9- ألم يصل إليكم خبر الذين مَضوْا من قبلكم ، قوم نوح وعاد وثمود ، والأمم الذين جاءوا من بعدهم ، وهم لا يعلمهم إلا الله لكثرتهم ، وقد جاءتهم رسلهم بالحُجج الواضحة على صدقهم ، فوضعوا أيديهم على أفواههم استغراباً واستنكاراً ، وقالوا للرسل : إنا كفرنا بما جئتم به من المعجزات والأدلة ، وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه من الإيمان والتوحيد ، لأننا لا نطمئن إليه ونشك فيه .
{ 9 - 12 } { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ *قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ }
يقول تعالى مخوفا عباده ما أحله بالأمم المكذبة حين جاءتهم الرسل ، فكذبوهم ، فعاقبهم بالعقاب العاجل الذي رآه الناس وسمعوه فقال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } وقد ذكر الله قصصهم في كتابه وبسطها ، { وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ } من كثرتهم وكون أخبارهم اندرست .
فهؤلاء كلهم { جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالأدلة الدالة على صدق ما جاءوا به ، فلم يرسل الله رسولا إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر ، فحين أتتهم رسلهم بالبينات لم ينقادوا لها بل استكبروا عنها ، { فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } أي : لم يؤمنوا بما جاءوا به ولم يتفوهوا بشيء مما يدل على الإيمان كقوله { يجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ }
{ وَقَالُوا } صريحا لرسلهم : { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أي : موقع في الريبة ، وقد كذبوا في ذلك وظلموا . ولهذا { قَالَتِ } لهم { رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ }
ويستمر موسى في بيانه وتذكيره لقومه . ولكنه يتوارى عن المشهد لتبرز المعركة الكبرى بين أمة الأنبياء والجاهليات المكذبة بالرسل والرسالات . وذلك من بدائع الأداء في القرآن ، لإحياء المشاهد ، ونقلها من حكاية تروى إلى مشهد ينظر ويسمع ، وتتحرك فيه الشخوص ، وتتجلى فيه السمات والانفعالات . .
والآن إلى الساحة الكبرى التي يتلاشى فيها الزمان والمكان :
( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم ، قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ؟ جاءتهم رسلهم بالبينات ، فردوا أيديهم في أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ، وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) . .
هذا التذكير من قول موسى . ولكن السياق منذ الآن يجعل موسى يتوارى ليستمر في عرض قصة الرسل والرسالات في جميع أزمانها . قصة الرسل والرسالات وحقيقتها في مواجهة الجاهلية ، وعاقبة المكذبين بها على اختلاف الزمان والمكان . . وكأن موسى " راوية " يبدأ بالإشارة إلى أحداث الرواية الكبرى . ثم يدع أبطالها يتحدثون بعد ذلك ويتصرفون . . وهي طريقة من طرق العرض للقصة في القرآن ، تحول القصة المحكية إلى رواية حية كما أسلفنا . وهنا نشهد الرسل الكرام في موكب الإيمان ، يواجهون البشرية متجمعة في جاهليتها . حيث تتوارى الفواصل بين أجيالها وأقوامها . وتبرز الحقائق الكبرى مجردة عن الزمان والمكان . كما هي في حقيقة الوجود خلف حواجز الزمان والمكان :
( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم : قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ؟ ) . .
فهم كثير إذن ، وهناك غير من جاء ذكرهم في القرآن . ما بين ثمود وقوم موسى . والسياق هنا لا يعني بتفصيل أمرهم ، فهناك وحدة في دعوة الرسل ووحدة فيما قوبلت به :
الواضحات التي لا يلتبس أمرها على الإدراك السليم .
( فردوا أيديهم في أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ؛ وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) . .
ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل من يريد تمويج الصوت ليسمع عن بعد ، بتحريك كفه أمام فمه وهو يرفع صوته ذهابا وإيابا فيتموج الصوت ويسمع . يرسم السياق هذه الحركة التي تدل على جهرهم بالتكذيب والشك ، وإفحاشهم في هذا الجهر ، وإتيانهم بهذه الحركة الغليظة التي لا أدب فيها ولا ذوق ، إمعانا منهم في الجهر بالكفر .
قال ابن جرير : هذا من تمام قيل{[15760]} موسى لقومه{[15761]} .
يعني : وتذكاره إياهم بأيام الله ، بانتقامه من الأمم المكذبة للرسل .
وفيما قال{[15762]} ابن جرير نظر ؛ والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة ، فإنه قد قيل :
إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقَصَه عليهم ذلك فلا شك{[15763]} أن تكون هاتان القصتان في " التوراة " ، والله أعلم . وبالجملة فالله تعالى قد قص علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل ، مما لا يحصي عددهم{[15764]} إلا الله عز وجل أتتهم رسلهم بالبينات ، أي : بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات .
وقال ابن{[15765]} إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله أنه قال في قوله : { لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ } كذب النسابون .
وقال عروة بن الزبير : ما وجدنا أحدا يعرف ما بعد معد بن عدنان .
وقوله : { فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } اختلف المفسرون في معناه ، فقيل : معناه : أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل يأمرونهم{[15766]} بالسكوت عنهم ، لما دعوهم إلى الله ، عز وجل .
وقيل : بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيبًا لهم .
وقيل : بل هو عبارة عن سكوتهم عن جواب الرسل .
وقال مجاهد ، ومحمد بن كعب ، وقتادة : معناه : أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم .
قال ابن جرير : وتوجيهه{[15767]} أن " في " ها هنا بمعنى " الباء " ، قال : وقد سمع من العرب : " أدخلك الله بالجنة " يعنون : في الجنة ، وقال الشاعر :
وَأَرْغَبُ فِيهَا عَن لَقيطٍ ورهْطه *** عَن سِنْبس لَسْتُ أرْغَب
يريد : أرغب بها{[15768]} .
قلت : ويؤيد قول مجاهد تفسير ذلك بتمام الكلام : { وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } فكأن هذا [ والله أعلم ]{[15769]} تفسير لمعنى رَدِّ أيديهم في أفواههم .
وقال سفيان الثوري ، وإسرائيل ، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله : { فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } قال : عضوا عليها غيظا .
وقال شعبة ، عن أبي إسحاق ، أبي هُبَيرَْة ابن مريم ، عن عبد الله أنه قال ذلك أيضا . وقد اختاره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ووجهه ابن جرير مختارًا له ، بقوله تعالى عن المنافقين : { وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } [ آل عمران : 119 ] .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : لما سمعوا كتاب{[15770]} الله عَجبوا ، ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم .
وقالوا : { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } يقولون : لا نصدقكم فيما جئتم به ؛ فإن عندنا فيه شكا قويا .
{ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود } من كلام موسى عليه الصلاة والسلام أو كلام مبتدأ من الله . { والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } جملة وقعت اعتراضا ، أو الذين من بعدهم عطف على ما قبله ولا يعلمهم اعتراض ، والمعنى أنهم لكثرتهم لا يعلم عددهم إلا الله ، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه كذب النسابون . { جاءتهم رسلهم بالبينات فردّوا أيديهم في أفواههم } فعضوها غيظا مما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام كقوله تعالى : { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } . أو وضعوها عليها تعجبا منه أو استهزاء عليه كمن غلبه الضحك ، أو إسكاتا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمرا لهم بإطباق الأفواه ، أو أشاروا بها إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم : { إنا كفرنا } تنييها على أن لا جواب لهم سواه أو ردوها في أفواه الأنبياء يمنعونهم من التكلم ، وعلى هذا يحتمل أن يكون تمثيلا . وقيل الأيدي بمعنى الأيادي أي ردوا أيادي الأنبياء التي هي مواعظهم وما أوحي إليهم من الحكم والشرائع في أفواههم ، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها فكأنهم ردوها إلى حيث جاءت منه . { وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به } على زعمكم . { وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه } من الإيمان وقرئ " تدعونا " بالإدغام . { مُريب } موقع في الريبة أو ذي ريبة وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الشيء .
وقوله : { ألم يأتكم } الآية ، هذا من التذكير بأيام الله في النقم من الأمم الكافرة . وقوله : { لا يعلمهم إلا الله } من نحو قوله : { وقروناً بين ذلك كثيراً }{[7012]} [ الفرقان : 38 ] ، وفي مثل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كذب النسابون من فوق عدنان »{[7013]} ، وروي عن ابن عباس أنه قال : «كان بين زمن موسى وبين زمن نوح قرون ثلاثون لا يعلمهم إلا الله » .
وحكى عنه المهدوي أنه قال : «كان بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الوقوف على عدتهم بعيد ، ونفي العلم بها جملة أصح ، وهو ظاهر القرآن .
واختلف المفسرون في معنى قوله : { فردوا أيديهم في أفواههم } بحسب احتمال اللفظ .
قال القاضي أبو محمد : و «الأيدي » في هذه الآية قد تتأول بمعنى الجوارح ، وقد تتأول بمعنى أيدي النعم ، فمما ذكر على أن «الأيدي » الجوارح أن يكون المعنى : ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم عضاً عليها من الغيظ على الرسل ، ومبالغة في التكذيب - هذا قول ابن مسعود وابن زيد ، وقال ابن عباس : عجبوا وفعلوا ذلك ، والعض من الغيظ مشهور{[7014]} من البشر ، وفي كتاب الله تعالى : { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ }{[7015]} [ آل عمران : 119 ] وقال الشاعر :
قد أفنى أنامله أزمه . . . فأضحى يعضُّ عليَّ الوظيفا{[7016]}
لو أن سملى أبصرت تخددي . . . ودقة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عوَّدي . . . عضت من الوجد بأطراف اليد{[7017]}
ومما ذكر أن يكون المعنى أنهم ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم إشارة على الأنبياء بالسكوت ، واستبشاعاً لما قالوا من دعوى النبوءة ومما ذكر أن يكون المعنى ردوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل تسكيتاً لهم ودفعاً في صدر قولهم - قاله الحسن - وهذا أشنع في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل والنيل منهم .
قال القاضي أبو محمد : وتحتمل الألفاظ معنى رابعاً وهو أن يتجوز في لفظ «الأيدي » ، أي إنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهم فيما قالوه بأفواههم من التكذيب ، فكأن المعنى : ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي في أقوالهم ، وعبر عن جميع المدافعة ب «الأيدي » ، إذ الأيدي موضع لشد المدافعة والمرادة .
وحكى المهدوي قولاً ضعيفاً وهو أن المعنى : أخذوا أيدي الرسل فجعلوها في أفواه الرسل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي لا وجه له .
ومما ذكر على أن «الأيدي » أيدي النعم ما ذكره الزجاج وذلك أنهم ردوا آلاء الرسل في الإنذار والتبليغ بأفواههم ، أي بأقوالهم - فوصل الفعل ب { في } عوض وصوله بالباء{[7018]} - وروي نحوه عن مجاهد وقتادة .
قال القاضي أبو محمد : والمشهور : جمع يد النعمة : أياد ، ولا يجمع على أيد ، إلا أن جمعه على أبد ، لا يكسر باباً ولا ينقض أصلاً ، وبحسبنا أن الزجاج قدره وتأول عليه .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل اللفظ - على هذا - معنى ثانياً ، أن يكون المقصد : ردوا أنعام الرسل في أفواه الرسل ، أي لم يقبلوه ، كما تقول لمن لا يعجبك قوله : أمسك يا فلان كلامك في فمك . ومن حيث كانت أيدي الرسل أقوالاً ساغ هذا فيها ، كما تقول : كسرت كلام فلان في فمه ، أي رددته عليه وقطعته بقلة القبول والرد ، وحكى المهدوي عن مجاهد أنه قال : معناه : ردوا نعم الرسل في أفواه أنفسهم بالتكذيب والنجه{[7019]} .
وقوله : { لفي شك مما تدعوننا إليه مريب } يقتضي أنهم شكوا في صدق نبوتهم وأقوالهم أو كذبها ، وتوقفوا في إمضاء أحد المعتقدين ، ثم ارتابوا بالمعتقد الواحد في صدق نبوتهم فجاءهم شك مؤكد بارتياب .
وقرأ طلحة بن مصرف : «مما تدعونّا » بنون واحدة مشددة{[7020]} .
هذا الكلام استئناف ابتدائيّ رجع به الخطاب إلى المشركين من العرب على طريقة الالتفات في قوله : { ألم يأتكم } ، لأن الموجّه إليه الخطاب هنا هم الكافرون المعنيون بقوله : { وويل للكافرين من عذاب شديد } [ سورة إبراهيم : 2 ] ، وهم معظم المعنيّ من الناس في قوله : { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } [ سورة إبراهيم : 1 ] ، فإنهم بعد أن أُجمل لهم الكلام في قوله تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [ سورة إبراهيم : 4 ] الآية ، ثم فُصّل بأن ضُرب المثل للإِرسال إليهم لغرض الإخراج من الظلمات إلى النور بإرسال موسى عليه السلام لإخراج قومه ، وقُضي حق ذلك عقبه بكلام جامع لأحوال الأمم ورسلهم ، فكان بمنزلة الحوصلة والتذييل مع تمثيل حالهم بحال الأمم السالفة وتشابه عقلياتهم في حججهم الباطلة وردّ الرسل عليهم بمثل ما رَدّ به القرآن على المشركين في مواضع ، ثم ختم بالوعيد .
والاستفام إنكاري لأنهم قد بلغتهم أخبارهم ، فأما قوم نوح فقد تواتر خبرهم بين الأمم بسبب خبر الطوفان ، وأما عاد وثمود فهم من العرب ومساكنهم في بلادهم وهم يمرون عليها ويخبر بعضهم بعضاً بها ، قال تعالى : { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم } [ سورة إبراهيم : 45 ] وقال : { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون } [ سورة الصافات : 137 ] .
و{ الذين من بعدهم } يشمل أهل مدين وأصحابَ الرس وقومَ تُبّع وغيرَهم من أمم انقرضوا وذهبت أخبارهم فلا يعلمهم إلا الله . وهذا كقوله تعالى : { وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا } [ سورة الفرقان : 38 ] .
وجملة لا يعلمهم إلا الله } معترضة بين { والذين من بعدهم } وبين جملة { جاءتهم رسلهم بالبينات } الواقعة حالاً من { والذين من بعدهم } ، وهو كناية عن الكثرة التي يستلزمها انتفاء علم الناس بهم .
ومعنى { جاءتهم رسلهم } جاءَ كلّ أمة رسولُها .
وضمائر { ردّوا } و { أيديهم } و { أفواههم } عائدٌ جميعها إلى قوم نوح والمعطوفات عليه .
وهذا التركيب لا أعهد سبق مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن .
ومعنى { فردوا أيديهم في أفواههم } يحتمل عدة وجوه أنهاهَا في « الكشاف » إلى سبعة وفي بعضها بُعدٌ ، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل كراهية أن تظهر دواخل أفواههم . وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل .
والردّ : مستعمل في معنى تكرير جعل الأيدي في الأفواه كما أشار إليه « الراغب » . أي وضعوا أيديهم على الأفواه ثم أزالوها ثم أعادوا وضعها فتلك الإعادة رَدّ .
وحرف { في } للظرفية المجازية المراد بها التمكين ، فهي بمعنى { على } كقوله : { أولئك في ضلال مبين } [ سورة الزمر : 22 ] . فمعنى ردّوا أيديهم في أفواههم } جعلوا أيديهم على أفواههم .
وعطفه بفاء التعقيب مشير إلى أنهم بادروا بردّ أيديهم في أفواههم بفور تلقيهم دعوة رسلهم ، فيقتضي أن يكون ردّ الأيدي في الأفواه تمثيلاً لحال المتعجب المستهزىء ، فالكلام تمثيل للحالة المعتادة وليس المراد حقيقته ، لأن وقوعه خبراً عن الأمم مع اختلاف عوائدهم وإشاراتهم واختلاف الأفراد في حركاتهم عند التعجب قرينة على أنه ما أريد به إلاّ بيان عَربي .
ونظير هذا قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة : { وقالوا الحمد لله الذي صَدَقنا وعده وأورثنا الأرض } [ سورة الزمر : 74 ] ، فميراث الأرض كناية عن حسن العاقبة جرياً على بيان العرب عند تنافس قبائلهم أن حسن العاقبة يكون لمن أخذ أرض عدوّه .
وأكّدوا كفرهم بما جاءت به الرسل بما دلّت عليه { إنّ } وفعل المضيّ في قوله : { إنا كفرنا } . وسموا ما كفروا به مُرسلاً به تهكماً بالرسل ، كقوله تعالى : { وقالوا يا أيها الذي نُزّل عليه الذكر إنك لمجنون } [ سورة الحجر : 6 ] ، فمعنى ذلك : أنهم كفروا بأن ما جاءوا به مرسل به من الله ، أي كفروا بأن الله أرسلهم . فهذا مما أيقنوا بتكذيبهم فيه .
وأما قولهم : { وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه } فذلك شك في صحة ما يدعونهم إليه وسداده ، فهو عندهم معرض للنظر وتمييز صحيحه من سقيمه ، فمورد الشك مَا يدعونهم إليه ، ومورد التكذيب نسبة دعوتهم إلى الله . فمرادهم : أنهم وإن كانوا كاذبين في دعوى الرسالة فقد يكون في بعض ما يدعون إليه ما هو صدق وحقّ فإن الكاذب قد يقول حقّاً .
وجعلوا الشك قوياً فلذلك عبر عنه بأنهم مَظروفون فيه ، أي هو محيط بهم ومتمكن كمال التمكن .
و { مريب } تأكيد لمعنى { في شك } ، والمريب : المُتوقع في الريب ، وهو مرادف الشك ، فوصف الشك بالمريب من تأكيد ماهيته ، كقولهم : لَيل ألْيَل ، وشِعر شَاعر .
وحذفت إحدى النونين من قوله : { إنا } تخفيفاً تجنباً للثقل الناشىء من وقوع نونين آخرين بعد في قوله : { تدعوننا } اللازم ذكرهما ، بخلاف آية سورة هود ( 62 ) { وإننا لفي شك مما تدعونا } إذ لم يكن موجب للتخفيف لأن المخاطب فيها بقوله : تدعونا } واحد .