( ثم ارجع البصر كرتين )فربما فاتك شيء في النظرة السابقة لم تتبينه ، فأعد النظر ثم أعده ( ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ) . .
وأسلوب التحدي من شأنه أن يثير الاهتمام والجد في النظر إلى السماوات وإلى خلق الله كله . وهذه النظرة الحادة الفاحصة المتأملة المتدبرة هي التي يريد القرآن أن يثيرها وأن يبعثها . فبلادة الألفة تذهب بروعة النظرة إلى هذا الكون الرائع العجيب الجميل الدقيق ، الذي لا تشبع العين من تملي جماله وروعته ، ولا يشبع القلب من تلقي إيحاءاته وأيماءاته ؛ ولا يشبع العقل من تدبر نظامه ودقته . والذي يعيش منه من يتأمله بهذه العين في مهرجان إلهي باهر رائع ، لا تخلق بدائعه ، لأنها أبدا متجددة للعين والقلب والعقل .
والذي يعرف شيئا عن طبيعة هذا الكون ونظامه - كما كشف العلم الحديث عن جوانب منها - يدركه الدهش والذهول . ولكن روعة الكون لا تحتاج إلى هذا العلم . فمن نعمة الله على البشر أن أودعهم القدرة على التجاوب مع هذا الكون بمجرد النظر والتأمل ؛ فالقلب يتلقى إيقاعات هذا الكون الهائل الجميل تلقيا مباشرا حين يتفتح ويستشرف . ثم يتجاوب مع هذه الإيقاعات تجاوب الحي مع الحي ؛ قبل أن يعلم بفكره وبأرصاده شيئا عن هذا الخلق الهائل العجيب .
ومن ثم يكل القرآن الناس إلى النظر في هذا الكون ، وإلى تملي مشاهده وعجائبه . ذلك أن القرآن يخاطب الناس جميعا ، وفي كل عصر . يخاطب ساكن الغابة وساكن الصحراء ، كما يخاطب ساكن المدينة ورائد البحار . وهو يخاطب الأمي الذي لم يقرأ ولم يخط حرفا ، كما يخاطب العالم الفلكي والعالم الطبيعي والعالم النظري سواء . وكل واحد من هؤلاء يجد في القرآن ما يصله بهذا الكون ، وما يثير في قلبه التأمل والاستجابة والمتاع .
وقوله : { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } قال : مرتين . { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا } قال ابن عباس : ذليلا ؟ وقال مجاهد ، وقتادة : صاغرًا .
{ وَهُوَ حَسِيرٌ } قال ابن عباس : يعني : وهو كليل . وقال مجاهد ، وقتادة ، والسدي : الحسير : المنقطع من الإعياء .
ومعنى الآية : إنك لو كررت البصر ، مهما كررت ، لانقلب إليك ، أي : لرجع إليك البصر ، { خَاسِئًا } عن أن يرى عيبًا أو خللا { وَهُوَ حَسِيرٌ } أي : كليل قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر ، ولا يرى نقصًا .
وقوله : ثُمّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْنِ ، يقول جلّ ثناؤه : ثم ردّ البصر يا ابن آدم كرّتين ، مرّة بعد أخرى ، فانظر هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ أو تفاوت ، يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئا يقول : يرجع إليك بصرك صاغرا مُبْعَدا من قولهم للكلب : اخسأ ، إذا طردوه أي ابعد صاغرا وَهُوَ حَسِيرٌ يقول : وهو مُعْيٍ كالّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ثُمّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْن يقول : هل ترى في السماء من خَللِ يَنْقَلِبْ إليكَ البَصَرُ خاسِئا وَهُوَ حَسِيرٌ بسواد الليل .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله خاسئا وَهُوَ حَسِيرٌ يقول : ذليلاً . . وقوله : وَهُوَ حَسِيرٌ يقول : مرجف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئا أي حاسرا وَهُوَ حَسيرٌ أي مُعْيٍ .
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله خاسِئا قال : صاغرا ، وَهُوَ حَسِيرٌ يقول : مُعْيٍ لم ير خَلَلاً ولا تفاوتا .
وقال بعضهم : الخاسىء والحسير واحد . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ . . . الاَية ، قال : الخاسىء ، والخاسر واحد ، حَسَر طرفُه أن يَرى فيها فَطْرًا ، فرجع وهو حسير قبل أن يرى فيها فَطْرا ، قال : فإذا جاء يوم القيامة انفطرت ثم انشقت ، ثم جاء أمر أكبر من ذلك انكشطت .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم ارجع البصر كرتين}: أعد البصر الثانية.
{ينقلب} يعني يرجع {إليك} ابن آدم.
{البصر خاسئا} يعني إذا اشتد البصر يقع فيه الماء، خاسئا: يعني صاغرا.
{وهو حسير} يعني كالا منقطعا، لا يرى فيها عيبا ولا فطورا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"ثُمّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْنِ"، يقول جلّ ثناؤه: ثم ردّ البصر يا ابن آدم كرّتين، مرّة بعد أخرى، فانظر "هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ "أو تفاوت.
"يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئا" يقول: يرجع إليك بصرك صاغرا مُبْعَدا...
"وَهُوَ حَسِيرٌ " يقول: وهو مُعْيٍ كالّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فارجع البصر هل ترى من فطور} {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير} جائز أن يكون هذا على رجوع بصر الوجه، وجائز أن يكون على رجوع بصر القلب، أو يكون رجوع أحدهما على بصر الوجه، والثاني على بصر القلب...
ثم قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} الآية: منهم من قال: إن الكرة ههنا كناية عن مرة بعد مرة، ليست على تثبيت العدد؛ فكأنه يكون أبدا معتبرا ناظرا في خلق الرحمن. وإلى هذا يذهب الحسن والأصم.
وجائز أن يكون قوله: {كرتين} مرتين، ولكن على اختلاف الوقتين، فتكون إحدى النظرتين بالليل، وثانيتهما بالنهار، لأنه بالليل آيات، وبالنهار آيات سواها...
أو تكون النظرة الأولى ببصر الوجه، والنظرة الثانية ببصر القلب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وأمره بتكرير البصر فيهنّ متصفحاً ومتتبعاً يلتمسُ عيباً وخللاً {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ} أي إن رجعت البصر وكررت النظر لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل وإدراك العيب، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور، أي: بالبعد عن إصابة الملتمس، كأنه يطرد عن ذلك طرداً بالصغار والقماءة، وبالإعياء والكلال لطول الإجالة والترديد.
فإن قلت: كيف ينقلب البصر خاسئاً حسيراً برجعه كرّتين اثنتين؟ قلت: معنى التثنية التكرير بكثرة، كقولك: لبيك وسعديك، تريد إجابات كثيرة بعضها في أثر بعض.
فإن قلت: فما معنى "ثم ارجع"؟ قلت: أمره برجع البصر، ثم أمره بأن لا يقتنع بالرجعة الأولى وبالنظرة الحمقاء، وأن يتوقف بعدها ويجم بصره، ثم يعاود ويعاود، إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة، فإنه لا يعثر على شيء من فطور.
قال ابن عباس: الخاسئ الذي لم ير ما يهوى، وأما الحسير، فقال ابن عباس: هو الكليل، قال الليث: الحسر والحسور الإعياء.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
{ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} فيكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة، وأقطع للمعذرة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأسلوب التحدي من شأنه أن يثير الاهتمام والجد في النظر إلى السماوات وإلى خلق الله كله. وهذه النظرة الحادة الفاحصة المتأملة المتدبرة هي التي يريد القرآن أن يثيرها وأن يبعثها. فبلادة الألفة تذهب بروعة النظرة إلى هذا الكون الرائع العجيب الجميل الدقيق، الذي لا تشبع العين من تملي جماله وروعته، ولا يشبع القلب من تلقي إيحاءاته وإيماءاته؛ ولا يشبع العقل من تدبر نظامه ودقته. والذي يعيش منه من يتأمله بهذه العين في مهرجان إلهي باهر رائع، لا تخلق بدائعه، لأنها أبدا متجددة للعين والقلب والعقل. والذي يعرف شيئا عن طبيعة هذا الكون ونظامه -كما كشف العلم الحديث عن جوانب منها- يدركه الدهش والذهول. ولكن روعة الكون لا تحتاج إلى هذا العلم. فمن نعمة الله على البشر أن أودعهم القدرة على التجاوب مع هذا الكون بمجرد النظر والتأمل؛ فالقلب يتلقى إيقاعات هذا الكون الهائل الجميل تلقيا مباشرا حين يتفتح ويستشرف. ثم يتجاوب مع هذه الإيقاعات تجاوب الحي مع الحي؛ قبل أن يعلم بفكره وبأرصاده شيئا عن هذا الخلق الهائل العجيب. ومن ثم يكل القرآن الناس إلى النظر في هذا الكون، وإلى تملي مشاهده وعجائبه. ذلك أن القرآن يخاطب الناس جميعا، وفي كل عصر. يخاطب ساكن الغابة وساكن الصحراء، كما يخاطب ساكن المدينة ورائد البحار. وهو يخاطب الأمي الذي لم يقرأ ولم يخط حرفا، كما يخاطب العالم الفلكي والعالم الطبيعي والعالم النظري سواء. وكل واحد من هؤلاء يجد في القرآن ما يصله بهذا الكون، وما يثير في قلبه التأمل والاستجابة والمتاع.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وعطْف {ثم ارجع البصر كرتين} دال على التراخي الرتبي كما هو شأن {ثم} في عطف الجمل، فإن مضمون الجملة المعطوفة ب {ثم} هنا أهمّ وأدخل في الغرض من مضمون الجملة المعطوف عليها لأن إعادة النظر تزيد العلم بانتفاء التفاوت في الخَلق رسوخاً ويقيناً.
و {كرتين} تثنية كرَّة وهي المرة وعبر عنها هنا بالكَرَّة مشتقة من الكر وهو العود لأنها عَود إلى شيء بعد الانفصال عنه ككَرة المقاتل يحمِل على العدوّ بعد أن يفر فراراً مصنوعاً. وإيثار لفظ كرتين في هذه الآية دون مرادفة نحو مرتين وتارتين لأن كلمة كرة لم يغلب إطلاقها على عدد الاثنين، فكان إيثارها في مقام لا يراد فيه اثنين أظهر في أنها مستعملة في مطلق التكرير دون عدد اثنين أو زوج وهذا من خصائص الإعجاز، ألا ترى أن مقام إرادة عدد الزوج كان مقتضياً تثنية مرة في قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229] لأنه أظهر في إرادة العدد إذ لفظ مرة أكثر تداولاً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يمكن استنتاج أساسين من الآيات المتقدّمة:
الأوّل: أنّ القرآن الكريم يأمر جميع السائرين في درب الحقّ أن يتدبّروا ويتأمّلوا كثيراً في أسرار عالم الوجود وما فيه من عجائب الخلق، وأن لا يكتفوا بالنظر إلى هذه المخلوقات مرّة واحدة أو مرّتين، حيث أنّ هنالك أسراراً كثيرة وعظيمة لا تتجلّى ولا تظهر من خلال النظرة الأولى أو الثانية. بل تستدعي النظر الثاقب والمتعاقب والدقّة الكثيرة، حتّى تتّضح الأسرار وتتبيّن الحقائق.
الأمر الثّاني: الذي يتبيّن لنا من خلال التدقيق في هذا النظام، هو إدراك طبيعة الانسجام العظيم بين مختلف جوانب الوجود، بالإضافة إلى خلوه من كلّ نقص وعيب وخلل. وإذا ما لوحظ في النظرة الأوّلية لبعض الظواهر الموجودة في هذا العالم (كالزلازل والسيول، والأمراض، والكوارث الطبيعية الأخرى، والتي تصيب البشر أحياناً في حياتهم) واعتبرت شروراً وآفات وفساداً، فإنّه من خلال الدراسات والتدقيقات المتأمّلة يتبيّن لنا أنّ هذه الأمور هي الأخرى تمثّل أسراراً أساسية غاية في الدقّة. إنّ لهذه الآيات دلالة واضحة على دقّة النظام الكوني، حيث معناها أنّ وجود النظام في كلّ شيء دليل على وجود العلم والقدرة على خلق ذلك الشيء، وإلاّ، فإنّ حصول حوادث عشوائية غير محسوبة لا يمكن أبداً أن تكون منطلقاً للنظام ومبدأ للحساب...