اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗاۖ وَلَا تُسۡـَٔلُ عَنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡجَحِيمِ} (119)

اعلم أن القوم لما أَصرُّوا على العِنَادِ واللّجَاج الباطل ، واقترحوا المعجزات على سبيل التعنت بيّن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا مزيد على ما فعله في مصالح دينهم من إظهار الأدلة .

قوله : " بالحَقِّ " يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مفعولاً به ، أي : بسبب إقامة الحق .

الثاني : أن يكون حالاً من المفعول في " أَرْسَلْنَاكَ " أي : أرسلناك ملتبساً بالحق .

الثالث : أن يكون حالاً من الفاعل ، أي : ملتبسين في الحق .

وفيه وجوه :

أحدها : أنه الصدق كقوله تعالى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ } [ يونس : 53 ] أي : صدق وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " بالقرآن " ، لقوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ } [ ق : 5 ] .

وقال ابن كيسان : " بالإسلام وشرائعه " ، لقوله تعالى : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ }

[ الإسراء : 81 ] ، وقال مقاتل : " لم نُرسِلْك عبثاً وإنما أرسلناك بالحق " لقوله عز وجل : { مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ }

[ الأحقاف : 3 ] وعلى هذه الأقوال في تعلّق هذا الجار وجوه :

أحدها : أنه متعلّق بالإرسال .

وثانيها : أنه متعلّق بالبشير والنذير أي : أنت مبشر بالحق ومنذر به .

وثالثها : أن يكون المراد من الحق الدين والقرآن ، أي أرسلناك بالقرآن حال كونك بشيراً لمن أطاع الله بالثواب ، ونذيراً لمن كفر بالعقاب ، والأولى أن يكون البشير والنذير حالاً من الرسول ، أي : أرسلناك بالحق لتكون بشيراً ونذيراً لمن اتبعك [ ونذيراً لمن كفر بك ] ويجوز أن يكون بشيراً ونذيراً حالاً من " الحق " ؛ لأنه يوصف أيضاً بالبشارة والنَّذَارة ، وبشير ونذير على صيغة " فعيل " .

أما بشير فتقول : هو من بَشَرَ مخففاً ؛ لأنه مسموع فيه ، و " فعيل " مطرد من الثلاثي .

وأما : " نذير " فمن الرباعي ، ولا ينقاس عَدْل مُفْعِل إلى فَعِيل ، إلا أن له هنا مُحَسِّناً .

قوله تعالى : " وَلاَ تُسْأَلُ " قرأ الجمهور : " تُسْأَلُ " مبنيًّا للمفعول مع رفع الفعل على النفي ، وفي معنى هذه القراءة وجوه :

أحدها : أن مصيرهم إلى الجحيم ، فمعصيتهم لا تضّرك ، ولست مسؤولاً عن ذلك ، وهو كقوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] وقوله : { عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ } [ النور : 54 ] .

الثاني : أنك هَادٍ وليس لك من الأمر شيء ، ولا تَغْتَمّ لكفرهم ومصيرهم إلى العذاب ، ونظيره قوله تعالى : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] .

الثالث : أنك لا تسأل عن ذَنْب غيرك ويعضد هذه القراءة قراءة أُبَيّ : " وما تسأل " ، وقراءة عبد الله " ولن تسأل " .

وقال مقاتل رحمه الله تعالى : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لَوْ أنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ بَأْسَهُ بِاليَهُودِ لآمَنُوا{[1744]} " ؛ فأنزل الله تعالى : { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } وقُرئ " تَسْألُ " مبيناً للفاعل مرفوعاً أيضاً ، وفي هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنه حال ، فيكون معطوفاً على الحال قبلها ، كأنه قيل : بشيراً أو نذيراً ، وغير مسؤول .

والثاني : أن تكون مستأنفةً .

وقرأ نافع ويعقوب : " تَسْأَلْ " على النَّهي ، وهذا مستأنف فقط ، ولا يجوز أن تكون حالاً ؛ لأن الطَّلب لا يقع حالاً .

وفي المعنى على هذه القراءة وجهان :

الأول : روي أنه قال : ليت شعري ما فعل أبواي ؟ فنهي عن السؤال عن أحوال الكفرة .

قال ابن الخطيب رحمه الله : وهذه الرواية بعيدة ؛ لأنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان عالماً بكفرهم ، وكان عالماً بأن الكافر معذّب ، فمع هذا العلم لا يجوز أن يسأل .

والثاني : معنى هذا النهي تعظيم ما وقع فيه الكُفَّار من العذاب ، كما إذا سألت عن إنسان واقع في بليّة ، فيقال لك : لا تسأل عنه .

وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه : " ولن تسأل " .

وقرأ أبي : " وما تسأل " ؛ ومعناهما موافق لقراءة الجمهور ، نفي أن يكون مسؤولاً عنهم .

والجحيم : شدّة توقّد النار ، ومنه قيل لعين الأسد : " جَحْمَة " لشدة توقُّدها ، يقال : جَحِمَتِ النَّارُ تَجْحَمُ ؛ ويقال لشَّدة الحر : " جاحم " ؛ قال :

[ مجزوء الكامل ]

768- وَالحَرْبُ لاَ يَبْقَى لِجَا *** حِمِهَا التَّخَيُّلُ وَالمِرَاحُ


[1744]:- ذكره القرطبي في تفسيره 2/64.