الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗاۖ وَلَا تُسۡـَٔلُ عَنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡجَحِيمِ} (119)

قولُه تعالى : { بِالْحَقِّ } : يجوزُ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ مفعولاً به أي : بسببِ إقامةِ الحقِّ . الثاني : أَنْ يكونَ حالاً من المفعولِ في ، " أَرْسلناك " أي : أَرْسلناك ملتبساً بالحقِّ . الثالث : أن يكونَ حالاً من الفاعل أي : ملتبسين في الحقِّ ، قوله : " بَشيراً ونذيراً " يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : ان يكونَ حالاً من المفعول ، وهو الظاهرُ . الثاني : أن يكونَ حالاً مِن " الحقِّ " لأنه يُوصف أيضاً بالبِشارة والنِّذارة ، وبشير ونذيرِ على صيغة فَعيل ، أمَّا بشير فتقولُ هو من بَشَر مخففاً لأنه مسموعٌ فيه ، وفَعِيلُ مُطَّردٌ من الثلاثي ، وأمَّا " نذير " فمن الرباعي ولا يَنْقاس عَدْلُ مُفْعِل إلى فعيل ، إلا أنَّ له هنا مُحَسِّناً .

قوله : { وَلاَ تُسْأَلُ } قرأ الجمهور : " تُسْأَلُ " مبنياً للمفعول مع رفعِ الفعلِ على النفي . وقُرىء شاذاً : " تَسْأَلُ " مبنياً للفاعل مرفوعاً أيضاً ، وفي هذه الجملةِ وجهان : أحدُهما : أنه حالٌ فيكونُ معطوفاً على الحال قبلها ، كأنه قيل : بشيراً أو نذيراً وغيرَ مسؤول . والثاني : أن تكونَ مستأنفةً . وقرأ نافع " تُسْأَلْ " على النهي وهذا مستأنفٌ فقط ، ولا يجوزُ أن تكونَ حالاً لأنَّ الطَلَبَ لا يَقعُ حالاً . والجحيمُ : شدَّةُ تَوَقُّدِ النار ، ومنه قيل لعين الأسد : " جَحْمة " لشدَّة توقُّدِها ، يُقال : جَحِمَتِ النارُ تَجْحَمُ ، ويقال لشدة الحر : " جاحم " ، قال :

والحربُ لا يَبْقى لِجَا *** حمِها التخيُّلُ والمِراحُ

والرِّضا : ضدُّ الغضَبِ ، وهو من ذَواتِ الواوِ لقولِهم : الرُّضْوانِ ، والمصدر : رِضا ورِضاء بالقصرِ والمَدّ ورِضْواناً ورُضْواناً بكسرِ الفاء وضمِّها ، وقد يَتَضَمَّن معنى " عَطَفَ " فيتعدَّى ب " على " ، قال :

إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والمِلَّةُ في الأصلِ : الطريقةُ ، يقال : طريقٌ مُمِلٌّ : أي : أثَّر فيه المَشْيُ ويُعَبَّر بها عن الشريعة تَشْبيهاً بالطريقةِ ، وقيل : بل اشْتُقَّت من " أَمْلَلْتُ " لأنَّ الشريعةَ فيها مَنْ يُملي ويُمْلَى عليه .