49- ويبعثه رسولا إلى بني إسرائيل ، مستدلا على صدق رسالته بمعجزات من الله ، هي أن يصور لكم من الطين صورة مثل صورة الطير ، ينفخ فيها فتحل فيها الحياة وتتحرك طائراً بإرادة الله ، ويشفي بتقدير الله من وُلِدَ أعمى فيبصر ، ومن به برص فيزول برصه ، ويعيد الحياة إلى من فقدها . كل ذلك بإذن الله وإرادته ، ويخبرهم بما يدَّخرون في بيوتهم من مأكول وغيره ، ويقول لهم : إن هذه الآيات التي أظهرها الله على يديّ حجة على أن رسالتي حق إن كنتم ممن يذعنون له ويصدقون به .
ثم ذكر له كمالا آخر وفضلا زائدا على ما أعطاه الله من الفضائل ، فقال { ورسولا إلى بني إسرائيل } فأرسله الله إلى هذا الشعب الفاضل الذين هم أفضل العالمين في زمانهم يدعوهم إلى الله ، وأقام له من الآيات ما دلهم أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا ولهذا قال { أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين } طيرا ، أي : أصوره على شكل الطير { فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله } أي : طيرا له روح تطير بإذن الله { وأبرى الأكمه } وهو الذي يولد أعمى { والأبرص } بإذن الله { وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } وأي : آية أعظم من جعل الجماد حيوانا ، وإبراء ذوي العاهات التي لا قدرة للأطباء في معالجتها ، وإحياء الموتى ، والإخبار بالأمور الغيبية ، فكل واحدة من هذه الأمور آية عظيمة بمفردها ، فكيف بها إذا اجتمعت وصدق بعضها بعضها ؟ فإنها موجبة للإيقان وداعية للإيمان .
( ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله . وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم . إن في ذلك لآية لكم . إن كنتم مؤمنين )
ويفيد هذا النص أن رسالة عيسى - عليه السلام - كانت لبني إسرائيل ، فهو أحد أنبيائهم . ومن ثم كانت التوراة التي نزلت على موسى - عليه السلام - وفيها الشريعة المنظمة لحياة الجماعة الإسرائيلية ، والمتضمنة لقوانين التعامل والتنظيم ، هي كتاب عيسى كذلك ، مضافا إليها الإنجيل الذي يتضمن إحياء الروح وتهذيب القلب وإيقاظ الضمير .
والآية التي بشر الله أمه مريم أنها ستكون معه ، والتي واجه بها بالفعل بني إسرائيل هي معجزة النفخ في الموات فيدخله سر الحياة ، وإحياء الموتى من الناس ، وإبراء المولود الأعمى ، وشفاء الأبرص ، والإخبار بالغيب - بالنسبة له - وهو المدخر من الطعام وغيره في بيوت بني إسرائيل ، وهو بعيد عن رؤيته بعينه . .
وحرص النص على أن يذكر على لسان المسيح - عليه السلام - كما هو مقدر في غيب الله عند البشارة لمريم ، وكما تحقق بعد ذلك على لسان عيسى - أن كل خارقة من هذه الخوارق التي جاءهم بها ، إنما جاءهم بها من عند الله . وذكر إذن الله بعد كل واحدة منها تفصيلا وتحديدا ؛ ولم يدع القول يتم ليذكر في نهايته إذن الله زيادة في الاحتياط !
وهذه المعجزات في عمومها تتعلق بإنشاء الحياة أو ردها ، أو رد العافية وهي فرع عن الحياة . ورؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية . . وهي في صميمها تتسق مع مولد عيسى ؛ ومنحه الوجود والحياة على غير مثال إلا مثال آدم - عليه السلام - وإذا كان الله قادرا أن يجري هذه المعجزات على يد واحد من خلقه ، فهو قادر على خلق ذلك الواحد من غير مثال . . ولا حاجة إذن لكل الشبهات والأساطير التي نشأت عن هذا المولد الخاص متى رد الأمر إلى مشيئة الله الطليقة ولم يقيد الإنسان الله - سبحانه - بمألوف الإنسان !
{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رّبّكُمْ أَنِيَ أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لّكُمْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَرَسُولاً } : ونجعله رسولاً إلى بني إسرائيل ، فترك ذكر «ونجعله » ، لدلالة الكلام عليه ، كما قال الشاعر :
ورأيتِ زَوْجَكِ في الوَغَى *** مُتَقَلّدا سَيْفا وَرُمْحا
وقوله : { أنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ } بمعنى : ونجعله رسولاً إلى بني إسرائيل بأنه نبيّ وبشير ونذير¹ وحجتي عن صدقي على ذلك ، أني قد جئتكم بآية من ربكم ، يعني بعلامة من ربكم تحقق قولي وتصدّق خبري ، أني رسول من ربكم إليكم .
كما : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَرَسُولاً إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ أنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } أي تحقق بها نبوّتي ، وأني رسول منه إليكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { أنّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا بِإذْنِ اللّهِ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم . ثم بين عن الاَية ما هي ، فقال : { أنّي أخْلُقُ لَكُمْ } . فتأويل الكلام : ورسولاً إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم بأن أخلق لكم من الطين كهيئة الطير . والطير جمع طائر .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض أهل الحجاز : «كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائرا » ، على التوحيد . وقرأه آخرون : { كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا } على الجماع كليهما .
وأعجب القراءات إليّ في ذلك قراءة من قرأ : { كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا } ، على الجماع فيهما جميعا ، لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله ، وأنه موافق لخط المصحف ، واتباع خط المصحف مع صحة المعنى ، واستفاضة القراءة به أعجب إليّ من خلاف المصحف .
وكان خلق عيسى : ما كان يخلق من الطير .
كما : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق : أن عيسى صلوات الله عليه ، جلس يوما مع غلمان من الكتاب ، فأخذ طينا ، ثم قال : أجعل لكم من هذا الطين طائرا ؟ قالوا : وتستطيع ذلك ؟ قال : نعم بإذن ربي ! ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه ، ثم قال : كن طائرا بإذن الله ! فخرج يطير بين كفيه ، فخرج الغلمان بذلك من أمره فذكروه لمعلمهم ، فأفشوه في الناس . وترعرع . فهمّت به بنو إسرائيل ، فلما خافت أمه عليه حملته على حُمَيّر لها ثم خرجت به هاربة .
وذكر أنه لما أراد أن يخلق الطير من الطين سألهم : أيّ الطير أشدّ خلقا ؟ فقيل له الخفاش .
كما : حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قوله : { أنّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ } قال : أيّ الطير أشدّ خلقا ؟ قالوا : الخفاش إنما هو لحم ، قال ففعل .
فإن قال قائل : وكيف قيل : { فأنْفُخُ فِيهِ } وقد قيل : { أنّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ } ؟ قيل : لأن معنى الكلام : فأنفخ في الطير . ولو كان ذلك : فأنفخ فيها ، كان صحيحا جائزا ، كما قال في المائدة : «فأنْفُخُ فِيها » يريد : فأنفخ في الهيئة ، وقد ذكر أن ذلك في إحدى القراءتين : «فأنفخها » ، بغير «في » ، وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول : ربّ ليلة قد بتها وبتّ فيها ، قال الشاعر :
ما شُقّ جَيْبٌ ولا قَامَتْكَ نائحةٌ *** ولا بكَتْكَ جِيادٌ عندَ أسْلابِ
بمعنى : ولا قامت*** عليك . وكما قال الاَخر :
إحْدَى بَنِي عَيّذِ اللّهِ اسْتَمَرّ بِهَا *** حُلْوُ العُصَارَةِ حتى يُنْفَخَ الصّورُ
القول في تأويل قوله تعالى : { وأُبْرِىءُ الأكْمَه وَالأبْرَصَ } .
يعني بقوله : { وأبْرِىءُ } : وأشفي ، يقال منه : أبرأ الله المريض : إذا شفاه منه ، فهو يبرئه إبراءً ، وبرأ المريض فهو يبرأ برءا ، وقد يقال أيضا : برىء المريض فهو يبرأ ، لغتان معروفتان .
واختلف أهل التأويل في معنى الأكمه ، فقال بعضهم : هو الذي لا يبصر بالليل ، ويبصر بالنهار . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ } قال : الأكمه : الذي يبصر بالنهار ، ولا يبصر بالليل ، فهو يَتَكَمّهُ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : هو الأعمى الذي ولدته أمه كذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كنا نحدّث أن الأكمه الذي ولد وهو أعمى مضموم العينين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، في قوله : { وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ } قال : كنا نحدّث أن الأكمه الذي ولد وهو أعمى مضموم العينين .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : الأكمه : الذي يولد وهو أعمى .
وقال آخرون : بل هو الأعمى . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وأُبْرِىءُ الأكمَهَ } : هو الأعمى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاح ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الأعمى .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ } قال : الأكمه : الأعمى .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ } قال : الأعمى .
وقال آخرون : هو الأعمش . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : { وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ } قال : الأعمش .
والمعروف عند العرب من معنى الكَمَهِ : العمى ، يقال منه : كَمِهَتْ عينه ، فهي تَكْمَهُ كمَهَا ، وأكمهتها أنا : إذا أعميتها ، كما قال سويد بن أبي كاهل :
كمِهَتْ عَيْناهُ حتى ابْيَضّتا *** فَهُوَ يَلْحَى نَفْسَهُ لما نَزَعْ
هَرّجْتُ فارْتَدّ ارْتدادَ الأكْمَهِ *** في غائلاتِ الحائِرِ المُتَهْتَهِ
وإنما أخبر الله عزّ وجلّ عن عيسى صلوات الله عليه ، أنه يقول ذلك لبني إسرائيل ، احتجاجا منه بهذه العِبر والآيات عليهم في نبوّته ، وذلك أن الكَمَه والبَرَص لا علاج لهما ، فيقدر على إبرائه ذو طبّ بعلاج ، فكان ذلك من أدلته على صدق قيله ، إنه لله رسول ، لأنه من المعجزات مع سائر الاَيات التي أعطاه الله إياها دلالة على نبوّته . فأما ما قال عكرمة ، من أن الكمه : العمش ، وما قاله مجاهد : من أنه سوء البصر بالليل ، فلا معنى لهما ، لأن الله لا يحتجّ على خلقه بحجة تكون لهم السبيل إلى معارضته فيها ، ولو كان مما احتجّ به عيسى على بني إسرائيل في نبوّته أنه يبرىء الأعمش ، أو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل لقدروا على معارضته بأن يقولوا : وما في هذا لك من الحجة ، وفينا خلق مما يعالج ذلك وليسوا لله أنبياء ولا رسلاً ، ففي ذلك دلالة بينة على صحة ما قلنا من أن الأكمه : هو الأعمى الذي لا يبصر شيئا لا ليلاً ولا نهارا ، وهو بما قال قتادة : من أنه المولود كذلك أشبه ، لأن علاج مثل ذلك لا يدّعيه أحد من البشر ، إلا من أعطاه الله مثل الذي أعطى عيسى ، وكذلك علاج الأبرص .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأُحْيِي المَوْتَى بإذْنِ اللّهِ وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } .
وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء الله ، يدعو لهم ، فيستجيب له .
كما : حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة ، أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر ، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر أن اطلعي به إلى الشام ، ففعلت الذي أمرت به ، فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة ، وكانت نبوّته ثلاث سنين ، ثم رفعه الله إليه . قال : وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفا ، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ، ومن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه ، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله .
وأما قوله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ } فإنه يعني : وأخبركم بما تأكلونه مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكْلِكُمُوهُ .
{ وما تَدّخِرُونَ } . يعني بذلك : وما ترفعونه فتخبئونه ولا تأكلونه ، يعلمهم أن من حجته أيضا على نبوّته مع المعجزات التي أعلمهم أنه يأتي بها حجة على نبوّته وصدقه في خبره ، أن الله أرسله إليهم : من خلق الطير من الطين ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى بإذن الله ، التي لا يطيقها أحد من البشر ، إلا من أعطاه الله ذلك ، علما له على صدقه ، وآية له على حقيقة قوله من أنبيائه ورسله ، ومن أحبّ من خلقه إنباءَه عن الغيب الذي لا سبيل لأحد من البشر الذين سبيلهم سبيله عليه .
فإن قال قائل : وما كان في قوله لهم : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } من الحجة له على صدقه ، وقد رأينا المتنجمة والمتكهنة تخبر بذلك كثيرا فتصيب ؟ قيل : إن المتنجم والمتكهن معلوم منهما عند من يخبره بذلك أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه ، ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ، ومن سائر أنبياء الله ورسله ، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال ، ولكن ابتداءً بإعلام الله إياه من غير أصل تقدّم ذلك¹ احتذاه ، أو بنى عليه أو فزع إليه ، كما يفزع المتنجم إلى حسابه ، والمتكهن إلى رئيّه ، فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها ، وبين علم سائر المتكذبة على الله ، أو المدّعية علم ذلك .
كما : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما بلغ عيسى تسع سنين أو عشرا أو نحو ذلك ، أدخلته أمه الكتاب فيما يزعمون ، فكان عند رجل من المكتبين يعلمه كما يعلم الغلمان ، فلا يذهب يعلمه شيئا مما يعلمه الغلمان إلا بدره إلى علمه قبل أن يعلمه إياه ، فيقول : ألا تعجبون لابن هذه الأرملة ، ما أذهب أعلمه شيئا إلا وجدته أعلم به مني .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لما كبر عيسى أسلمته أمه يتعلم التوراة ، فكان يلعب مع الغلمان ، غلمان القرية التي كان فيها ، فيحدّث الغلمان بما يصنع آباؤهم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : كان عيسى ابن مريم إذ كان في الكُتّاب يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدّخرون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، قال : سمعت سعيد بن جبير يقول :
{ وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : إن عيسى ابن مريم كان يقول للغلام في الكتاب : يا فلان إن أهلك قد خبأوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمني منه ؟
فهكذا فعل الأنبياء وحججها إنما تأتي بما أتت به من الحجيج بما قد يوصل إليه من ذلك الوجه بحيلة إلا من قبل الله .
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله : { وأُنَبّئُكُمُ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : بما أكلتم البارحة ، وما خبأتم منه¹ عيسى ابن مريم يقوله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح يعني قوله : { وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَما تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : الطعام والشيء يدّخرونه في بيوتهم غيبا علمه الله إياه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : ما تأكلون : ما أكلتم البارحة من طعام ، وما خبأتم منه .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كان يعني عيسى ابن مريم يحدّث الغلمان وهو معهم في الكتاب بما يصنع آباؤهم ، وبما يرفعون لهم ، وبما يأكلون ويقول للغلام : انطلق فقد رفع لك أهلك كذا وكذا ، وهم يأكلون كذا وكذا ، فينطلق الصبيّ فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء ، فيقولون له : من أخبرك بهذا ؟ فيقول : عيسى ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : { وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } فحبسوا صبيانهم عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، فجمعوهم في بيت ، فجاء عيسى يطلبهم ، فقالوا : ليس هم ههنا ، فقال : ما في هذا البيت ؟ فقالوا : خنازير ، قال عيسى : كذلك يكونون ! ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير ، فذلك قوله : { عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيَسى ابْنِ مَرْيَمَ } .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : ما تخبئون مخافة الذي يمسك أن لا يخلفه شيء .
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } : ما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم ، وما تدخرون منها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } فكان القوم لما سألوا المائدة ، فكانت جرابا ينزل عليه أينما كانوا ثمرا من ثمار الجنة ، فأمر القوم أن لا يخونوا فيه ، ولا يخبئوا ، ولا يدّخروا لغد ، بلاء ابتلاهم الله به ، فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئا أنبأهم به عيسى ابن مريم ، فقال : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ } قال : أنبئكم بما تأكلون من المائدة ، وما تدّخرون منها . قال : فكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا ، فادّخروا وخانوا ، فجعلوا خنازير حين ادّخروا وخانوا ، فذلك قوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لا أُعَذّبُهُ أحَدا مِنَ العَالَمِينَ } . قال ابن يحيى : قال عبد الرزاق : قال معمر ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن عمار بن ياسر ذلك .
وأصل يدّخرون من الفعل يَفْتَعِلون ، من قول القائل : ذخرت الشيء بالذال ، فأنا أذخره ، ثم قيل : يدّخر كما قيل : يدّكر ، من ذكرت الشيء ، يراد به يذتخر ، فلما اجتمعت الذال والتاء وهما متقاربتا المخرج ، ثقل إظهارهما على اللسان ، فأدغمت إحداهما في الأخرى وصيرتا دالاً مشددة صيروها عدلاً بين الذال والتاء ، ومن العرب من يغلب الذال على التاء فيدغم التاء في الذال ، فيقول : وما تذّخرون وهو مذّخر لك ، وهو مذّكر ، واللغة التي بها القراءة الأولى ، وذلك إدغام الذال في التاء ، وإبدالهما دالاً مشددة لا يجوز القراءة بغيرها لتظاهر النقل من القراء بها ، وهو اللغة الجُودَى ، كما قال زهير :
إِنّ الكَرِيمَ الذي يُعْطيكَ نائلَهُ *** عَفْوا وَيُظْلَمُ أحْيانا فَيَظّلِمُ
يروى بالظاء ، يريد : فيفتعل من الظلم ، ويروى بالطاء أيضا .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : إن في خلقي من الطين الطير بإذن الله ، وفي إبرائي الأكمه والأبرص ، وإحيائي الموتى ، وإنبائي إياكم بما تأكلون ، وما تدخرون في بيوتكم ، ابتداء من غير حساب وتنجيم ، ولا كهانة وعرافة ، لعبرة لكم ، ومتفكرا تتفكرون في ذلك ، فتعتبرون به أني محقّ في قولي لكم : إني رسول من ربكم إليكم ، وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق ، إن كنتم مؤمنين ، يعني : إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته ، مقرّين بتوحيده ونبيه موسى ، والتوراة التي جاءكم بها .
{ ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم } منصوب بمضمر على إرادة القول تقديره : ويقول أرسلت رسولا بأني قد جئتكم ، أو بالعطف على الأحوال المتقدمة مضمنا معنى النطق فكأنه قال : وناطقا بأني قد جئتكم ، وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثته إليهم أو للرد على من زعم أنه مبعوث إلى غيرهم . { أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير } نصب بدل من أني قد جئتكم ، أو جر بدل من آية ، أو رفع على هي أني أخلق لكم والمعنى : أقدر لكم وأصور شيئا مثل صورة الطير ، وقرأ نافع { إني } بالكسر { فأنفخ فيه } الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل . { فيكون طيرا بإذن الله } فيصير حيا طيارا بأمر الله ، نبه به على أن إحياءه من الله تعالى لا منه . وقرأ نافع هنا وفي المائدة " طائرا " بالألف والهمزة . { وأبرئ الأكمه والأبرص } الأكمه الذي ولد أعمى أو الممسوح العين . روي : أن ربما كان يجتمع عليه ألوف من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه الصلاة والسلام وما يداوي إلا بالدعاء . { وأحيي الموتى بإذن الله } كرر بإذن الله دفعا لتوهم الألوهية ، فإن الإحياء ليس من جنس الأفعال البشرية . { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكون فيها . { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } موفقين للإيمان فإن غيرهم لا ينتفع بالمعجزات ، أو مصدقين للحق غير معاندين .
{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ }
وقوله : { ورسولاً } حال معطوفة على { ويعلمه } إذ التقدير ، ومعلماً الكتاب ، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله { وجيهاً } [ آل عمران : 45 ] ، ويحتمل أن يكون التقدير ، ويجعله رسولاً{[3181]} ، وكانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ، مبيناً حكم التوراة ونادباً إلى العمل بها ومحللاً أشياء مما حرم فيها ، كالشحوم ولحوم الإبل وأشياء من الحيتان والطير . ومن أول القول لمريم إلى قوله { إسرائيل } خطاب لمريم . ومن قوله : { أني قد جئتكم } إلى قوله : { مستقيم } يحتمل أن يكون خطاباً لمريم على معنى يكون من قوله لبني إٍسرائيل : كيت وكيت ، ويكون في آخر الكلام متروكا يدل عليه الظاهر ، تقديره فجاء عيسى بني إسرائيل رسولاً فقال لهم ما تقدم ذكره { فلما أحس } ، ويحتمل أن يكون المتروك مقدراً في صدر الكلام بعد قوله : { إلى بني إسرائيل } ، فيكون تقديره فجاء عيسى كما بشر الله رسولاً إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم ، ويكون قوله : { أني قد جئتكم } ليس بخطاب لمريم ، والأول أظهر .
وقرأ جمهور الناس «أني قد جئتكم » بفتح الألف ، تقديره بأني وقرىء في الشاذ «إني قد جئتكم » . وجمهور الناس قرؤوا بآية على الإفراد وفي مصحف ابن مسعود «بآيات » ، وكذلك في قوله بعد هذا { وجئتكم بآيات من ربكم } واختلف القراء في فتح الألف وكسرها من قوله : { أني أخلق } ، فقرأ نافع وجماعة من العلماء ، «إني » بكسر الألف ، وقرأ باقي السبعة وجماعة من العلماء ، «أني » بفتح الألف ، فوجه قراءة نافع ، إما القطع والاستئناف وإما أنه فسر الآية بقوله ، «إني » كما فسر المثل في قوله { كمثل آدم } بقوله : { خلقه من تراب }{[3182]} إلى غير ذلك من الأمثلة ووجه قراءة الباقين البدل من آية ، كأنه قال : «وجئتكم بأني أخلق » ، وقيل : هي بدل من { أني } الأولى ، وهذا كله يتقارب في المعنى و { أخلق } معناه ، أقدر وأُهيىء بيدي ، ومن ذلك قول الشاعر [ زهير بن أبي سلمى ] {[3183]} : [ الكامل ]
وَلأَنْتَ تَفْري مَا خَلَقْتَ وَبَعْ . . . ضُ الْقَوْمِ يَخْلقُ ثمّ لا يفْري
وقوله { لكم } تقييد لقوله ، { أخلق } لأنه يدل دلالة ما ، على أنه لم يرد الإيجاد من العدم ، ويصرح بذلك قوله { بإذن الله } وحقيقة الخلق في الأجرام ، ويستعمل في المعاني ، ومنه قوله تعالى : { وتخلقون إفكاً }{[3184]} ومنه قول الشاعر{[3185]} : [ مجزوء الكامل مرفّل ]
من كان يخلق ما يقو . . . ل فحيلتي فيه قليله
وجمهور الناس قرأ «كهيئة » على وزن فعلة بفتح الفاء وهو مصدر من قولك ، هاء الشيء يهاء هيئاً وهيئة ، إذا ترتب واستقر على حال ما ، وهو الذي تعديه فتقول : هيأت ، وقرأ الزهري «كهِيَّئة الطير » ، بكسر الهاء وياء مفتوحة مشددة ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، «كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائراً » على الإفراد في الموضعين ، فالأول اسم الجنس والثاني مفرد ، أي يكون طائراً من الطيور ، وقرأ نافع وحده ، «كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائراً » بالإفراد في الأخير ، وهكذا قرأ في المائدة الباقون «كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً » بالجمع فيهما ، وكذلك في سورة المائدة ، ومعاني هذه القراءات بينة ، و { الطير } اسم جمع وليس من أبنية الجموع ، وإنما البناء في جمع طائر أطيار ، وجمع الجمع طيور ، وحكاه أبو علي بن أبي الحسن ، وقوله { فأنفخ فيه } ذكر الضمير هنا لأنه يحتمل أن يعود على الطين المهيأ . ويحتمل أن يريد فانفخ في المذكور ، وأنث الضمير في سورة المائدة في قوله : { فتنفخ فيها } [ المائدة : 110 ] لأنه يحتمل أن يعود على الهيئة أو على تأنيث لفظ الجماعة في قوله { الطير } وكون عيسى عليه السلام خالقاً بيده ونافخاً بفيه إنما هو ليبين تلبسه بالمعجزة ، وأنها جاءت من قبله ، وأما الإيجاد من العدم وخلق الحياة في ذلك الطين فمن الله تعالى وحده لا شريك له .
وقوله { بإذن الله } ، معناه بعلم منه تعالى أني أفعل ذلك وتمكين منه لي ، وحقيقة الإذن في الشيء هي العلم بأنه يفعل والتمكين من ذلك ، فإن اقترن بذلك قول فذلك أمكن في الإذن وأبلغ ، ويخرج من حد الإذن إلى حد الأمر ولكن تجده أبداً في قسم الإباحة ، وتأمل قوله تعالى :
{ فهزموهم بإذن الله }{[3186]} ، وقول النبي عليه السلام : { وإذنها صماتها }{[3187]} ، وروي في قصص هذه الآية ، أن عيسى عليه السلام كان يقول لبني إسرائيل : أي الطير أشد خلقة وأصعب أن يحكى ؟ فيقولون : الخفاش ، لأنه طائر لا ريش له ، فكان يصنع من الطين خفافيش ثم ينفخ فيها فتطير ، وكل ذلك بحضرة الناس ومعاينتهم ، فكانوا يقولون : هذا ساحر .
{ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
{ أبرىء } ، معناه أزيل المرض يقال برأ المريض وأبرأه غيره ، ويقال : برىء المريض أيضاً كما يقال في الذنب والدين{[3188]} ، واختلف المفسرون في { الأكمه } فقال مجاهد : { الأكمه } هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، وقال ابن عباس والحسن والسدي : { الأكمه } الأعمى على الإطلاق ، وقال عكرمة : { الأكمه } الأعمش ، وحكى النقاش قولاً : أن { الأكمه } هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم ، الميت الفؤاد ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : { الأكمه } الذي يولد أعمى مضموم العين .
قال القاضي : وقد كان عيسى عليه السلام يبرىء بدعائه ومسح يده كل علة ، ولكن الاحتجاج على بني إسرائيل في معنى النبوة لا يقوم إلا بالإبراء من العلل التي لا يبرىء منها طبيب بوجه ، فليس يتخلص من هذه الأقوال في { الأكمه } إلا القول الأخير ، إذ { الأكمه } في اللغة هو الأعمى ، وكمهت العين عميت ، ولولا ضبط اللغة لكان القول الذي حكى النقاش حسناً في معنى قيام الحجة به ، { والأبرص } معروف ، وهو داء لا يبرأ منه إذا تمكن ، وروي في إحيائه الموتى ، أنه كان يضرب بعصاه الميت أو القبر أو الجمجمة ، فيحيي الإنسان ويكلمه ، وروي في أنه أحيى سام بن نوح عليه السلام ، وروي أن الذي كان يحييه كانت تدوم حياته ، وروي أنه كان يعود لموته سريعاً ، وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها ، وإحياء الموتى هي آيته المعجزة المعرضة للتحدي ، وهي بالمعنى متحدى بها وإن كان لم ينص على التحدي بها ، وآيات عيسى عليه السلام إنما تجري فيما يعارض الطب لأن علم الطب كان شرف الناس في ذلك الزمان وشغلهم وحينئذ أثيرت فيه العجائب ، فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائب لا تقتضيها الأمزجة وأصول الطب ، وذلك إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص علمت الأطباء أن هذه القوة من عند الله ، وهذا كأمر السحرة مع موسى ، والفصحاء مع محمد عليه السلام .
ووقع في التواريخ المترجمة عن الأطباء أن جالينوس ، كان في زمن عيسى عليه السلام وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام ليلقاه فمات في طريقه ذلك .
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وأنبئكم } الآية ، فقال السدي وسعيد بن جبير وابن إسحاق ومجاهد وعطاء : كان عيسى من لدن طفولته وهو في الكتّاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم في منازلهم وبما يؤكل من الطعام ويدخر حتى قال بنو إسرائيل لأبنائهم لا تخالطوا هذا الساحر ، وكذلك إلى أن نبىء ، فكان يقول لكل من سأله عن هذا المعنى ، أكلت البارحة كذا ، وادخرت كذا ، قال ابن إسحاق ، وكان معلمه يريد أن يعلمه الشيء فيسبقه إليه عيسى فيتعجب معلمه من ذلك ويذكره للناس ، وقال قتادة معنى الآية إنما هو في نزول المائدة عليهم . وذلك أنها لما أنزلت أخذ عليهم عهداً أن يأكلوا ولا يخبىء أحد شيئاً ولا يدخره ويحمله إلى بيته فخانوا وجعلوا يخبئون من ثمار الجنة وطعامها الذي كان ينزل على المائدة . فكان عيسى عليه السلام يخبر كل أحد عما أكل وعما ادخر في بيته من ذلك وعوقبوا على ذلك ، وما في قوله { بما تأكلون } يحتمل أن تكون بمعنى الذي وتحتمل المصدرية وكذلك { وما تدخرون } ، وقرأ الجمهور ، «تدّخِرون » بدال مشددة وخاء مكسورة ، وهو تفتعلون من ذخرت أصله ، «تذخرون » استثقل النطق بالذال والتاء ، لتقاربهما في المخرج فأبدلت التاء دالاً وأدغمت الذال في الدال ، كما صنع في مدكر ، ومطلع ، بمعنى مضطلع وغير ذلك نحو قول الشاعر : [ زهير ] [ البسيط ]
إن الكَريمَ الذي يُعطيكَ نَائِلَهُ . . . عَفْواً وَيظْلِمُ أحْياناً فَيَطَّلِمُ{[3189]}
بالطاء غير منقوطة ، وقرأ الزهري ومجاهد وأيوب السختياني وأبو السمال «تدْخَرون » - بدال - ساكنة وخاء مفتوحة ، وقوله : { إن في ذلك } إشارة إلى ما ذكر من الإحياء والإبراء والإنباء ، وفي مصحف ابن مسعود «لآيات » على الجمع ، وقوله { إن كنتم مؤمنين } ، توقيف والمعنى ، لآيات نافعة هادية إن آمنتم وأبصرتم وإلا فليست بنافعة ولا هادية ، فأما كونها آيات فعلى كل حال آمنوا أو كفروا ، هذا كله على أن المخاطبة لمن لم يؤمن - بعد - وهو ظاهر حاله مع بني إسرائيل ، وإن كان خطابه لمؤمنين ، أو لما{[3190]} كانوا مؤمنين بموسى ، فمعنى الآية التثبيت وهز النفس كما تقول لإنسان تقيم نفسه إلى شيء : ما أنت يا فلان يلزمك أن تفعل كذا وكذا إن كنت من الرجال .
{ ورسولاً } عطف على جملة ( يُعلّمه ) لأنّ جملة الحال ، لكونها ذات محل من الإعراب ، هي في قوة المفرد فنصب رسولاً على الحال ، وصاحب الحال هو قوله بكلمة ، فهو من بقية كلام الملائكة .
وفتح همزة أنّ في قوله : { أنى قد جئتكم } لتقدير باء الجر بعد رسولاً ، أي رسولاً بهذا المقال لما تضمنه وصف رسولاً من كونه مبْعوثاً بكلام ، فهذا مبدأ كلام بعد انتهاء كلام الملائكة .
ومعنى { جئتكم } أُرسلت إليكم من جانب الله ونظيرة قوله تعالى : { ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة } [ الزخرف : 63 ] .
وقوله : { بآية } حال من ضمير { جئتكم } لأنّ المقصود الإخبار بأنه رسول لا بأنه جاء بآية . شبه أمر الله إياه بأن يبلّغ رسالة بمجيء المرسَل من قوم إلى آخرين ولذلك سميّ النبي رسولاً .
والباء في قوله { بآية } للملابسة أى مقارناً للآيات الدالة على صدقي في هذه الرسالة المعبّر عنها بفعل المجيء . والمجرور متعلق بجئتكم على أنه ظرف لغو ، ويجوز أن يكون ظرفاً مستقراً في موضع الحال من { جئتكم } لأن معنى جئتكم : أرسلت إليكم ، فلا يحتاج إلى ما يتعلق به . وقوله : { إني أخلق بكسر الهمزة استئناف لبيان آية وهي قراءة نافع ، وأبي جعفر . وقرأه الباقون بفتح همزة { أنّي } على أنه بدل من { أني قد جئتكم } .
والخلق : حقيقته تقدير شيء بقدْر ، ومنه خلق الأديم تقديره بحسب ما يراد من قِطعَه قبل قطع القطعة منه قال زهير :
ولأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وبَعْــض القَوْم يَخْلُق ثُم لا يَفْرِي
يريد تقدير الأديم قبل قطعه والقطع هو الفري ، ويُستعمل مجازاً مشهوراً أو مشتركاً في الإنشاء ، والإبداع على غير مثال ولا احتذاءٍ ، وفي الإنشاء على مثال يُبْدَع ويقدّر ، قال تعالى : { ولقد خلقناكم ثم صَوّرناكم } [ الأعراف : 11 ] فهو إبداع الشيء وإبرازه للوجود والخلق هنا مستعمل في حقيقته أيْ : أقدّر لكم من الطين كهيئة الطير ، وليس المراد به خلق الحيوان ، بدليل قوله فأنفُخ فيه .
وتقدم الكلام على لفظ الطّيْر في قوله تعالى : { فخذ أربعة من الطير } في سورة [ البقرة : 360 ] . والكاف في قوله : { كهيئة الطير } بمعنى مثل ، وهي صفة لِموصوف محذوف دل عليه أخلُق ، أي شيئاً مقدّراً مثلَ هيئة الطير . وقرأ الجمهور « الطَّير » وهو اسم يقع على الجمع غالباً وقد يقع على الواحد . وقرأه أبو جعفر « الطائر » .
والضمير المجرور بفي من قوله : { فأنفخ فيه } عائد إلى ذلك الموصوف المحذوف الذي دلت عليه الكاف .
وقرأ نافع وحده فيكون طائراً بالإفراد وقرأ الباقون فيكون طَيْراً بصيغة اسم الجمع فقراءة نافع على مراعاة انفراد الضمير ، وقراءة الباقين على اعتبار المعنى . جعل لنفسه التقدير ، وأسند لله تكوين الحياة فيه .
والهيئة : الصورة والكيفية أي أصَوِّر من الطين صورةً كصورة الطير . وقرأ الجميع كهيئة بتحتية ساكنة بعدها همزة مفتوحة .
وزاد قوله : { بإذن الله } لإظهار العبودية ، ونفي توهم المشاركة في خلق الكائنات . والأكمه : الأعمى ، أو الذي ولد أعمى .
والأبرص : المصاب بداء البرص وهو داء جلدي له مظاهر متنوّعة منها الخفيف ومنها القوي وأعراضه بقع بيضاء شديدة البياض تظهر على الجلد فإن كانت غائرة في الجلد فهو البرص وإن كانت مساوية لسطح الجلد فهو البَهق ثم تنتشر على الجلد فربما عمّت الجلد كله حتى يصير أبيض ، وربما بقيت متميزة عن لون الجلد .
وأسبابه مجهولة ، ويأتي بالوراثة ، وهو غير مُعْد ، وشوهد أنّ الإصابة به تكثر في الذين يقللون من النظافة أو يسكنون الأماكن القذرة . والعرب والعبرانيون واليونان يطلقون البرص على مرض آخر هو من مبادىء الجذام فكانوا يتشاءمون بالبرص إذا بَدَتْ أعراضه على واحد منهم . فأما العرب فكان ملوكهم لا يكلمون الأبرص إلاّ من وراءِ حجاب ، كما وقع في قصّة الحارث بن حلزة الشاعر مع الملك عمرو بن هند . وأما العبرانيون فهم أشدّ في ذلك . وقد اهتمت التوراة بأحكام الأبرص ، وأطالت في بيانها ، وكرّرته مراراً ، ويظهر منها أنه مرض ينزل في الهواء ويلتصق بجدران المنازل ، وقد وصفه الوحي لِموسى ليعَلِّمه الكهنة من بني إسرائيل ويعلمهم طريقة علاجه ، ومن أحكامهم أنّ المصاب يُعزل عن القوم ويجعل في محل خاص وأحكامه مفصّلة في سفر اللاويين . ولهذا كان إعجاز المسيح بإبراء الأبرص أهمّ المعجزات فائدة عندهم ديناً ودنيا .
وقد ذكر فقهاء الإسلام البرص في عيوب الزوجين الموجبة للخيار وفصّلوا بين أنواعه التي توجب الخيار والتي لا توجبه ولم يضبطوا أوصافه واقتصروا على تحديد أجل برئه .
وإحياء الموتى معجزة للمسيح أيضاً ، كنفخ الروح في الطير المصوّر من الطين ، فكان إذا أحيا ميتاً كلّمه ثم رجع ميّتاً ، وورد في الأناجيل أنّه أحيا بنتاً كانت ماتت فأحياها عقب موتها . ووقع في إنجيل متَّى في الإصحاح 17 أنّ عيسى صعد الجبل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا أخوه وأظهر لهم موسى وإيلياء يتكلمان معهم ، وكلّ ذلك بإذن الله له أن يفعل ذلك .
ومعنى قوله : { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخون في بيوتكم } أنّه يخبرهم عن أحوالهم التي لا يطّلع عليها أحد فيخبرهم بما أكلوه في بيوتهم ، وما عندهم مدّخر فيها ، لتكون هاته المتعاطفات كلّها من قبيل المعجزات بقرينة قوله أنبّئكم لأنّ الإنباء يكون في الأمور الخفيةِ .
وقوله : { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } جعل هذه الأشياء كلّها آيات تدعو إلى الإيمان به ، أي إن كنتم تريدون الإيمان ، بخلاف ما إذا كان دأبكم المكابرة . والخطاب موجّه منه إلى بني إسرائيل فإنهم بادروا دعوته بالتكذيب والشتم .
وتعرُّض القرآن لذكر هذه المعجزات تعريض بالنصارى الذين جعلوا منها دليلاً على ألوهية عيسى ، بعلة أنّ هذه الأعمال لا تدخل تحت مقدرة البشر ، فمن قدر عليها فهو الإله ، وهذا دليل سفسطائي أشار الله إلى كشفه بقوله : { بآية من ربكم } وقوله : { بإذن الله } مرتين . وقد روى أهل السِّير أنّ نصارى نجران استدلوا بهذه الأعمال لدى النبي صلى الله عليه وسلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ويجعله {ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم}: يعني بعلامة، ثم بين الآية؛ {أني أخلق لكم}: يعني أجعل لكم {من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله}. {وأبرئ الأكمه}: الذي ولدته أمه أعمى، الذي لم ير النور قط، فيرد الله بصره، {و} أبرئ {الأبرص}، فيبرأ بإذن الله. {وأحيي الموتى بإذن الله}؛ فتعيش. ففعل ذلك وهم ينظرون، وكان صنيعه هذا آية من الله عز وجل بأنه نبي ورسول إلى بني إسرائيل... فقالوا له: إن هذا سحر، فأرنا آية نعلم أنك صادق. وقال عيسى صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أنا أخبرتكم: {وأنبئكم بما تأكلون}: في بيوتكم من الطعام، فيها تقديم {وما تدخرون في بيوتكم}، يعني وما ترفعون في غد، تعلمون أني صادق؟ قالوا: نعم، قال عيسى صلى الله عليه وسلم: فلان أكلت كذا وكذا، وشربت كذا وكذا، وأنت يا فلان أكلت كذا وكذا، وأنت يا فلان، فمنهم من آمن ومنهم من كفر. يقول الله عز وجل: {إن في ذلك لآية}: يعني لعلامة، {لكم} فيما أخبرتكم به. {إن كنتم مؤمنين}: يعني مصدقين بعيسى بأنه رسول...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَرَسُولاً}: ونجعله رسولاً إلى بني إسرائيل، فترك ذكر «ونجعله»، لدلالة الكلام عليه.
{أنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ}: ونجعله رسولاً إلى بني إسرائيل بأنه نبيّ وبشير ونذير، وحجتي عن صدقي على ذلك، أني قد جئتكم بآية من ربكم، يعني بعلامة من ربكم تحقق قولي وتصدّق خبري، أني رسول من ربكم إليكم.
{أنّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا بِإذْنِ اللّهِ}: ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم. ثم بين عن الآية ما هي، فقال: {أنّي أخْلُقُ لَكُمْ}. فتأويل الكلام: ورسولاً إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم بأن أخلق لكم من الطين كهيئة الطير. والطير جمع طائر.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعض أهل الحجاز: «كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائرا»، على التوحيد. وقرأه آخرون: {كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا} على الجماع كليهما.
وأعجب القراءات إليّ في ذلك قراءة من قرأ: {كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا}، على الجماع فيهما جميعا، لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله، وأنه موافق لخط المصحف، واتباع خط المصحف مع صحة المعنى، واستفاضة القراءة به أعجب إليّ من خلاف المصحف.
فإن قال قائل: وكيف قيل: {فأنْفُخُ فِيهِ} وقد قيل: {أنّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ}؟ قيل: لأن معنى الكلام: فأنفخ في الطير. ولو كان ذلك: فأنفخ فيها، كان صحيحا جائزا، كما قال في المائدة: «فأنْفُخُ فِيها» يريد: فأنفخ في الهيئة، وقد ذكر أن ذلك في إحدى القراءتين: «فأنفخها»، بغير «في».
{وأُبْرِئ الأكْمَه وَالأبْرَصَ}: وأشفي، يقال منه: أبرأ الله المريض: إذا شفاه منه.
واختلف أهل التأويل في معنى الأكمه؛ فقال بعضهم: هو الذي لا يبصر بالليل، ويبصر بالنهار. وقال آخرون: هو الأعمى الذي ولدته أمه كذلك. وقال آخرون: بل هو الأعمى.
والمعروف عند العرب من معنى الكَمَهِ: العمى. وإنما أخبر الله عزّ وجلّ عن عيسى صلوات الله عليه، أنه يقول ذلك لبني إسرائيل، احتجاجا منه بهذه العِبر والآيات عليهم في نبوّته، وذلك أن الكَمَه والبَرَص لا علاج لهما، فيقدر على إبرائه ذو طبّ بعلاج، فكان ذلك من أدلته على صدق قيله، إنه لله رسول، لأنه من المعجزات مع سائر الآيات التي أعطاه الله إياها دلالة على نبوّته. فأما ما قيل من أن الكمه: العمش، أو: أنه سوء البصر بالليل، فلا معنى لهما، لأن الله لا يحتجّ على خلقه بحجة تكون لهم السبيل إلى معارضته فيها، ولو كان مما احتجّ به عيسى على بني إسرائيل في نبوّته أنه يبرئ الأعمش، أو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل لقدروا على معارضته بأن يقولوا: وما في هذا لك من الحجة، وفينا خلق مما يعالج ذلك وليسوا لله أنبياء ولا رسلاً، ففي ذلك دلالة بينة على صحة ما قلنا من أن الأكمه: هو الأعمى الذي لا يبصر شيئا لا ليلاً ولا نهارا، ومن أنه المولود كذلك أشبه، لأن علاج مثل ذلك لا يدّعيه أحد من البشر، إلا من أعطاه الله مثل الذي أعطى عيسى، وكذلك علاج الأبرص.
{وأُحْيِي المَوْتَى بإذْنِ اللّهِ وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}.
وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء الله، يدعو لهم، فيستجيب له.
{وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ} فإنه يعني: وأخبركم بما تأكلونه مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكْلِكُمُوهُ.
{وما تَدّخِرُونَ}: وما ترفعونه فتخبئونه ولا تأكلونه، يعلمهم أن من حجته أيضا على نبوّته مع المعجزات التي أعلمهم أنه يأتي بها حجة على نبوّته وصدقه في خبره، أن الله أرسله إليهم: من خلق الطير من الطين، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله، التي لا يطيقها أحد من البشر، إلا من أعطاه الله ذلك، علما له على صدقه، وآية له على حقيقة قوله من أنبيائه ورسله، ومن أحبّ من خلقه إنباءَه عن الغيب الذي لا سبيل لأحد من البشر الذين سبيلهم سبيله عليه.
فإن قال قائل: وما كان في قوله لهم: {وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} من الحجة له على صدقه، وقد رأينا المتنجمة والمتكهنة تخبر بذلك كثيرا فتصيب؟ قيل: إن المتنجم والمتكهن معلوم منهما عند من يخبره بذلك أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه، ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه، ومن سائر أنبياء الله ورسله، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال، ولكن ابتداءً بإعلام الله إياه من غير أصل تقدّم ذلك¹ احتذاه، أو بنى عليه أو فزع إليه، كما يفزع المتنجم إلى حسابه، والمتكهن إلى رئيّه، فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها، وبين علم سائر المتكذبة على الله، أو المدّعية علم ذلك.
وقال آخرون: إنما عنى بقوله: {وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}: ما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم، وما تدخرون منها... {إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: إن في خلقي من الطين الطير بإذن الله، وفي إبرائي الأكمه والأبرص، وإحيائي الموتى، وإنبائي إياكم بما تأكلون، وما تدخرون في بيوتكم، ابتداء من غير حساب وتنجيم، ولا كهانة وعرافة، لعبرة لكم، ومتفكرا تتفكرون في ذلك، فتعتبرون به أني محقّ في قولي لكم: إني رسول من ربكم إليكم، وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق، إن كنتم مؤمنين، يعني: إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته، مقرّين بتوحيده ونبيه موسى، والتوراة التي جاءكم بها.
اعلم أنه تعالى حكى ههنا خمسة أنواع من معجزات عيسى عليه السلام:
ما ذكره ههنا في هذه الآية وفيه مسائل:...
المسألة الثانية: {أخلق لكم من الطين} أي أقدر وأصور وقد بينا في تفسير قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21] إن الخلق هو التقدير ولا بأس بأن نذكره ههنا أيضا فنقول الذي يدل عليه القرآن والشعر والاستشهاد، أما القرآن فآيات أحدها: قوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 14] أي المقدرين، وذلك لأنه ثبت أن العبد لا يكون خالقا بمعنى التكوين والإبداع فوجب تفسير كونه خالقا بالتقدير والتسوية. وثانيها: أن لفظ الخلق يطلق على الكذب قال تعالى في سورة الشعراء {إن هذا إلا خلق الأولين} [الشعراء: 137] وفي العنكبوت {وتخلقون إفكا} [العنكبوت: 17] وفي سورة ص {إن هذا إلا اختلاق} [ص: 7] والكاذب إنما سمي خالقا لأنه يقدر الكذب في خاطره ويصوره. وثالثها: هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله {أنى أخلق لكم من الطين} أي أصور وأقدر وقال تعالى في المائدة {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير} [المائدة: 110] وكل ذلك يدل على أن الخلق هو التصوير والتقدير. ورابعها: قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} [البقرة: 29] وقوله {خلق} إشارة إلى الماضي، فلو حملنا قوله {خلق} على الإيجاد والإبداع، لكان المعنى: أن كل ما في الأرض فهو تعالى قد أوجده في الزمان الماضي، وذلك باطل بالاتفاق، فإذن وجب حمل الخلق على التقدير حتى يصح الكلام وهو أنه تعالى قدر في الماضي كل ما وجد الآن في الأرض، وأما الاستشهاد: فهو أنه يقال: خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس والخلاق المقدار من الخير، وفلان خليق بكذا، أي له هذا المقدار من الاستحقاق، والصخرة الخلقاء الملساء، لأن الملاسة استواء، وفي الخشونة اختلاف، فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والتسوية.
إذا عرفت هذا فنقول: اختلف الناس في لفظ {الخالق} قال أبو عبد الله البصري: إنه لا يجوز إطلاقه على الله في الحقيقة، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والحسبان وذلك على الله محال، وقال أصحابنا: الخالق، ليس إلا الله، واحتجوا عليه بقوله تعالى: {الله خالق كل شيء} [الرعد: 16] ومنهم من احتج بقوله {هل من خالق غير الله يرزقكم} [فاطر: 3] وهذا ضعيف، لأنه تعالى قال: {هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء} [فاطر: 3] فالمعنى هل من خالق غير الله موصوف بوصف كونه رازقا من السماء ولا يلزم من صدق قولنا الخالق الذي يكون هذا شأنه، ليس إلا الله، صدق قولنا أنه لا خالق إلا الله.
وأجابوا عن كلام أبي عبد الله بأن التقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن لكن الظن وإن كان محالا في حق الله تعالى فالعلم ثابت.
إذا عرفت هذا فنقول: {أني أخلق لكم من الطين} معناه: أصور وأقدر وقوله {كهيئة الطير} فالهيئة الصورة المهيئة من قولهم هيأت الشيء إذا قدرته وقوله {فأنفخ فيه} أي في ذلك الطين المصور وقوله {فيكون طيرا بإذن الله} ففيه مسائل:
المسألة الثانية:... ههنا بحث، وهو أنه هل يجوز أن يقال: إنه تعالى أودع في نفس عيسى عليه السلام خاصية، بحيث متى نفخ في شيء كان نفخه فيه موجبا لصيرورة ذلك الشيء حيا، أو يقال: ليس الأمر كذلك بل الله تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخة عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات، وهذا الثاني هو الحق لقوله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة} [الملك: 2] وحكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قال في مناظرته مع الملك {ربي الذي يحيي ويميت} [البقرة: 258] فلو حصل لغيره، هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال.
المسألة الثالثة: القرآن دل على أنه عليه الصلاة والسلام إنما تولد من نفخ جبريل عليه السلام في مريم وجبريل صلى الله عليه وسلم روح محض وروحاني محض فلا جرم كانت نفخة عيسى عليه السلام للحياة والروح.
المسألة الرابعة: قوله {بإذن الله} معناه بتكوين الله تعالى وتخليقه لقوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله} [آل عمران: 145] أي إلا بأن يوجد الله الموت، وإنما ذكر عيسى عليه السلام هذا القيد إزالة للشبهة، وتنبيها على إني أعمل هذا التصوير، فأما خلق الحياة فهو من الله تعالى على سبيل إظهار المعجزات على يد الرسل.
وأما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات
فهو قوله: {وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله}...
وأما النوع الخامس من المعجزات: إخباره عن الغيوب فهو قوله تعالى حكاية عنه {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} وفيه مسألتان:
المسألة الثانية: الإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة، وذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخير لا يمكنهم ذلك إلا عن سؤال يتقدم ثم يستعينون عند ذلك بآلة ويتوصلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيرا، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة، ولا تقدم مسألة لا يكون إلا بالوحي من الله تعالى.
ثم إنه عليه السلام ختم كلامه بقوله {إن في ذلك لأية لكم إن كنتم مؤمنين}.
والمعنى إن في هذه الخمسة لمعجزة قاهرة قوية دالة على صدق المدعي لكل من آمن بدلائل المعجزة في الحمل على الصدق، بلى من أنكر دلالة أصل المعجز على صدق المدعي، وهم البراهمة، فإنه لا يكفيه ظهور هذه الآيات، أما من آمن بدلالة المعجز على الصدق لا يبقى له في هذه المعجزات كلام البتة.
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
... إن المسلمين من أولهم إلى آخرهم متفقون على أن الإحياء والإماتة لا يكونان إلا لله تعالى. ويستحيل أن يجعل ذلك لأحد من الخلق كائنا من كان، وأن عيسى عليه السلام لم يحي قط ميتا ولا أبرأ أكمه ولا أبرص، وإنما الفاعل لهذه الأمور هو الله تعالى عند إرادة المسيح عليه السلام، لا أن المسيح عليه السلام كان يفعل ذلك. كما أن موسى عليه السلام لم يكن يقلب لون يده...
فهذا معنى قوله تعالى وقول المسلمين أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى والأكمه والأبرص. ومن جملة جهالات النصارى اعتقادهم أنه عليه السلام كان هو الفاعل لنفس الإحياء والإبراء ولا عجب في ذلك فإن جهلهم أعظم من هذا...
وكذلك المراد نفس الإحياء في قوله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} فلا يحيي على الحقيقة إلا المنشئ فاندفع الإشكال واجتمعت النصوص من غير تناقض وصح مذهب أهل الإسلام، وأنهم هم الموحدون حقا، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا. (الأجوبة الفاخرة: 210 إلى 213)...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر الكتاب المنزل عليه حسن ذكر الرسالة فقال بعد ما أفاد عظمتها بجعله ما مضى مقدمات لها: {ورسولاً} عطفاً على "تالياً "المقدر، أو ينصب بتقدير: يجعله {إلى بني إسرائيل} أي بالإنجيل. ولما كان ذكر الرسالة موجباً لتوقع الآية دلالة على صحتها، وكان من شأن الرسول مخاطبة المرسل إليهم وإقباله بجميع رسالته عليهم اتبعه ببيان الرسالة مقروناً بحرف التوقع فقال: {إني} أي ذاكراً أني {قد جئتكم بآية من ربكم} أي الذي طال إحسانه إليكم، ثم أبدل من "آية" {إني أخلق لكم} أي لأجل تربيتكم بصنائع الله {من الطين}، قال الحرالي: هو متخمر الماء والتراب حيث يصير متهيئاً لقبول وقوع الصورة فيه {كهيئة} وهي كيفية وضع أعضاء الصورة بعضها من بعض التي يدركها ظاهر الحس -انتهى وهي الصورة المتهيئة لما يراد منها {الطير} ثم ذكر احتياجه في إحيائه إلى معالجة بقوله معقباً للتصوير: {فأنفخ} قال الحرالي: من النفخ، وهو إرسال الهواء من منبعثه بقوة. انتهى. {فيه} أي في ذلك الذي هو مثل الهيئة {فيكون طيراً} أي طائراً بالفعل- كما في قراءة نافع، وذكر المعالجة لئلا يتوهم أنه خالق حقيقة، ثم أكد ذلك إزالة لجميع الشبه بقوله: {بإذن الله} أي بتمكين الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال، له روح كامل لحمله في الهواء تذكيراً بخلق آدم عليه السلام من تراب، وإشارة إلى أن هذا أعجب من خلق آدمي من أنثى فقط فلا تهلكوا في ذلك.
ولما ذكر ما يشبه أمر آدم عليه السلام أتبعه علاج أجساد أولاده بما يردها إلى معتادها بما يعجز أهل زمانه، وكان الغالب عليهم الطب وبدأ بأجزائها فقال: {وأبرئ} قال الحرالي: من الإبراء وهو تمام التخلص من الداء، والداء ما يوهن القوى ويغير الأفعال العامة للطبع والاختيار -انتهى.
(الأكمه والأبرص} بإيجاد ما فقد منهما من الروح المعنوي؛ والكمه- قال الحرالي -ذهاب البصر في أصل الخلقة كالذي يولد أعمى أو يعمى قبل أن يميز الأشياء أو يدركها. والبرص أصل معناه: تلمع الشيء بلمع خلاف ما هو عليه، ومنه براص الأرض- لبقع لا نبت فيها، ومنه البريص في معنى البصيص، فما تلمع من الجلد على غير حاله فهو لذلك برص وقال الحرالي: البرص عبارة عن سوء مزاج يحصل بسببه تكرج، أي فساد بلغم يضعف القوة المغيرة عن إحالته إلى لون الجسد -انتهى.
ولما فرغ من رد الأرواح إلى أجزاء الجسم أتبعه رد الروح الكامل في جميعه المحقق لأمر البعث المصور له بإخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة في بعض الآدميين فقال: {وأحيي الموتى} أي برد أرواحهم إلى أشباحهم، بعضهم بالفعل وبعضهم بالقوة، لأن الذي أقدرني على البعض قادر على ذلك في الكل، وقد أعطاني قوة ذلك،
ولما كان ذلك من أمر الإحياء الذي هو من خواص الإلهية وأبطن آيات الملكوتية، ربما أورث لبساً في أمر الإله، تبرأ منه، ورده إلى من هو له، مزيلاً للبس وموضحاً للأمر، فقال مكرراً لما قدمه في مثله معبراً بما يدل على عظمه: {بإذن الله} أي بعلمه وتمكينه، ثم أتبعه ما هو من جنسه في الإخراج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فقال: {وأنبئكم} أي من الأخبار الجليلة من عالم الغيب {بما تأكلون} أي مما لم أشاهده، بل تقطعون بأني كنت غائباً عنه {وما تدخرون} ولما كان مسكن الإنسان أعز البيوت عنده وأخفى لما يريد أن يخفيه قال: {في بيوتكم} قال الحرالي: من الادخار: افتعال من الدخرة، قلب حرفاه الدال لتوسط الدال بين تطرفهما في متقابلي حالهما؛ والدخرة ما اعتنى بالتمسك به عدة لما شأنه أن يحتاج إليه فيه، فما كان لصلاح خاصة الماسك فهو ادخار، وما كانت لتكسب فيما يكون من القوام فهو احتكار- انتهى.
ولما ذكر هذه الخوارق نبه على أمرها بقوله: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم {لآية لكم} أي أيها المشاهدون على أني عبد الله ومصطفاه، فلا تهلكوا في تكويني من أنثى فقط فتطروني، فإني لم أعمل شيئاً منها إلا ناسباً له إلى الله سبحانه وتعالى وصانعاً فيه ما يؤذن بالحاجة المنافية للإلهية ولو بالدعاء، وأفرد كاف الخطاب أولاً لكون ما عده ظاهراً لكل أحد على انفراده أنه آية لجميع المرسل إليهم، وكذا جمع ثانياً قطعاً لتعنت من قد يقول: إنها لا تدل إلا باجتماع أنظار جميعهم لو جمع الأول، وإنها ليست آية لكلهم بل لواحد منهم -لو وحد في الثاني، ولما كانت الآيات لا تنفع مع المعاندات قال: {إن كنتم مؤمنين} أي مذعنين بأن الله سبحانه وتعالى قادر على ما يريد، وأهلاً لتصديق ما ينبغي التصديق به.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أقول: وذكر الجلال [السيوطي] كغيره أنه كان يتخذ من الطين صورة خفاش، فينفخ فيها فتحلها الحياة وتتحرك في يده، وقال بعضهم بل تطير قليلا ثم تسقط. قال الأستاذ الأمام: ولا حاجة إلى هذه التفصيلات بل نقف عند لفظ الآية. وغاية ما يفهم منها إن الله تعالى جعل هذا السر ولكن لم يقل أنه خلق بالفعل، ولم يرد عن المعصوم أن شيئا من ذلك وقع، وقد جرت سنة الله تعالى أن تجري الآية على أيدي الأنبياء عند طلب قومهم لها وجعل الإيمان موقوفا عليها فإن كانوا سألوه شيئا من ذلك فقد جاء به وكذلك يقال في قوله: {وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} فإن قصارى ما تدل عليه العبارة أنه خص بذلك وأمر بأن يحتج به. والحكمة في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إقامة الحجة على منكري نبوته كما تقدم وأما وقوع ذلك كله أو بعضه بالفعل فهو يتوقف على نقل يحتج به في مثل ذلك.
والحاصل أنه ليس عندنا نقل صحيح بوقوع خلق الطير بل ولا عند النصارى الذين يتناقلون وقوع سائر الآيات المذكورة في الآية إلا ما في إنجيل الصبا أو الطفولة من نحو ما قال ابن إسحاق وهو من الأناجيل غير القانونية عندهم. ولعل آية سورة المائدة أدنى إلى الدلالة على الوقوع من هذه الآية وهي {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا، وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني، وإذ تبرئ الأكمه والأبرص بإذني، وإذ تخرج الموتى بإذني، وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات} [المائدة: 110] فإن جعل ذلك كله متعلق النعمة يؤذن بوقوعه إلا أن يقال إن جعل هذه الآيات مما يجرى على يديه عند طلبه منه والحاجة إلى تحديه به من اجل النعم وأعظمها ولكن هذا خلاف ظاهر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
حرص النص على أن يذكر على لسان المسيح -عليه السلام- كما هو مقدر في غيب الله عند البشارة لمريم، وكما تحقق بعد ذلك على لسان عيسى -أن كل خارقة من هذه الخوارق التي جاءهم بها، إنما جاءهم بها من عند الله. وذكر إذن الله بعد كل واحدة منها تفصيلا وتحديدا؛ ولم يدع القول يتم ليذكر في نهايته إذن الله زيادة في الاحتياط!
وهذه المعجزات في عمومها تتعلق بإنشاء الحياة أو ردها، أو رد العافية وهي فرع عن الحياة. ورؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية.. وهي في صميمها تتسق مع مولد عيسى؛ ومنحه الوجود والحياة على غير مثال إلا مثال آدم- عليه السلام -وإذا كان الله قادرا أن يجري هذه المعجزات على يد واحد من خلقه، فهو قادر على خلق ذلك الواحد من غير مثال.. ولا حاجة إذن لكل الشبهات والأساطير التي نشأت عن هذا المولد الخاص متى رد الأمر إلى مشيئة الله الطليقة ولم يقيد الإنسان الله- سبحانه -بمألوف الإنسان!
{أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِي أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ}...
"أخلق "مأخوذة من الخلق، والخلق هو إيجاد شيء على تقدير، فأنت تتخيله وتقدره في ذهنك أولا ثم تأتي به على هذه الحالة. فإن كان قد أتى على غير تقديرك فليس خلقا، إنما هو شيء جزافى جاء على غير علم وتقدير، وإنّ من يأخذ قطعة من الطين ويصنع منها أي شيء فهذا ليس خلقا. إن الخلق هو المطلوب على تقدير. مثال ذلك الكوب أو الكأس البلور الذي نشرب فيه حينما صنعه الصانع. هل كانت هناك شجرة تخرج أكوابا، أم أن الصانع أخذ الرمال وصهرها ووضع عليها مواد كيماوية تخليها من الشوائب، ثم قام بتشكيلها على هيئة الكوب؟ إذن فالكوب لم تكن موجودة، ووجدت على تقدير أن تكون شكل الكوب، فهي خلق أُوجد على تقدير. فماذا عن خلق الله؟ إنه يخلق على تقدير، وفرق بين صنعة البشر حين يخلق، وبين صنعة الله حين يخلق. إ... إن هذا أول فرق بين خلق الله، وخلق الإنسان، فخلق الله يكون من عدم، وخلق الإنسان من موجود، وإن كان الاثنان على تقدير...
والله يخلق من الشيء ذكرا وأنثى ويعطيهما القدرة على التناسل، فها هو ذا قول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12-14]...
وينفخ فيه، وقد تسأل، في ماذا ينفخ؟ أينفخ في الطير، أم في الطين، أم في الهيئة؟ إن قلنا: أن النفخ في الطين بعد ما صار طيرا. يكون النفخ في الطين، كالنفخ في الطير، وجاءت في آية أخرى أنها نفخ في الهيئة. {إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} [المائدة: 110]...
{إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49]. إن هذه آية عجيبة تثبت أن هناك قوة أعلى قاهرة هي قوة الله الحق هي التي تعطيه هذه الأشياء، فإن كنتم مؤمنين بوجود قوة أعلى فعليكم تصديق الرسالة التي جاء بها عيسى ابن مريم، لأن معنى (رسول) أنه مخلوق اصطفاه الله وأرسله سبحانه إلى الأدنى منه، فالذي يؤمن الآية هو الذي يؤمن بوجود إله أعلى قادر ومن يريد أن يتثب -مع إيمانه بالله- من الآية التي بعثها الله مع عيسى ابن مريم، فالآية واضحة. بالله فلن تفيده الآية في الإيمان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الجدير بالالتفات هنا أن تكرار القول «بإذن الله» والاعتماد على مشيئته في هذه الآية من أجل أن لا يبقى عذر لمدعي ألوهية المسيح، ولكيلا يعتبره الناس ربّاً، أما عدم تكرارها في الأخبار بالغيب لوضوح الأمر.