البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗاۖ وَلَا تُسۡـَٔلُ عَنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡجَحِيمِ} (119)

الجحيم : إحدى طبقات النار ، أعاذنا الله منها .

وقال الفراء : الجحيم : النار على النار .

وقال أبو عبيد : النار المستحكمة المتلظية .

وقال الزجاج : النار الشديدة الوقود ، يقال جحمت النار تجحم : اشتدّ وقودها .

وهذه كلها أقوال يقرب بعضها من بعض .

وقال ابن فارس : الجاحم : المكان الشديد الحر ، ويقال لعين الأسد : جحمة ، لشدة توقدها ، ويقال لشدة الحر : جاحم ، قال :

والحرب لا يبقى لجا *** حمها التخيل والمراح

{ إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً } : بشيراً لمن آمن ، ونذيراً لمن كفر .

وهذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان يضيق صدره لتماديهم على ضلالهم .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما ذكر أنه بين الآيات ، ذكر من بينت على يديه ، فأقبل عليه وخاطبه صلى الله عليه وسلم ليعلم أنه هو صاحب الآيات فقال : { إنا أرسلناك بالحق } ، أي بالآيات الواضحة ، وفسر الحق هنا بالصدق وبالقرآن وبالإسلام .

وبالحق في موضع الحال ، أي أرسلناك ومعك الحق لا يزايلك .

وانتصاب بشيراً ونذيراً على الحال من الكاف ، ويحتمل أن يكون حالاً من الحق ، لأن ما جاء به من الحق يتصف أيضاً بالبشارة والنذارة .

والأظهر الأول .

وعدل إلى فعيل للمبالغة ، لأن فعيلاً من صفات السجايا ، والعدل في بشير للمبالغة ، مقيس عند سيبويه ، إذا جعلناه من بشر لأنهم قالوا بشر مخففاً ، وليس مقيساً في نذير لأنه من أنذر ، ولعل محسن العدل فيه كونه معطوفاً على ما يجوز ذلك فيه ، لأنه قد يسوغ في الكلمة مع الاجتماع مع ما يقابلها ما لا يسوغ فيها لو انفردت ، كما قالوا : أخذه ما قدم وما حدث وشبهه .

{ ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } : قراءة الجمهور : بضم التاء واللام .

وقرأ أبي : وما تسأل .

وقرأ ابن مسعود : ولن تسأل ، وهذا كله خبر .

فالقراءة الأولى ، وقراءة أبي يحتمل أن تكون الجملة مستأنفة ، وهو الأظهر ، ويحتمل أن تكون في موضع الحال .

وأما قراءة ابن مسعود فيتعين فيها الاستئناف ، والمعنى على الاستئناف أنك لا تسأل عن الكفار ما لهم لم يؤمنوا ، لأن ذلك ليس إليك ، { إن عليك إلا البلاغ } { إنك لا تهدي من أحببت } { إنما أنت منذر } وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ، وتخفيف ما كان يجده من عنادهم ، فكأنه قيل : لست مسؤولاً عنهم ، فلا يحزنك كفرهم .

وفي ذلك دليل على أن أحداً لا يسأل عن ذنب أحد ، { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وأما الحال فعطف على ما قبلها من الحال ، أي وغير مسؤول عن الكفار ما لهم لا يؤمنون ، فيكون قيداً في الإرسال ، بخلاف الاستئناف .

وقرأ نافع ويعقوب : ولا تسأل ، بفتح التاء وجزم اللام ، وذلك على النهي ، وظاهره : أنه نهى حقيقة ، نهى صلى الله عليه وسلم أن يسأل عن أحوال الكفار .

قال محمد بن كعب القرظي : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ليت شعري ما فعل أبواي » فنزلت ، واستبعد في المنتخب هذا ، لأنه عالم بما آل إليه أمرهما .

وقد ذكر عياض أنهما أحييا له فأسلما .

وقد صح أن الله أذن له في زيارتهما ، واستبعد أيضاً ذلك ، لأن سياق الكلام يدل على أن ذلك عائد على اليهود والنصارى ومشركي العرب ، الذين جحدوا نبوّته ، وكفروا عناداً ، وأصروا على كفرهم .

وكذلك جاء بعده : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } إلا إن كان ذلك على سبيل الانقطاع من الكلام الأول ، ويكون من تلوين الخطاب وهو بعيد .

وقيل : يحتمل أن لا يكون نهياً حقيقة ، بل جاء ذلك على سبيل تعظيم ما وقع فيه أهل الكفر من العذاب ، كما تقول : كيف حال فلان ، إذا كان قد وقع في بلية ، فيقال لك : لا تسأل عنه .

ووجه التعظيم : أن المستخبر يجزع أن يجري على لسانه ما ذلك الشخص فيه لفظاعته ، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره ، أو أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره ، فلا تسأل ، فيكون معنى التعظيم : إما بالنسبة إلى المجيب ، وإما بالنسبة إلى المجاب ، ولا يراد بذلك حقيقة النهي .

/خ123