هذا نَوْعٌ آخر من دلائل وجود الصَّانع وعلمه وقدرته وحكمته ، فالنوع الأوَّل من دلالة النبات والحيوان ، والنوع الثاني من أنواع الفلك .
وقوله : { فَالِقُ الإِصْبَاحِ } نعت لاسم الله -تعالى- ، وهو كقوله : " فالق الحبِّ " فيما تقدَّم . والجمهور{[14605]} على كَسْرِ همزة " الإصباح " وهو المصدر : أصبح يصبح إصباحاً .
وقال الليث والزجاج : إن الصبح والصباح والإصباح واحد ، وهما أول النهار وكذا الفراء{[14606]} .
وقيل : الإصباح : ضوء الشمس بالنهار ، وضوء القمر بالليل . رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس{[14607]} .
وقيل هو إضاءة الفجر نُقِلَ ذلك عن مُجَاهد ، والظَّاهر أن " الإصباح " في الأصل مصدر كالإقبال والإدبار سُمِّيَ به الصباح ، وكذا الإمساء وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
ألاَ أيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ ألا انْجَلِ *** بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ مِنْكَ بأمْثَلِ{[14608]}
وقرأ الحسن{[14609]} وأبو رجاء وعيسى بن عمر : " الأصباح " بفتح الهمزة ، وهو جمع " صُبْح " نحو : قُفْل وأقْفَال ، وبرد وأبراد ، وينشد قوله : [ الرجز ]
أفْنَى رِيَاحاً وَبَنِي رِيَاح *** تَنَاسُخُ الأمْسَاءِ والأصْبَاحِ{[14610]}
بفتح الهمزة من " الأمساء " و " الأصباح " على أنهما جمع " مُسْي " و " صُبْح " ، وبكسرهما على أنهما مَصْدَرَان ، وقرئ{[14611]} " فالق الأصباح " بفتح " الأصْبَاح " على حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقول القائل في ذلك : [ المتقارب ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ{[14612]}
وقرئ { وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ } [ الحج : 35 ] و { لَذَائِقُوا الْعَذَابِ } [ الصافات :38 ] بالنصب حَمْلاً للنون على التنوين ، إلا أن سيبويه{[14613]} - رحمه الله تعالى - لا يُجِيزُ حَذْفَ التنوين لالتقاء الساكنين إلا في شعر ، وقد أجازه المُبرِّدُ في الشعر .
وقرأ يحيى{[14614]} والنخعي وأبو حيوة : " فلق " فعلاً ماضياً ، وقد تقدَّم أن عبد الله قرأ الأولى كذلك ، وهذا أدَلُّ على أن القراءة عندهم سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ ألا ترى أن عبد الله كيف قرأ " فلق الحب " فعلاً ماضياً ، وقرأ " فالق الإصباح " والثلاثة المذكورين بعكسه .
قال الزمخشري{[14615]} : فإن قلت : فما معنى " فلق الصبح " ، والظلمة هي التي تنفلق عن الصُّبح ، كما قال : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** تَفَرِّيَ لَيْلٍ عَنْ بَيَاضِ نهارِ{[14616]}
أحدهما : أن يُرَادَ : فالق ظلمة الإصباح ، يعني أنه على حذف مضاف .
والثاني : أنه يُرَاد : فالق الإصباح الذي هو عمود الفَجْرِ عن بياض النهار وإسْفَارِهِ ، وقالوا : انشق عمود الفجر وانصدع ، وسمّوا الفجر فلقاً بمعنى مَفْلُوق ؛ قال الطائي : [ البسيط ]
وَأزْرَقُ الفَجْرِ يَبْدُو قَبْلَ أبْيَضِهِ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[14617]}
وقرئ{[14618]} : " فالق " و " جاعل " بالنصب على المَدْحِ انتهى .
وأنشده غيره في ذلك : [ البسيط ]
فانْشَقَّ عَنْهَا عَمُودُ الفَجْرِ جَافِلَةً *** عَدْوَ النَّحُوصِ تَخَافُ القَانِصَ اللَّحِمَا{[14619]}
قال الليث{[14620]} : الصبح والصباح هما أوَّلُ النهار ، وهو الإصباح أيضاً ، قال تبارك وتعالى : " فالق الإصباح " يعني الصبح .
وقيل : إن الإصباح مصدر سُمِّيَ به الصبح كما تقدم .
قوله : " وجَاعل اللَّيْل " قرأ الكوفيون{[14621]} : " جَعَلَ " فعلاً ماضياً ، والباقون بصيغة اسم الفاعل والرَّسْم يحتملهما ، و " اللَّيْل " مَنْصُوبٌ عند الكوفيين بمقتضى قراءتهم ، ومجرور عند غيرهم ، وَوَجْهُ قراءتهم له فعلاً مناسبة ما بعده ، فإن بعده أفعالاً ماضية نحو : { جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ } و{ هُو الذي أنْشَأ } إلى آخر الآيات ويكون " سَكَناً " إما مفعولاً ثانياً على أنَّ الجَعْل [ بمعنى التصيير ، وإما حالاً على أنه بمعنى ]{[14622]} الخلق ، وتكون الحال مُقدّرة ، وأما قراءة غيرهم ف " جاعل " يحتمل أن يكون بمعنى المضي ، ويؤيده قراءة الكوفيين ، والماضي عند البصريين لا يعمل إلا مع " أل " خلافاً لبعضهم في مَنْع إعمال المعرَّف بها ، وللكسائي{[14623]} في إعماله مُطْلَقا ، فإذا تقرَّر ذلك ف " سَكَناً " مَنْصُوبٌ بفعل مُضْمَرٍ عند البصريين{[14624]} ، وعلى مقتضى مذهب الكسائي ينصبه به .
وزعم أبو سعيد السِّيرَافِيُّ أن اسم الفاعل المتعدي إلى اثنين يجوز أن يعمل في الثَّاني ، وإن كان ماضياً .
قال : لأنه لما أضيف إلى الأوَّل تعذَّرت إضافته للثاني ، فتعين نصبه له .
وقال بعضهم : لأنه بالإضافة أشهب المعرف ب " أل " فيستعمل مطلقاً فعلى هذا " سكناً " منصوب به أيضاً وأما إذا قلنا : إنه بمعنى الحال والاستقبال ، فَنَصْبُهُ به ، و " سكن " فعل بمعنى مَفْعُول كالقبض بمعنى مَقْبُوض ، ومعنى سَكَن ، أي ما يسكن إليه الرجل ، ويطمئن إليه استئناساً به واسترواحاً إليه من زَوْجٍ أو حبيبٍ ، ومنه قيل للنار سكن ؛ لأنه يُسْتَأنَسُ بها ، ألا تراهَمَ كيف سمّوها المُؤنِسَة{[14625]} .
قوله : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً } قرأ الجمهور{[14626]} بنصب " الشَّمس " و " القمر " وهي واضحة على قراءة الكوفيين{[14627]} ، أي : بِعَطفِ هذين المنصوبين على المنصوبين ب " جعل " و " حُسْبَاناً " فيه الوجهان في " سَكَناً " من المفعول الثاني والحال .
وأما على قراءة{[14628]} الجماعة فإن اعتقدنا كَوْنَهُ ماضياً فلا بُدَّ من إضمار فِعْلٍ ينصبهما ، أي : وجعل الشمس .
وإن قلنا : إنه غير ماضٍ فمذهب سيبويه{[14629]} أيضاً أن النَّصْبَ بإضمار فعل ، تقول : هذا ضاربٌ زيداً الآن أو غداً أو عمراً بنصب عَمْرو ، وبفعل مُقدَّرٍ لا على موضع المجرور [ باسم الفاعل ، وعلى رأي غيره يكون النصب ]{[14630]} على محل المجرور ، وينشدون قوله : [ البسيط ]
هَلْ أنْتَ بَاعِثُ دِينارٍ لِحَاجَتِنا *** أوْ عَبْدَ ربٍّ أخَا عَوْنِ بْنِ مِخْرَاقِ{[14631]}
بنصب " عبد " ، وهو محتمل للوجهين على المذهبين .
وقال الزمخشري{[14632]} : أو يعطفان على محل " الليل " .
فإن قلت : كيف يكون ل " الليل " محلّ ، والإضافة حقيقيّة ، لأن اسم الفاعل المُضَاف إليه في معنى المُضِيّ ، ولا تقول : زيد ضارب عمراً أمس .
قلت : ما هو بمعنى الماضي ، وإنما هو دالٌّ على فِعْلٍ مستمر في الأزمنة .
قال أبو حيَّان{[14633]} : أما قوله : إنما هو دَالٌّ على فعل مستمر في الأزمنة يعني : فيكون عاملاً ، ويكون للمجرور إذا ذاك بعده مَوْضِعٌ فيعطف عليه " الشمس والقمر " قال : " وهذا ليس بِصَحيحٍ إذا كان لا يَتَقَيَّدُ بزمن خاصّ ، وإنما هو للاستمرار ، فلا يجوز له أن يعمل ، ولا لمجروره مَحَلّ ، وقد نَصُّوا على ذلك ، وأنشدوا عليه قول القائل في ذلك : [ البسيط ]
ألْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[14634]}
فليس " الكاسب " هنا مقيداً بزمان ، و " إن " تقيَّد بزمان فإما أن يكون ماضياً دون " أل " فلا يعمل عند البصريين ، أو ب " أل " أو حالاً أو مستقبلاً ، فيعمل فيضاف على ما تقرر في النحو " . ثم قال : وعلى تقدير تسليم أن الذي للاستمرار يعلم ، فلا يجوز العَطْفُ على مَحَلِّ مجروره ، بل مذهب{[14635]} سيبويه - رحمه الله - في " الذي " بمعنى الحال والاستقبال ألاًَّ يَجُوزُ العَطْفُ على محلِّ مجروره ، بل على النصب بفعل مقدَّرٍ لو قلت : هذا ضارب زيد وعمراً [ لم يكن نصب عمراً ]{[14636]} على المحل [ على الصحيح ]{[14637]} وهو مذهب سيبويه ؛ لأن شَرْطَ العَطْفِ على الموضع مفقود ، وهو أن يكون للموضع محرز لا يتغير ، وهذا مُوضِّحٌ في علم النحو .
قال شهاب الدين{[14638]} : وقد ذكر الزَّمخشري في أوّل الفاتحة في
{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [ الفاتحة :4 ] أنه لمَّا لم يُقْصَدْ به زمانٌ صارت إضافته مَحْضَةً ، فلذلك وَقَعَ صفة للمعارف فمن لازم قوله : إنه يتعرف بالإضافة ألاَّ يعمل ؛ لأن العامل في نِيَّةِ الانفصال عن الإضافة ، ومتى كان في نِيَّةِ الانفصال كان نكرة ومتى كان نكرة فلا يقع صِفَةً للمعرفة ، وهذا حَسَنٌ حيث يرد عليه بقوله : وقد تقدم تحقيق هذا في الفاتحة .
وقرأ أبو حيوة{[14639]} : " والشَّمْسِ والقَمَرِ " جَرّاً نَسَقاً على اللفظ وقرأ{[14640]} شاذّاً " والشَّمْسُ والقَمَرُ " رَفْعاً على الابتداء ، وكان من حَقِّهِ أن يقرأ " حُسْبَانٌ " رَفْعاً على الخبر ، وإنما قرأه نَصْباً فالخبر حينئذ محذوف ، تقديره مَجْعولان حُسْبَاناً ، أو مخلوقان حُسْبَاناً .
فإن قلت : لا يمكن في هذه القراءة رَفْع " حسبان " حتى تلزم القارئ بذلك ، لأن الشَّمْسَ والقمر ليسا نَفْسَ الحسبان .
فالجواب : أنهما في قراءة النصب إما مَفْعُولان أوَّلان ، و " حسبان " ثانٍ ، وإما صاحبا حال ، و " حسبان " حال ، والمفعول الثاني هو الأوَّل ، والحال لا بد وأن تكون صَادِقَةً على ذي الحال ، فمهما كان الجواب لكن كان لنا .
أحدهما : أنه جمع ، فقيل : جمع " حِسَاب " ك " رِكاب " و " رُكْبَان " و " شِهَاب " و " شُهْبَان " ، وهذا قول أبي عبيد{[14641]} والأخفش{[14642]} وأبي الهيثم والمبرد .
وقال أبو البقاء{[14643]} : هو جمع " حسبانة " وهو غَلَطٌ ؛ لأن الحسبانة : القِطْعَةُ من النار ، وليس المراد ذلك قطعاً .
وقيل : بل هو مصدر ك " الرُّجْحَان " والنقصان و " الخُسْرَان " ، وأما الحساب فهو اسم لا مَصْدَرٌ وهذا قول ابن السِّكِّيتِ .
وقال الزمخشري{[14644]} : و " الحُسْبَان " بالضم مصدر حَسَبْتُ يعني بالفتح ، كما أن الحِسْبَان بالكسر مصدر حَسِبْتُ يعني بالكسر ونظيره : الكُفْرَان والشُّكْران .
وقيل : بل الحِسْبَان والحُسْبَان مصدران ، وهو قول أحمد بن يحيى ، وأنشد أبو عبيد عن أبي زَيْدٍ في مجيء الحُسْبَان مصدراً قوله : [ الطويل ]
عَلَى اللَّهِ حُسْبَانِي إذَا النَّفْسُ أشْرَفَتْ *** عَلَى طَمَعِ أوْ خَافَ شَيْئاً ضَمِيرُهَا{[14645]}
وقال " حُسْبَاناً " على ما تقدَّم من المفعولية أو الحالية .
وقال ثعلب عن الأخفش{[14646]} : إنه منصوب على إسْقاطِ الخافض ، والتقدير : يجريان بِحُسْبَانٍ ؛ كقوله : { لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء :61 ] أي : من طين .
وقوله : " ذلك " إشارة إلى ما تقدَّم من الفلق ، أو الجعل ، أو جميع ما تقدم من الأخبار في قوله " فالق الحبّ " إلى " حُسْبَاناً " .
ومعنى الآية الكريمة : جعل الشمس والقمر بحسابي معلوم لا يجاوزانه حتى يتهيّئان إلى أقصى منازلهما { ذلك تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } ف " العزيز " إشارة إلى كمال قُدْرتِهِ ، " والعليم " إشارة إلى كمال عِلْمِهِ ، والمعنى : أن تقدير أجْرَامِ الأفلاك بصفاتها المخصوصة وَهَيْئَتِهَا المحدودة ، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البُطْءِ والسرعة لا يمكن تحصيله إلاَّ بِقُدْرَةِ كاملة متعلقة بجميع الممكنات ، وعلم نَافِذٍ في جميع المعلومات من الكُلِّيَّاتِ والجزئيات ، وذلك مختص بالفاعل المختار سبحانه وتعالى .