ثم ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة للآيات الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } فهذا مشتمل على الآيات التي جاء بها ، وهي ترجع إلى ثلاثة أمور :
الأول : في نفس إرساله ، والثاني : في سيرته وهديه ودله ، والثالث : في معرفة ما جاء به من القرآن والسنة .
فالأول والثاني ، قد دخلا في قوله : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ } والثالث دخل في قوله : { بِالْحَقِّ }
وبيان الأمر الأول وهو - نفس إرساله - أنه قد علم حالة أهل الأرض قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من عبادة الأوثان والنيران ، والصلبان ، وتبديلهم للأديان ، حتى كانوا في ظلمة من الكفر ، قد عمتهم وشملتهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ، قد انقرضوا قبيل البعثة .
وقد علم أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى ، ولم يتركهم هملا ، لأنه حكيم عليم ، قدير رحيم ، فمن حكمته ورحمته بعباده ، أن أرسل إليهم هذا الرسول العظيم ، يأمرهم بعبادة الرحمن وحده لا شريك له ، فبمجرد رسالته يعرف العاقل صدقه ، وهو آية كبيرة على أنه رسول الله ، وأما الثاني : فمن عرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة تامة ، وعرف سيرته وهديه قبل البعثة ، ونشوءه على أكمل الخصال ، ثم من بعد ذلك ،
قد ازدادت مكارمه وأخلاقه العظيمة الباهرة للناظرين ، فمن عرفها ، وسبر أحواله ، عرف أنها لا تكون إلا أخلاق الأنبياء الكاملين ، لأن الله تعالى جعل الأوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها وصدقهم وكذبهم .
وأما الثالث : فهو معرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الشرع العظيم ، والقرآن الكريم ، المشتمل على الإخبارات الصادقة ، والأوامر الحسنة ، والنهي عن كل قبيح ، والمعجزات الباهرة ، فجميع الآيات تدخل في هذه الثلاثة .
قوله : { بَشِيرًا } أي لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والأخروية ، { نَذِيرًا } لمن عصاك بالشقاوة والهلاك الدنيوي والأخروي .
{ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } أي : لست مسئولا عنهم ، إنما عليك البلاغ ، وعلينا الحساب .
وإذا انتهت مقولاتهم ، وفندت أباطيلهم ، وكشفت الدوافع الكامنة وراء أضاليلهم ، يتجه الخطاب إلى رسول الله [ ص ] يبين له وظيفته ، ويحدد له تبعاته ، ويكشف له عن حقيقة المعركة بينه وبين اليهود والنصارى ، وطبيعة الخلاف الذي لا حل له إلا بثمن لا يملكه ولا يستطيعه ! ولو أداه لتعرض لغضب الله مولاه ؛ وحاشاه !
إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، ولا تسأل عن أصحاب الجحيم . ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم . قل : إن هدى الله هو الهدى ، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير . الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته . أولئك يؤمنون به . ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون . .
( إنا أرسلناك بالحق ) . . وهي كلمة فيها من التثبيت ما يقضي على شبهات المضللين ، ومحاولات الكائدين ، وتلبيس الملفقين . وفي جرسها صرامة توحي بالجزم واليقين .
( بشيرا ونذيرا ) . . وظيفتك البلاغ والأداء ، تبشر الطائعين وتنذر العصاة ، فينتهي دورك .
( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) . . الذي يدخلون الجحيم بمعصيتهم ، وتبعتهم على أنفسهم .
{ إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }
ومعنى قوله جلّ ثناؤه : { إنّا أرْسَلْناكَ بالحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا } إنا أرسلناك يا محمد بالإسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الأديان وهو الحقّ مبشرا من اتبعك فأطاعك وقَبِلَ منك ما دعوته إليه من الحقّ ، بالنصر في الدنيا ، والظفر بالثواب في الاَخرة ، والنعيم المقيم فيها ومنذرا من عصاك فخالفك وردّ عليك ما دعوته إليه من الحقّ بالخزي في الدنيا ، والذلّ فيها ، والعذاب المهين في الاَخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تُسْألُ عَنْ أصْحَاب الجَحِيمِ } وقال أبو جعفر : قرأت عامة القراء : وَلا تُسألُ عَنْ أصْحَابِ الجَحِيمِ بضم التاء من «تُسأل » ورفع اللام منها على الخبر ، بمعنى : يا محمد إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا ، فبلغت ما أرسلت به ، وإنما عليك البلاغ والإنذار ، ولست مسئولاً عمن كفر بما أتيته به من الحقّ وكان من أهل الجحيم .
وقرأ ذلك بعض أهل المدينة : «وَلا تَسْألْ » جزما بمعنى النهي مفتوح التاء من «تَسأل » ، وجَزْم اللام منها . ومعنى ذلك على قراءة هؤلاء : إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به ، لا لتسأل عن أصحاب الجحيم ، فلا تسألْ عن حالهم . وتأوّل الذين قرءوا هذه القراءة ما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لَيْتَ شِعْرِي ما فَعَلَ أبَوَايَ » فنزلت : { وَلا تُسألُ عَنْ أصْحابِ الجَحِيمِ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَيْتَ شِعْرِي ما فَعَلَ أبَوَايَ لَيْتَ شِعْرِي ما فَعَلَ أبَوَايَ لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوايَ » » ثلاثا ، فنزلت : { إنّا أرْسَلْنَاكَ بالحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلا تُسألُ عَنْ أصْحابِ الجَحِيمِ } فما ذكرهما حتى توفاه الله .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني داود بن أبي عاصم ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : «لَيْتَ شِعْرِي أيْنَ أبَوَايَ ؟ » فنزلت : { إنّا أرْسَلْنَاكَ بالحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلا تُسألُ عَنْ أصْحابِ الجَحِيمِ } .
والصواب عندي من القراءة في ذلك قراءة من قرأ بالرفع على الخبر لأن الله جل ثناؤه قصّ قصص أقوام من اليهود والنصارى ، وذكر ضلالتهم ، وكُفْرَهم بالله ، وجراءَتهم على أنبيائه ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : إنا أرسلناك يا محمد بشيرا من آمن بك واتبعك ممن قصصت عليك أنباءه ومن لم أقصص عليك أنباءه ، ونذيرا من كفر بك وخالفك ، فبلّغ رسالتي ، فليس عليك من أعمال من كفر بك بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة ، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك . ولم يجر لمسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عن أصحاب الجحيم ذكر ، فيكون لقوله : { وَلا تُسألُ عَنْ أصْحَابِ الجَحِيمِ }وجهٌ يوجّه إليه .
وإنما الكلام موجه معناه إلى ما دلّ عليه ظاهره المفهوم ، حتى تأتي دلالة بيّنة تقوم بها الحجة على أن المراد به غير ما دلّ عليه ظاهره فيكون حينئذ مسلما للحجة الثابتة بذلك . ولا خبر تقوم به الحجة على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نُهي عن أن يسأل في هذه الآية عن أصحاب الجحيم ، ولا دلالة تدلّ على أن ذلك كذلك في ظاهر التنزيل .
والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل هذه الآية وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر ، دون النهي عن المسألة عنهم .
فإن ظنّ ظانّ أن الخبر الذي رُوي عن محمد بن كعب صحيح ، فإن في استحالة الشكّ من الرسول عليه السلام في أن أهل الشرك من أهل الجحيم ، وأن أبويه كانا منهم ، ما يدفع صحة ما قاله محمد بن كعب إن كان الخبر عنه صحيحا ، مع أن ابتداء الله الخبر بعد قوله : { إنّا أرْسَلْنَاكَ بالحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا } بالواو بقوله : ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ، وتركه وصل ذلك بأوله بالفاء ، وأن يكون : { إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا } ، ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ، أوضح الدلائل على أن الخبر بقوله : { ولا تسأل } ، أولى من النهي ، والرفع به أولى من الجزم .
وقد ذكر أنها في قراءة أبيّ : «وَما تُسْألُ » وفي قراءة ابن مسعود : «وَلَنْ تُسْألَ » وكلتا هاتين القراءتين تشهد بالرفع والخبر فيه دون النهي .
وقد كان بعض نحويي البصرة يوجه قوله : { وَلا تُسْألُ عَنْ أصْحَابِ الجَحِيمِ } إلى الحال ، كأنه كان يرى أن معناه : إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الجحيم . وذلك إذا ضم التاء ، وقرأه على معنى الخبر ، وكان يجيز على ذلك قراءته : «ولا تَسْألُ » ، بفتح التاء وضم اللام على وجه الخبر بمعنى : إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا ، غير سائل عن أصحاب الجحيم . وقد بينا الصواب عندنا في ذلك .
وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري في ذلك يرفعهما ما رُوي عن ابن مسعود وأبيّ من القراءة لأن إدخالهما ما أدخلا من ذلك من ( ما ) ، و( لن ) يدلّ على انقطاع الكلام عن أوله وابتداء قوله : وَلا تُسْألُ وإذا كان ابتداءً لم يكن حالاً . وأما أصحاب الجحيم ، فالجحيم هي النار بعينها إذا شبّت وقودها ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
إذا شُبّتْ جَهَنّمُ ثُمّ دَارَتْ وأعْرَضَ عَنْ قَوَابِسِها الجَحِيمُ
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }( 119 )
المعنى { بشيراً } لمن آمن ، { ونذيراً } لمن كفر ، وقرأ( {[1192]} ) نافع وحده «ولا تسألْ » بالجزم على النهي ، وفي ذلك معنيان : أحدهما لا تسأل على جهة التعظيم لحالهم من العذاب ، كما تقول : فلان لا تسأل عنه ، تعني أنه في نهاية تشهره من خير أو شر ، والمعنى الثاني( {[1193]} ) روي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ليت شعري ما فعل أبواي » فنزلت { ولا تسأل }( {[1194]} ) .
وحكى المهدوي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ليت شعري أي أبوي أحدث موتاً » ، فنزلت( {[1195]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ ممن رواه أو ظنه لأن أباه مات وهو في بطن أمه ، وقيل وهو ابن شهر ، وقيل ابن شهرين ، وماتت أمه بعد ذلك بخمس سنين منصرفة به من المدينة من زيارة أخواله ، فهذا مما لا يتوهم أنه خفي عليه صلى الله عليه وسلم ، وقرأ باقي السبعة «ولا تُسألُ » بضم التاء واللام ، وقرأ قوم «ولا تَسألُ » بفتح التاء وضم اللام ، ويتجه في هاتين القراءتين معنيان : أحدهما الخبر أنه لا يسأل عنهم ، أو لا يسأل هو عنهم ، والآخر أن يراد معنى الحال كأنه قال : وغير مسؤول( {[1196]} ) أو غير سائل( {[1197]} ) عنهم ، عطفاً على قوله { بشيراً ونذيراً } ، وقرأ أبي بن كعب «وما تسأل » وقرأ ابن مسعود «ولن تسأل » ، وهاتان القراءتان تؤيدان معنى القطع والاستئناف في غيرهما( {[1198]} ) ، و { الجحيم } إحدى طبقات النار .
جملة معترضة بين حكايات أحوال المشركين وأهل الكتاب ، القصد منها تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام من أسفه على ما لقيه من أهل الكتاب مما يماثل ما لقيه من المشركين وقد كان يود أن يؤمن به أهل الكتاب فيتأيد بهم الإسلام على المشركين فإذا هو يلقى منهم ما لقي من المشركين أو أشد وقد قال « لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم » فكان لتذكير الله إياه بأنه أرسله تهدئة لخاطره الشريف وعذر له إذ أبلغ الرسالة وتطمين لنفسه بأنه غير مسؤول عن قوم رضوا لأنفسهم بالجحيم . وفيه تمهيد للتأييس من إيمان اليهود والنصارى .
وجيء بالتأكيد وإن كان النبي لا يتردد في ذلك لمزيد الاهتمام بهذا الخبر وبيان أنه ينوه به لما تضمنه من تنويه شأن الرسول .
وجيء بالمسند إليه ضمير الجلالة تشريفاً للنبيء صلى الله عليه وسلم بعز الحضور لمقام التكلم مع الخالق تعالى وتقدس كأن الله يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة فلذا لم يقل له إن الله أرسلك .
وقوله : { بالحق } متعلق بأرسلناك . والحق هو الهدى والإسلام والقرآن وغير ذلك من وجوه الحق المعجزات وهي كلها ملابسة للنبيء صلى الله عليه وسلم في رسالته بعضها بملابسة التبليغ وبعضها بملابسة التأييد . فالمعنى إنك رسول الله وإن القرآن حق منزل من الله .
وقوله : { بشيراً ونذيراً } حالان وهما بزنة فعيل بمعنى فاعل مأخوذان من بشر المضاعف وأنذر المزيد فمجيئهما من الرباعي على خلاف القياس كالقول في { بديع السماوات والأرض } [ البقرة : 117 ] المتقدم آنفاً ، وقيل : البشير مشتق من بشر المخفف الشين من باب نصر ولا داعي إليه .
وقوله : { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } الواو للعطف وهو إما على جملة { إنا أرسلناك } أو على الحال في قوله : { بشيراً ونذيراً } ويجوز كون الواو للحال .
قرأ نافع ويعقوب بفتح الفوقية وسكون اللام على أنَّ ( لا ) حرف نهي جازم للمضارع وهو عطف إنشاء على خبر والسؤال هنا مستعمل في الاهتمام والتطلع إلى معرفة الحال مجازاً مرسلاً بعلاقة اللزوم لأن المعني بالشيء المتطلع لمعرفة أحواله يكثر من السؤال عنه ، أو هو كناية عن فظاعة أحوال المشركين والكافرين حتى إن المتفكر في مصير حالهم ينهى عن الاشتغال بذلك لأنها أحوال لا يحيط بها الوصف ولا يبلغ إلى كنهها العقل في فظاعتها وشناعتها ، وذلك أن النهي عن السؤال يرد لمعنى تعظيم أمر المسؤول عنه نحو قول عائشة : « يصلي أربعاً فلا تَسْأَلْ عن حسنهن وطولهن » ولهذا شاع عند أهل العلم إلقاء المسائل الصعبة بطريقة السؤال نحو ( فإن قلت ) للاهتمام .
وقرأه جمهور العشرة بضم الفوقية ورفع اللام على أن ( لا ) نافية أي لا يسألك الله عن أصحاب الجحيم وهو تقرير لمضمون { إنا أرسلناك بالحق } والسؤال كناية عن المؤاخذة واللوم مثل قوله صلى الله عليه وسلم " وكلكم مسؤول عن رعيته " أي لست مؤاخذاً ببقاء الكافرين على كفرهم بعد أن بلغت لهم الدعوة .
وما قيل إن الآية نزلت في نهيه صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه في الآخرة فهو استناد لرواية واهية ولوصحت لكان حمل الآية على ذلك مجافياً للبلاغة إذ قد علمت أن قوله : { إنا أرسلناك } تأنيس وتسكين فالإتيان معه بما يذكِّر المكدرات خروج عن الغرض وهو مما يعبر عنه بفساد الوضع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنا أرسلناك بالحق}، يقول: لم نرسلك عبثا لغير شيء.
{بشيرا ونذيرا} بشيرا بالجنة ونذيرا من النار.
{ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} فإن الله قد أحصاها عليهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{إنّا أرْسَلْناكَ بالحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا}: إنا أرسلناك يا محمد بالإسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الأديان، وهو الحقّ، مبشرا من اتبعك فأطاعك وقَبِلَ منك ما دعوته إليه من الحقّ بالنصر في الدنيا، والظفر بالثواب في الاَخرة والنعيم المقيم فيها، ومنذرا من عصاك فخالفك وردّ عليك ما دعوته إليه من الحقّ بالخزي في الدنيا، والذلّ فيها، والعذاب المهين في الآخرة.
{وَلا تُسْألُ عَنْ أصْحَاب الجَحِيمِ}: قرأت عامة القراء:"وَلا تُسألُ عَنْ أصْحَابِ الجَحِيمِ" بضم التاء من «تُسأل» ورفع اللام منها على الخبر، بمعنى: يا محمد إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا، فبلغت ما أرسلت به، وإنما عليك البلاغ والإنذار، ولست مسئولاً عمن كفر بما أتيته به من الحقّ وكان من أهل الجحيم.
وقرأ ذلك بعض أهل المدينة: «وَلا تَسْألْ» جزما بمعنى النهي مفتوح التاء من «تَسأل»، وجَزْم اللام منها. ومعنى ذلك على قراءة هؤلاء: إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به، لا لتسأل عن أصحاب الجحيم، فلا تسألْ عن حالهم...
والصواب عندي من القراءة في ذلك قراءة من قرأ بالرفع على الخبر لأن الله جل ثناؤه قصّ قصص أقوام من اليهود والنصارى، وذكر ضلالتهم، وكُفْرَهم بالله، وجراءَتهم على أنبيائه، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك يا محمد بشيرا من آمن بك واتبعك ممن قصصت عليك أنباءه ومن لم أقصص عليك أنباءه، ونذيرا من كفر بك وخالفك، فبلّغ رسالتي، فليس عليك من أعمال من كفر بك بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك. ولم يجر لمسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عن أصحاب الجحيم ذكر، فيكون لقوله: {وَلا تَسألُ عَنْ أصْحَابِ الجَحِيمِ} وجهٌ يوجّه إليه.
وإنما الكلام موجه معناه إلى ما دلّ عليه ظاهره المفهوم، حتى تأتي دلالة بيّنة تقوم بها الحجة على أن المراد به غير ما دلّ عليه ظاهره فيكون حينئذ مسلما للحجة الثابتة بذلك. ولا خبر تقوم به الحجة على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نُهي عن أن يسأل في هذه الآية عن أصحاب الجحيم، ولا دلالة تدلّ على أن ذلك كذلك في ظاهر التنزيل.
والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل هذه الآية وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، دون النهي عن المسألة عنهم.
فإن ظنّ ظانّ أن الخبر الذي رُوي عن محمد بن كعب صحيح، فإن في استحالة الشكّ من الرسول عليه السلام في أن أهل الشرك من أهل الجحيم، وأن أبويه كانا منهم، ما يدفع صحة ما قاله محمد بن كعب إن كان الخبر عنه صحيحا، مع أن ابتداء الله الخبر بعد قوله: {إنّا أرْسَلْنَاكَ بالحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا} بالواو بقوله: ولا تسأل عن أصحاب الجحيم، وتركه وصل ذلك بأوله بالفاء، وأن يكون: {إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا}، ولا تسأل عن أصحاب الجحيم، أوضح الدلائل على أن الخبر بقوله: {ولا تسأل}، أولى من النهي، والرفع به أولى من الجزم...
وقد كان بعض نحويي البصرة يوجه قوله: {وَلا تُسْألُ عَنْ أصْحَابِ الجَحِيمِ} إلى الحال، كأنه كان يرى أن معناه: إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الجحيم، وذلك إذا ضم التاء. وقرأه على معنى الخبر، وكان يجيز على ذلك قراءته: «ولا تَسْألُ»، بفتح التاء وضم اللام على وجه الخبر بمعنى: إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا، غير سائل عن أصحاب الجحيم. وقد بينا الصواب عندنا في ذلك...
وأما "أصحاب الجحيم": فالجحيم هي النار بعينها إذا شبّت وقودها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}... فيها لغتان: ولا تَسأل بنصب التاء... أي لا تشتغل بأصحاب الجحيم فإن ذلك تكلف وشغل.
وفيها لغة أخرى برفع التاء. {ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم} أي لا تُسأل أنت يا محمد عن ذنوب أصحاب الجحيم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} يا محمّد {بِالْحَقِّ} بالصدق...وهو ضد الباطل...
[عن] ابن عبّاس: بالقرآن [و] دليله قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ} [ق: 5].
[عن] ابن كيسان: بالإسلام، [و] دليله قوله عزّ وجلّ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81]
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أفردناكَ بخصائص لم نُظْهِرْها على غيرك؛ فالجمهور والكافة تحت لوائك، والمقبول من وافَقَك، والمردود من خالفَك، وليس عليك من أحوال الأغيار سؤال...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّا أرسلناك} لأن تبشر وتنذر لا لتجبر على الإيمان، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه، لأنه كان يغتم ويضيق صدره لإصرارهم وتصميمهم على الكفر. ولا نسألك {عَنْ أصحاب الجحيم} ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت وبلغت جهدك في دعوتهم، كقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40] وقرئ: «ولا تَسْأَلْ» على النهي... وقيل معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب كما تقول: كيف فلان؟ سائلاً عن الواقع في بلية، فيقال لك: لا تسأل عنه. ووجه التعظيم أن المستخبر يجزع أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره، و أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره، فلا تسأل...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
فأما الجحيم؛ [فقال]... ابن الأنباري: قال أحمد بن عبيد: إنما سميت النار جحيما، لأنها أكثر وقودها، من قول العرب: جحمت النار أجحمها: إذا أكثرت لها الوقود...
اعلم أن القوم لما أصروا على العناد واللجاج الباطل واقترحوا المعجزات على سبيل التعنت، بين الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا مزيد على ما فعله في مصالح دينهم من إظهار الأدلة، وكما بين ذلك بين أنه لا مزيد على ما فعله الرسول في باب الإبلاغ والتنبيه لكي لا يكثر غمه بسبب إصرارهم على كفرهم...
(أحدها): أنه متعلق بالإرسال، أي أرسلناك إرسالا بالحق.
(وثانيها): أنه متعلق بالبشير والنذير أي أنت مبشر بالحق ومنذر به.
(وثالثها): أن يكون المراد من الحق الدين والقرآن، أي أرسلناك بالقرآن حال كونه بشيرا لمن أطاع الله بالثواب ونذيرا لمن كفر بالعقاب. والأولى أن يكون البشير والنذير صفة للرسول صلى الله عليه وسلم، فكأنه تعالى قال: إنا أرسلناك يا محمد بالحق لتكون مبشرا لمن اتبعك واهتدى بدينك، ومنذرا لمن كفر بك وضل عن دينك. وفي الآية دلالة على أن أحدا لا يسأل عن ذنب غيره ولا يؤاخذ بما اجترمه سواه سواء [أكان] قريبا [أم] كان بعيدا...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر أنه بين الآيات، ذكر من بينت على يديه، فأقبل عليه وخاطبه صلى الله عليه وسلم ليعلم أنه هو صاحب الآيات فقال:
{إنا أرسلناك بالحق}... وبالحق في موضع الحال، أي أرسلناك ومعك الحق لا يزايلك...
وعدل إلى فعيل للمبالغة، لأن فعيلاً من صفات السجايا...
سياق الكلام يدل على أن ذلك عائد على اليهود والنصارى ومشركي العرب، الذين جحدوا نبوّته وكفروا عناداً، وأصروا على كفرهم...
الظاهر أن المعجزات هي المراد. وقدم البشارة على النذارة لأنّ القاعدة في محاولة الأمور الصعبة أن يبدأ فيها بالتلطّف والتيسير ليكون أدعى للقبول... كما قال {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال الحرالي: لما أجرى الله سبحانه من الخطاب عن أهل الكتاب والعرب نبّأ ردهم لما أنزل أولاً وآخراً ونبأ ما افتروه مما لا شبهة فيه دعواه، أعرض بالخطاب عن الجميع وأقبل به على النبي صلى الله عليه وسلم تسلية له وتأكيداً لما أعلمه به في أول السورة من أن الأمر مجرى على تقديره وقسمته الخلق بين مؤمن وكافر ومنافق، فأنبأه تعالى أنه ليس مضمون رسالته أن يدعو الخلق إلى غير ما جبلوا عليه، وأن مضمون رسالته أن يستظهر خبايا الأفئدة والقلوب على الألسنة والأعمال، فيبشر المهتدي والثابت على هدى سابق، وينذر الأبيّ والمنكر لما سبق إقراره به قبل، فعم بذلك الأولين والآخرين من المبشرين والمنذرين -انتهى –
أي فليس عليك إلا ذلك فبشر وأنذر فإنما عليك البلاغ وليس عليك خلق الهداية في قلوب أهل النعيم {ولا تسأل} ويجوز أن يكون حالاً من {أرسلناك} أو من {بشيراً} {عن أصحاب الجحيم}: والمراد بهم من ذكر في الآية السابقة من الجهلة ومن قبلهم، أي عن أعمالهم لتذهب نفسك عليهم حسرات لعدم إيمانهم، كما قال تعالى {ولا تسألون عما كانوا يعملون} [البقرة: 141] أي فحالك مستو بالنسبة إلينا وإليهم. لأنك إن بلغتهم جميع ما أرسلت به إليهم لم نحاسبك بأعمالهم، وإن تركت بعض ذلك محاسنة لهم لم يحبّوك ما دمت على دينك فأقبل على أمرك ولا تبال بهم، وهو معنى قراءة نافع {ولا تسأل} على النهي، أي احتقرهم فإنهم أقل من أن يلتفت إليهم، فبلغهم جميع الأمر فإنهم لا يحبونك إلا إذا انسخلت مما أنت عليه؛ وفي الحكم بكونهم أصحابها إثبات لما نفوه عن أنفسهم بقوله: {لن تمسنا النار} الآية [البقرة: 80] ونفى لما خصصوا به أنفسهم في قولهم: {لن يدخل الجنة} الآية [البقرة: 111]،
والجحم قال الحرالي: انضمام الشيء وعظم فيه، ومن معنى حروفه الحجم: وهو التضام وظهور المقدار إلا أن الحجم فيما ظهر كالأجسام والجحم- بتقديم الجيم -فيما يلطف كالصوت والنار...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وحملُه على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه مما لا يساعدُه النظمُ الكريمُ...
وفي التعبير عنهم بصاحبية الجحيم دون الكفر والتكذيب ونحوهما وعيدٌ شديد لهم وإيذانٌ بأنهم مطبوعٌ عليهم لا يرجى منهم الإيمانُ قطعاً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال تعالى {إنا أرسلناك بالحق} أي بالشيء الثابت المتحقق الذي لا يضل من يأخذ به ولا تعبث به رياح الأباطيل والأوهام، بل يكون الآخذ به سعيدا بالطمأنينة واليقين...
قال الأستاذ الإمام: إن الحق في هذا المقام يشمل العلوم الاعتقادية وغيرها، فهو يقول: إن أرسلناك بالعقائد الحق المطابقة للواقع، والشرائع الصحيحة الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخر {بشيرا} لمن يتبع الحق بالسعادتين {ونذيرا} لمن لا يأخذ به بشقاء الدنيا وخزي الآخرة
{ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} أي فلا يضرك تكذيب المكذبين الذين يساقون بجحودهم إلى الجحيم لأنك لم تبعث ملزما لهم ولا جبارا عليهم فيعد عدم إيمانهم تقصيرا منك تسأل عنه، بل بعثت معلما وهاديا بالبيان والدعوة، وحسن الأسوة، لا هاديا بالفعل ولا ملزما بالقوة، {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء}...
وفي الآية من العبرة أن الأنبياء بعثوا معلمين لا مسيطرين، ولا متصرفين في الأنفس ولا مكرهين، فإذا جاهدوا فإنما يجاهدون دفاعا عن الحق لا إكراها عليه. وفيها أن الله تعالى لا يطالب الناس بأن يأخذوا عنهم إلا العلم الذي يهديهم إلى معرفة حقوق الله وحقوق العباد...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة للآيات الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} فهذا مشتمل على الآيات التي جاء بها، وهي ترجع إلى ثلاثة أمور: الأول: في نفس إرساله، والثاني: في سيرته وهديه ودله، والثالث: في معرفة ما جاء به من القرآن والسنة. فالأول والثاني، قد دخلا في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} والثالث دخل في قوله: {بِالْحَقِّ}
وبيان الأمر الأول وهو -نفس إرساله- أنه قد علم حالة أهل الأرض قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من عبادة الأوثان والنيران، والصلبان، وتبديلهم للأديان، حتى كانوا في ظلمة من الكفر، قد عمتهم وشملتهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، قد انقرضوا قبيل البعثة. وقد علم أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى، ولم يتركهم هملا، لأنه حكيم عليم، قدير رحيم، فمن حكمته ورحمته بعباده، أن أرسل إليهم هذا الرسول العظيم، يأمرهم بعبادة الرحمن وحده لا شريك له، فبمجرد رسالته يعرف العاقل صدقه، وهو آية كبيرة على أنه رسول الله،
وأما الثاني: فمن عرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة تامة، وعرف سيرته وهديه قبل البعثة، ونشوءه على أكمل الخصال، ثم من بعد ذلك، قد ازدادت مكارمه وأخلاقه العظيمة الباهرة للناظرين، فمن عرفها، وسبر أحواله، عرف أنها لا تكون إلا أخلاق الأنبياء الكاملين، لأن الله تعالى جعل الأوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها وصدقهم وكذبهم.
وأما الثالث: فهو معرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الشرع العظيم، والقرآن الكريم، المشتمل على الإخبارات الصادقة، والأوامر الحسنة، والنهي عن كل قبيح، والمعجزات الباهرة، فجميع الآيات تدخل في هذه الثلاثة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإذا انتهت مقولاتهم، وفندت أباطيلهم، وكشفت الدوافع الكامنة وراء أضاليلهم، يتجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين له وظيفته، ويحدد له تبعاته، ويكشف له عن حقيقة المعركة بينه وبين اليهود والنصارى، وطبيعة الخلاف الذي لا حل له إلا بثمن لا يملكه ولا يستطيعه! ولو أداه لتعرض لغضب الله مولاه؛ وحاشاه!...
(إنا أرسلناك بالحق).. وهي كلمة فيها من التثبيت ما يقضي على شبهات المضللين، ومحاولات الكائدين، وتلبيس الملفقين، وفي جرسها صرامة توحي بالجزم واليقين.
(بشيرا ونذيرا).. وظيفتك البلاغ والأداء، تبشر الطائعين وتنذر العصاة، فينتهي دورك.
(ولا تسأل عن أصحاب الجحيم).. الذين يدخلون الجحيم بمعصيتهم، وتبعتهم على أنفسهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة معترضة بين حكايات أحوال المشركين وأهل الكتاب، القصد منها تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام من أسفه على ما لقيه من أهل الكتاب مما يماثل ما لقيه من المشركين وقد كان يود أن يؤمن به أهل الكتاب فيتأيد بهم الإسلام على المشركين فإذا هو يلقى منهم ما لقي من المشركين أو أشد... فكان لتذكير الله إياه بأنه أرسله تهدئة لخاطره الشريف وعذر له إذ أبلغ الرسالة وتطمين لنفسه بأنه غير مسؤول عن قوم رضوا لأنفسهم بالجحيم. وفيه تمهيد للتأييس من إيمان اليهود والنصارى.
وجيء بالتأكيد وإن كان النبي لا يتردد في ذلك لمزيد الاهتمام بهذا الخبر وبيان أنه ينوه به لما تضمنه من تنويه شأن الرسول. وجيء بالمسند إليه ضمير الجلالة تشريفاً للنبيء صلى الله عليه وسلم بعز الحضور لمقام التكلم مع الخالق تعالى وتقدس كأن الله يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة فلذا لم يقل له إن الله أرسلك.
هنا لابد أن نلتفت إلى أن الله سبحانه وتعالى حينما يخبرنا عن قضية من فعله. يأتي دائما بنون العظمة التي نسميها نون المتكلم.. ونلاحظ أن نون العظمة يستخدمها رؤساء الدول والملوك ويقولون نحن فلان أمرنا بما هو آت.. فكأن العظمة في الإنسان سخرت المواهب المختلفة لتنفيذ القرار الذي يصدره رئيس الدولة.. فيشترك في تنفيذه الشرطة والقضاء والدولة والقوات المسلحة إذا كان قرار حرب.. تشترك مواهب متعددة من جماعات مختلفة تتكاتف لتنفيذ القرار..
والله تبارك وتعالى عنده الكمال المطلق.. كل ما هو لازم للتنفيذ من صفات الله سبحانه وتعالى.. فإذا تحدث الله جل جلاله عن فعل يحتاج إلى كمال المواهب من الله تبارك وتعالى يقول "إنا ": {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "9 "} (سورة الحج). ولكن حين يتكلم الله عن ألوهيته وحده وعن عبادته وحده يستخدم ضمير المفرد.. مثل قوله سبحانه: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري "14 "} (سورة طه). ولا يقول فاعبدنا.. إذن ففي كل فعل يأتي الله سبحانه بنون العظمة.. وفي كل أمر يتعلق بالعبادة والتوحيد يأتي بالمفرد.. وذلك حتى نفهم أن الفعل من الله ليس وليد قدرته وحدها.. ولا علمه وحده ولا حكمته وحدها ولا رحمته وحدها.. وإنما كل فعل من أفعال الله تكاملت فيه صفات الكمال المطلق لله. إن نون العظمة تأتي لتلفتنا إلى هذه الحقيقة لتبرز للعقل تكامل الصفات في الله.. لأنك قد تقدر ولا تعلم.. وقد تعلم ولا تقدر، وقد تعلم وتغيب عنك الحكمة. إذن فتكامل الصفات مطلوب...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
حدود المسؤولية: وقد حاول المفسرون أن يعتبروا هذه الآية وأمثالها تسلية للنبيّ... أمّا نحن فلا نرى هذا الرأي، بل نعتقد أنَّ هذه الآيات واردة في مورد وضع القاعدة الثابتة للمسؤولية التي يتحملها النبيّ من حيث هو رسول وداعية، وتحديدها بالعناصر الاختيارية لأساليب الدعوة ووسائلها التي يملكها، من حيث طبيعة الفكرة والكلمة والأسلوب والجوّ العام؛ أمّا الجوانب الأخرى التي تخرج عن اختياره، وترجع إلى أشياء ذاتية في حياتهم النفسية، أو إلى ظروف موضوعية أخرى، فهذا ما لا يدخل في حساب مسؤوليته، وبذلك فلا مجال لأي حزن أو خوف أو حسرة، لأنَّ اللّه لم يرسل رسوله ليغيِّر الكون تغييراً تكوينياً بشكل غير طبيعي، بل كلّ مهمته هي السير في عملية التغيير من خلال وسائلها الطبيعية التي لا يملك كلّ عناصرها، فلا يكلّف إلاَّ بما يملكه في نطاق قدرته، وليس هذا مختصاً بالنبيّ محمَّد صلى الله عليه وسلم أو بالأنبياء من قبله، بل يشمل كلّ داعية إلى اللّه، في أي موقع من مواقع الدعوة، فليس عليه إلاَّ أن يفجر كلّ طاقاته ويستخدم كلّ الأساليب والوسائل التي يملكها للوصول إلى قناعة الآخرين وتغيير الواقع، فإذا فعل ذلك فقد قام بمسؤوليته... وتلك هي الطريقة الواقعية العملية التي تفرغ داخله من كلّ انفعال غير طبيعي، ما يجعله يواجه الفشل والهزيمة مواجهةً هادئة لا تنسحق أمام نتائج الهزيمة وعناصرها، بل تقف في ساحة الواقع لتجمع العناصر الجديدة الممكنة التي يمكن لها أن تحوِّل الهزيمة إلى نصر، والفشل إلى نجاح، من خلال دراسة الأسباب الواقعية لما حدث ومحاولة التغلب عليها في حركة المستقبل...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -على المؤمن أن يدعو إلى الله تعالى، وليس عليه أن يهدي، إذ الهداية بيد الله، وأما الدعوة فهي في قدرة الإِنسان، وهو مكلّف بها...