان جمع شهاب وقد قيل : إن الحسبان في هذا الموضع مصدر من قول القائل : حَسَبْتُ الحِساب أحْسُبه حِساباً وحُسْباناً . وحُكي عن العرب على الله حُسْبان فلان وحِسْبَته : أي حسابه . وأحسب أن قتادة في تأويل ذلك بمعنى الضياء ، ذهب إلى شيء يرْوَى عن ابن عباس في قوله : أوْ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السّماءِ قال : ناراً ، فوجه تأويل قوله : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً إلى ذلك التأويل . وليس هذا من ذلك المعنى في شيء . وأما «الحِسْبان » بكسر الحاء : فإنه جمع الحِسبانة : وهي الوسادة الصغيرة ، وليست من الأوليين أيضاً في شيء ، يقال : حَسِبته : أجلسته عليها ، ونصب قوله : حُسْباناً بقوله : وَجَعَلَ . وكان بعض البصريين يقول : معناه : و والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً أي بحساب ، فحذف الباء كما حذفها من قوله : هُوَ أعْلَمُ مَنْ يَضِلّ عَنْ سَبِيلهِ : أي أعلم بمن يضلّ عن سبيله .

القول في تأويل قوله تعالى : ذلك تَقْدِيرُ العَزِيرِ العَلِيمِ .

يقول تعالى ذكره : وهذا الفعل الذي وصفه أنه فعله ، وهو فَلْقُه الإصباح وَجَعْلُه الليل سكَناً والشمس والقمر حُسباناً ، تقدير الذي عزّ سلطانه ، فلا يقدر أحد أراده بسوء وعقاب أو انتقام من الامتناع منه ، العليم بمصالح خلقه وتدبيرهم لا تقدير الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تفقه شيئاً ولا تعلقه ولا تضرّ ولا تنفع ، وإن أريدت بسوء لم تقدر على الامتناع منه ممن أرادها به . يقول جلّ ثناؤه : وأخلِصوا أيها الجهلة عبادتكم لفاعل هذه الأشياء ، ولا تشركوا في عبادته شيئاً غيره .