75- هذا سلوك أهل الكتاب في الاعتقاد ، أما سلوكهم في المال فمنهم من إن استأمنته على قنطار من الذهب أو الفضة أدَّاه إليك لا ينقص منه شيئاً ، ومنهم من إن استأمنته على دينار واحد لا يؤديه إليك إلا إذا لازمته وأحرجته ، وذلك لأن هذا الفريق يزعم بأن غيرهم أميون ، وأنهم لا ترعى لهم حقوق ، ويدعون أن ذلك حكم الله ، وهم يعلمون أن ذلك كذب عليه سبحانه وتعالى .
{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب في الوفاء والخيانة في الأموال ، لما ذكر خيانتهم في الدين ومكرهم وكتمهم الحق ، فأخبر أن منهم الخائن والأمين ، وأن منهم { من إن تأمنه بقنطار } وهو المال الكثير { يؤده } وهو على أداء ما دونه من باب أولى ، ومنهم { من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } وهو على عدم أداء ما فوقه من باب أولى وأحرى ، والذي أوجب لهم الخيانة وعدم الوفاء إليكم بأنهم زعموا أنه { ليس } عليهم { في الأميين سبيل } أي : ليس عليهم إثم في عدم أداء أموالهم إليهم ، لأنهم بزعمهم الفاسد ورأيهم الكاسد قد احتقروهم غاية الاحتقار ، ورأوا أنفسهم في غاية العظمة ، وهم الأذلاء الأحقرون ، فلم يجعلوا للأميين حرمة ، وأجازوا ذلك ، فجمعوا بين أكل الحرام واعتقاد حله وكان هذا كذبا على الله ، لأن العالم الذي يحلل الأشياء المحرمة قد كان عند الناس معلوم أنه يخبر عن حكم الله ليس يخبر عن نفسه ، وذلك هو الكذب ، فلهذا قال
{ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } وهذا أعظم إثما من القول على الله بلا علم .
ثم يمضي السياق يصف حال أهل الكتاب ؛ ويبين ما في هذه الحال من نقائص ؛ ويقرر القيم الصحيحة التي يقوم عليها الإسلام دين المسلمين . ويبدأ فيعرض نموذجين من نماذج أهل الكتاب في التعامل والتعاقد :
( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما . ذلك بأنهم قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون . بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين . إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم ) . .
إنها خطة الإنصاف والحق وعدم البخس والغبن يجري عليها القرآن الكريم في وصف حال أهل الكتاب الذين كانوا يواجهون الجماعة المسلمة حينذاك ؛ والتي لعلها حال أهل الكتاب في جميع الأجيال . ذلك أن خصومة أهل الكتاب للإسلام والمسلمين ، ودسهم وكيدهم وتدبيرهم الماكر اللئيم ، وإرادتهم الشر بالجماعة المسلمة وبهذا الدين . . كل ذلك لا يجعل القرآن يبخس المحسنين منهم حقهم ، حتى في معرض الجدل والمواجهة . فهو هنا يقرر أن من أهل الكتاب ناسا أمناء ، لا يأكلون الحقوق مهما كانت ضخمة مغرية :
( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ) . .
ولكن منهم كذلك الخونة الطامعين المماطلين ، الذين لا يردون حقا - وإن صغر - إلا بالمطالبة والإلحاح والملازمة . ثم هم يفلسفون هذا الخلق الذميم ، بالكذب على الله عن علم وقصد :
( ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما . ذلك بأنهم قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل . ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) . .
وهذه بالذات صفة يهود . فهم الذين يقولون هذا القول ؛ ويجعلون للأخلاق مقاييس متعددة . فالأمانة بين اليهودي واليهودي . أما غير اليهود ويسمونهم الأميين وكانوا يعنون بهم العرب [ وهم في الحقيقة يعنون كل من سوى اليهود ] فلا حرج على اليهودي في أكل أموالهم ، وغشهم وخداعهم ، والتدليس عليهم ، واستغلالهم بلا تحرج من وسيلة خسيسة ولا فعل ذميم !
ومن العجب أن يزعموا أن إلههم ودينهم يأمرهم بهذا . وهم يعلمون أن هذا كذب . وأن الله لا يأمر بالفحشاء . ولا يبيح لجماعة من الناس أن يأكلوا أموال جماعة من الناس سحتا وبهتانا ، وألا يرعوا معهم عهدا ولا ذمة ، وأن ينالوا منهم بلا تحرج ولا تذمم . ولكنها يهود ! يهود التي اتخذت من عداوة البشرية والحقد عليها ديدنا ودينا :
يخبر تعالى عن اليهود بأن فيهم الخونة ، ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم ، فإن منهم { مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } أي : من المال { يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } أي : وما دونه بطريق الأولى أن يؤديه إليك { وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } أي : بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك ، وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فما فوقه أولى ألا يؤديه .
وقد تقدم الكلام على القنطار في أول السورة ، وأما الدينار فمعروف .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا سعيد بن عمرو السَّكُوني ، حدثنا بَقِيَّة ، عن زياد بن الهيثم ، حدثني مالك بن دينار قال : إنما سمي الدينار لأنه دين ونار . وقال : معناه : أنه{[5182]} من أخذه بحقه فهو دينه ، ومن أخذه بغير حقه فله النار .
ومناسب أن يكون{[5183]} هاهنا الحديث الذي علقه البخاري في غير موضع من{[5184]} صحيحه ، ومن أحسنها سياقه في كتاب الكفالة حيث قال : وقال الليث : حدثني جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ [ بَعْضَ ]{[5185]} بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَقَالَ : ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ . فَقَالَ : كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا . قَالَ : ائْتِنِي بِالْكَفِيلِ . قَالَ : كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلا . قَال{[5186]} َ : صَدَقْتَ . فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكِبًا ، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي استَسْلَفْت{[5187]} ُ فُلانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلا فَقُلْتُ : كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلا فَرَضِيَ بِكَ{[5188]} . وَسَأَلَنِي شَهِيدًا ، فَقُلْتُ : كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ ، وَإِنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ ، وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا{[5189]} . فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ{[5190]} وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا يَجِيئُهُ بِمَالِهِ ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ ، فَأَخَذَهَا لأهْلِهِ حَطَبًا ، فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ تَسَلَّف مِنْهُ ، فَأَتَاه بِأَلْفِ دِينَارٍ ، وَقَالَ : وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ . قَالَ : هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ : أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا ؟ قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ ، فَانْصَرِفْ بِأَلْفِ دِينَارٍ رَاشِدًا .
هكذا رواه{[5191]} البخاري في موضعه مُعَلَّقًا بصيغة الجزم ، وأسنده في بعض المواضع من الصحيح عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه . ورواه الإمام أحمد في مسنده هكذا مطولا عن يونس بن محمد المؤدب ، عن الليث به{[5192]} ورواه البزار في مسنده ، عن الحسن بن مُدْرِك ، عن يحيى بن حماد ، عن أبي عَوَانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، ثم قال : لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد . كذا قال ، وهو خطأ ، لما تقدم{[5193]} .
وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ } أي : إنَّمَا حَمَلهم على جُحود الحق أنهم يقولون : ليس علينا في ديننا حَرَج في أكل أموال الأمييّن ، وهم العرب ؛ فإن الله قد أحلها لنا . قال الله تعالى : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : وقد اختلقوا هذه المقالة ، وائتفكوا بهذه الضلالة ، فَإن الله حَرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها ، وإنما هم قوم بُهْت .
قال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن [ أبي ]{[5194]} صَعْصَعَة بن يزيد{[5195]} ؛ أن رجلا سأل ابن عباس ، قال : إنا نُصِيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجةَ والشاةَ ؟ قال {[5196]} ابن عباس : فَتَقولون{[5197]} ماذا ؟ قال : نقول{[5198]} ليس علينا بذلك بأس . قال : هذا كما قال أهل الكتاب : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ } إنهم إذا{[5199]} أدوا الجزية لم تَحل لكم أموالهُم إلا بِطِيب أنفسهم .
وكذا رواه الثوري ، عن أبي إسحاق{[5200]} بنحوه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن يحيى ، أخبرنا أبو الربيع الزهراني{[5201]} حدثنا يعقوب ، حدثنا جعفر ، عن سعيد بن جبير قال : لما قال أهل الكتاب : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ } قال نبي الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[5202]} كَذَبَ أَعْدَاءُ اللهِ ، مَا مِنْ شِيٍء كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ إِلا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلا الأمَانَةَ ، فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ وَالفَاجِرِ " {[5203]}
{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاّ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ إِلاّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
وهذا الخبر من الله عزّ وجلّ أن من أهل الكتاب ، وهم اليهود من بني إسرائيل أهل أمانة يؤدونها ولا يخونونها ، ومنهم الخائن أمانته ، الفاجر في يمينه المستحلّ .
فإن قال قائل : وما وجه إخبار الله عزّ وجلّ بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم ، وقد علمت أن الناس لم يزالوا كذلك منهم المؤدّي أمانته والخائنها ؟ قيل : إنما أراد جلّ وعزّ بإخباره المؤمنين خبرهم على ما بينه في كتابه بهذه الاَيات تحذيرهم أن يأتمنوهم على أموالهم ، وتخويفهم الاغترار بهم ، لاستحلال كثير منهم أموال المؤمنين . فتأويل الكلام : ومن أهل الكتاب الذي إن تأمنه يا محمد على عظيم من المال كثير ، يؤدّه إليك ، ولا يخنك فيه¹ ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنك فيه ، فلا يؤدّه إليك إلا أن تلحّ عليه بالتقاضي والمطالبة . والباء في قوله : { بِدِينارٍ } وعلى يتعاقبان في هذا الموضع ، كما يقال : مررت به ، ومررت عليه .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما } فقال بعضهم : إلا ما دمت له متقاضيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما } : إلا ما طلبته واتبعته .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما } قال : تقتضيه إياه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قَائما } قال : مواظبا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : معنى ذلك : إلا ما دمت عليه قائما على رأسه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما } يقول : يعترف بأمانته ما دمت قائما على رأسه ، فإذا قمت ثم جئت تطلبه كافَرَك الذي يؤدي ، والذي يجحد .
وأولى القولين بتأويل الآية قول من قال : معنى ذلك : إلا ما دمت عليه قائما بالمطالبة والاقتضاء ، من قولهم : قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي ، أي عمل في تخليصه ، وسعى في استخراجه منه حتى استخرجه ، لأن الله عزّ وجلّ إنما وصفهم باستحلالهم أموال الأميين ، وأن منهم من لا يقضي ما عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة ، وليس القيام على رأس الذي عليه الدين ، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما هو له مستحلّ ، ولكن قد يكون مع استحلاله الذهاب بما عليه لربّ الحق إلى استخراجه السبيلُ بالاقتضاء والمحاكمة والمخاصمة ، فذلك الاقتضاء : هو قيام ربّ المال باستخراج حقه ممن هو عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أن من استحلّ الخيانة من اليهود وجحود حقوق العربي التي هي له عليه ، فلم يؤدّ ما ائتمنه العربي عليه إليه إلا ما دام له متقاضيا مطلبا¹ من أجل أنه يقول : لا حرج علينا فيما أصبنا من أموال العرب ، ولا إثم ، لأنهم على غير الحقّ ، وأنهم مشركون .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو قولنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } . . . الاَية ، قالت اليهود : ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } قال ليس علينا في المشركين سبيل ، يعنون : من ليس من أهل الكتاب .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } قال : يقال له : ما بالك لا تؤدّي أمانتك ؟ فيقول : ليس علينا حرج في أموال العرب ، قد أحلها الله لنا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، لما نزلت : { وَمِنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدّهِ إلَيْكَ إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كَذَبَ أعْدَاءُ اللّهِ ما مِنْ شَيْءٍ كانَ فِي الجَاهِليةِ إلاّ وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ ، إلاّ الأمانَةَ فإنّهَا مُؤَدّاة إلى البَرّ والفاجِرِ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام بن عبيد الله ، عن يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما قالت اليهود : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } يعنون أخذ أموالهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : «إلاّ وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ ، إلاّ الأمانَةَ فَإنّها مُؤَدّاة » ولم يزد على ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون : ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء ، لأنهم أميون ، فذلك قوله : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } . . . إلى آخر الآية .
حدثنا به القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } قال : بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم ثمن بيوعهم ، فقالوا : ليس لكم علينا أمانة ، ولا قضاء لكم عندنا ، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه ، وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم ، فقال الله عزّ وجلّ : { وَيَقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن صعصعة ، قال : قلت لابن عباس : إنا نغزو أهل الكتاب ، فنصيب من ثمارهم ؟ قال : وتقولون كما قال أهل الكتاب : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن صعصعة : أن رجلاً سأل ابن عباس فقال : إنا نصيب في الغزو أو العذق ، الشكّ من الحسن من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ، فقال ابن عباس : فتقولون ماذا ؟ قال نقول : ليس علينا بذلك بأس . قال : هذا كما قال أهل الكتاب : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن القائلين منهم ليس علينا في أموال الأميين من العرب حرج أن نختانهم إياه ، يقولون بقيلهم : إن الله أحلّ لنا ذلك ، فلا حرج علينا في خيانتهم إياه ، وترك قضائهم الكذبَ على الله عامدين الإثم بقيل الكذب على الله أنه أحلّ ذلك لهم ، وذلك قوله عزّ وجلّ : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فيقول على الله الكذب ، وهو يعلم ، يعني الذي يقول منهم إذا قيل له : ما لك لا تؤدّي أمانتك ؟ ليس علينا حرج في أموال العرب ، قد أحلها الله لنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَيَقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } : يعني ادّعاءهم أنهم وجدوا في كتابهم قولهم : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } .
{ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } كعبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } كفنحاص بن عازوراء استودعه قرشي آخر دينارا فجحده . وقيل المأمونون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة ، والخائنون في القليل اليهود إذ الغالب عليهم الخيانة . وقرأ حمزة وأبو بكر وأبو عمرو { يؤده إليك } و{ لا يؤده إليك } بإسكان الهاء وقالوا باختلاس كسرة الهاء وكذا روي عن حفص والباقون بإشباع الكسرة . { إلا ما دمت عليه قائما } إلا مدة دوامك قائما على رأسه مبالغا في مطالبته بالتقاضي والترافع وإقامة البينة . { ذلك } إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله { لا يؤده } . { بأنهم قالوا } بسبب قولهم { ليس علينا في الأميين سبيل } أي ليس علينا في شأن من ليسوا من أهل الكتاب -ولم يكونوا على ديننا- عتاب وذم . { ويقولون على الله الكذب } بادعائهم ذلك { وهم يعلمون } أنهم كاذبون ، وذلك لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم وقالوا : لم يجعل لهم في التوراة حرمة . وقيل عامل اليهود رجالا من قريش فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا سقط حقكم حيث تركتم دينكم وزعموا أنه كذلك في كتابهم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولها " كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر " .