61- واذكروا - أيها اليهود - أيضاً يوم سيطر البطر على أسلافكم ، ولم يؤدوا لنعمة الله حقها فقالوا لموسى : إننا لن نصبر على طعام واحد ( وهو المن والسلوى ) فادع لنا ربك كي يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقولها وقثائها وعدسها وثومها وبصلها ، فتعجب موسى من ذلك ، وأنكره عليهم فقال لهم : أتفضلون هذه الأصناف على ما هو أفضل وأحسن ، وهو المن والسلوى ؟ . . فانزلوا إذن من سيناء وادخلوا مدينة من المدن فإنكم ستجدون فيها ما تريدون ، وبسبب ذلك البطر والعناد أحاطت بهؤلاء اليهود المذلة والفقر والخنوع ، واستحقوا غضب الله عليهم لما ألفوه من العناد والعصيان ، وما جروا عليه من الكفر بآيات الله وبقتلهم الأنبياء مخالفين بذلك الحق الثابت المقرر ، وقد جرأهم على ذلك - الكفر وهذا القتل - ما رُكِّب في نفوسهم من التمرد والعدوان ومجاوزة الحد في المعاصي .
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }
أي : واذكروا ، إذ قلتم لموسى ، على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها ، { لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } أي : جنس من الطعام ، وإن كان كما تقدم أنواعا ، لكنها لا تتغير ، { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا } أي : نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه ، { وَقِثَّائِهَا } وهو الخيار { وَفُومِهَا } أي : ثومها ، والعدس والبصل معروف ، قال لهم موسي { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى } وهو الأطعمة المذكورة ، { بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وهو المن والسلوى ، فهذا غير لائق بكم ، فإن هذه الأطعمة التي طلبتم ، أي مصر هبطتموه وجدتموها ، وأما طعامكم الذي من الله به عليكم ، فهو خير الأطعمة وأشرفها ، فكيف تطلبون به بدلا ؟
ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم لأوامر الله ونعمه ، جازاهم من جنس عملهم فقال : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } التي تشاهد على ظاهر أبدانهم { وَالْمَسْكَنَةُ } بقلوبهم ، فلم تكن أنفسهم عزيزة ، ولا لهم همم عالية ، بل أنفسهم أنفس مهينة ، وهممهم أردأ الهمم ، { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } أي : لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها وفازوا ، إلا أن رجعوا بسخطه عليهم ، فبئست الغنيمة غنيمتهم ، وبئست الحالة حالتهم .
{ ذَلِكَ } الذي استحقوا به غضبه { بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } الدالات على الحق الموضحة لهم ، فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم ، وبما كانوا { يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ }
وقوله : { بِغَيْرِ الْحَقِّ } زيادة شناعة ، وإلا فمن المعلوم أن قتل النبي لا يكون بحق ، لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم .
{ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا } بأن ارتكبوا معاصي الله { وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } على عباد الله ، فإن المعاصي يجر بعضها بعضا ، فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير ، ثم ينشأ عنه الذنب الكبير ، ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك ، فنسأل الله العافية من كل بلاء .
واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن ، وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم ، ونسبت لهم لفوائد عديدة ، منها : أنهم كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم ، ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به ، فبين الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم ، ما يبين به لكل أحد [ منهم ] أنهم ليسوا من أهل الصبر ومكارم الأخلاق ، ومعالي الأعمال ، فإذا كانت هذه حالة سلفهم ، مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف الظن بالمخاطبين ؟ " .
ومنها : أن نعمة الله على المتقدمين منهم ، نعمة واصلة إلى المتأخرين ، والنعمة على الآباء ، نعمة على الأبناء ، فخوطبوا بها ، لأنها نعم تشملهم وتعمهم .
ومنها : أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم ، مما يدل على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها ، حتى كان متقدمهم ومتأخرهم في وقت واحد ، وكان الحادث من بعضهم حادثا من الجميع .
لأن ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع ، وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع .
ومنها : أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها ، والراضي بالمعصية شريك للعاصي ، إلى غير ذلك من الحِكَم التي لا يعلمها إلا الله .
لقد كانوا بين الصحراء بجدبها وصخورها ، والسماء بشواظها ورجومها . فأما الحجر فقد أنبع الله لهم منه الماء ، وأما السماء فأنزل لهم منها المن والسلوى : عسلا وطيرا . . ولكن البنية النفسية المفككة ، والجبلة الهابطة المتداعية ، أبت على القوم أن يرتفعوا إلى مستوى الغاية التي من أجلها أخرجوا من مصر ، ومن أجلها ضربوا في الصحراء . . لقد أخرجهم الله - على يدي نبيهم موسى - عليه السلام - من الذل والهوان ليورثهم الأرض المقدسة ، وليرفعهم من المهانة والضعة . . وللحرية ثمن ، وللعزة تكاليف ، وللأمانة الكبرى التي ناطهم الله بها فدية . ولكنهم لا يريدون أن يؤدوا الثمن ، ولا يريدون أن ينهضوا بالتكاليف ، ولا يريدون أن يدفعوا الفدية . حتى بأن يتركوا مألوف حياتهم الرتيبة الهينة . حتى بأن يغيروا مألوف طعامهم وشرابهم ، وأن يكيفوا أنفسهم بظروف حياتهم الجديدة ، في طريقهم إلى العزة والحرية والكرامة . إنهم يريدون الأطعمة المنوعة التي ألفوها في مصر . يريدون العدس والثوم والبصل والقثاء . . وما إليها ! وهذا ما يذكرهم القرآن به . وهم يدعون في المدينة دعاواهم العريضة :
( وإذ قلتم : يا موسى لن نصبر على طعام واحد ، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها . قال : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم . . وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وباؤوا بغضب من الله ، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) . .
ولقد تلقى موسى - عليه السلام - طلبهم بالاستنكار :
( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ ) . .
أتريدون الدنية وقد أراد الله لكم العلية ؟
( اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ) . .
إما بمعنى أن ما يطلبونه هين زهيد ، لا يستحق الدعاء ؛ فهو موفور في أي مصر من الأمصار ، فاهبطوا أية مدينة فإنكم واجدوه فيها . . وإما بمعنى عودوا إذن إلى مصر التي أخرجتم منها . . عودوا إلى حياتكم الدارجة المألوفة . إلى حياتكم الخانعة الذليلة . . حيث تجدون العدس والبصل والثوم والقثاء ! ودعوا الأمور الكبار التي ندبتم لها . . ويكون هذا من موسى - عليه السلام - تأنيبا لهم وتوبيخا .
وأنا أرجح هذا التأويل الذي استبعده بعض المفسرين ، أرجحه بسبب ما أعقبه في السياق من قوله تعالى :
( وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ) . .
فإن ضرب الذلة والمسكنة عليهم ، وعودتهم بغضب الله ، لم يكن - من الناحية التاريخية - في هذه المرحلة من تاريخهم ؛ إنما كان فيما بعد ، بعد وقوع ما ذكرته الآية في ختامها :
( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير الحق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) .
وقد وقع هذا منهم متأخرا بعد عهد موسى بأجيال . إنما عجل السياق بذكر الذلة والمسكنة والغضب هنا لمناسبته لموقفهم من طلب العدس والبصل والثوم والقثاء ! فناسب أن يكون قول موسى لهم ، ( اهبطوا مصرا ) هو تذكير لهم بالذل في مصر ، وبالنجاة منه ، ثم هفوة نفوسهم للمطاعم التي ألفوها في دار الذل والهوان !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَىَ بِالّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنّ لَكُمْ مّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }
قد دللنا فيما مضى قبل على معنى الصبر وأنه كف النفس وحبسها عن الشئ فإذا كان ذلك كذلك فمعنى الآية إذا : واذكروا إذ قلتم يا معشر بني إسرائيل : لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد وذلك الطعام الواحد هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم وهو السلوى في قول بعض أهل التأويل ، وفي قول وهب بن منبه هو الخبز النّقيّ مع اللحم فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من البقل والقثاء . وما سمى الله مع ذلك وذكر أنهم سألوه موسى . وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فيما بلغنا ، ما :
حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَإذْ قُلْتُمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِر على طَعامٍ وَاحِدٍ قال : كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، فملوا ذلك ، وذكروا عيشا كان لهم بمصر ، فسألوه موسى ، فقال الله تعالى : اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : لَنْ نَصْبِرَ على طَعامٍ وَاحِدٍ قال : ملوا طعامهم ، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك ، قالُوا ادْعُ لَنّا ربّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثائِها وَفُومِها . . . الآية .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وَإذْ قُلْتُمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ على طعَامٍ وَاحِدٍ قال : كان طعامهم السلوى ، وشرابهم المنّ ، فسألوا ما ذكر ، فقيل لهم : اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ .
قال أبو جعفر ، وقال قتادة : إنهم لما قدموا الشأم فقدوا أطعمتهم التي كانوا يأكلونها ، فقالوا : ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثّائِها وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا وكانوا قد ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، فملوا ذلك ، وذكروا عيشا كانوا فيه بمصر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : سمعت ابن أبي نجيح في قوله عزّ وجل : لَنْ نَصْبِرَ على طَعامٍ وَاحِدٍ المنّ والسلوى ، فاستبدلوا به البقل وما ذكر معه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله سواء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بمثله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أعطوا في التيه ما أعطوا ، فملوا ذلك . وقالوا يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أنبأنا ابن زيد ، قال : كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا ، وشرابهم واحدا ، كان شرابهم عسلاً ينزل لهم من السماء يقال له المنّ ، وطعامهم طير يقال له السلوى ، يأكلون الطير ويشربون العسل ، لم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره . فقالوا : يا موسى إنا لن نصبر على طعام واحد ، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها فقرأ حتى بلغ : اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ .
وإنما قال جل ذكره : يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ ولم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الأرض ، فيقول : قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مما تنبته الأرض من بقلها وقثائها ، لأن «من » تأتي بمعنى التبعيض لما بعدها ، فاكْتُفي بها عن ذكر التبعيض ، إذ كان معلوما بدخولها معنى ما أريد بالكلام الذي هي فيه كقول القائل : أصبح اليوم عند فلان من الطعام يريد شيئا منه .
وقد قال بعضهم : «من » ههنا بمعنى الإلغاء والإسقاط ، كأن معنى الكلام عنده : يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها . واستشهد على ذلك بقول العرب : ما رأيت من أحد ، بمعنى : ما رأيت أحدا ، وبقول الله : وَيُكَفّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئَاتِكُمْ وبقولهم : قد كان من حديث ، فخلّ عني حتى أذهب ، يريدون : قد كان حديث .
وقد أنكر من أهل العربية جماعة أن تكون «من » بمعنى الإلغاء في شيء من الكلام ، وادّعُوا أنّ دخولها في كل موضع دخلت فيه مؤذن أن المتكلم مريد لبعض ما أدخلت فيه لا جميعه ، وأنها لا تدخل في موضع إلا لمعنى مفهوم .
فتأويل الكلام إذا على ما وصفنا من أمر من ذكرنا : فادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها . والبقل والقثاء والعدس والبصل ، هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الأرض وحبها . وأما الفوم ، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه . فقال بعضهم : هو الحنطة والخبز . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ومؤمل ، قالا : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، قال : الفوم : الخبز .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ومجاهد قوله : وَفُومِها قالا : خبزها .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَفُومِها قال : الخبز .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة والحسن : الفوم : هو الحبّ الذي تختبزه الناس .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن بمثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : وَفُومِها قال : الحنطة .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر عن السدي : وَفُومِهَا الحنطة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن وحصين ، عن أبي مالك في قوله : وَفُومِها : الحنطة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن قتادة قال : الفوم : الحبّ الذي يختبز الناس منه .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء بن أبي رباح قوله : وَفُومِها قال : خبزها . قالها مجاهد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال لي ابن زيد : الفوم : الخبز .
حدثني يحيى بن عثمان السهمي ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : وَفُومِها يقول : الحنطة والخبز .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : وَفُومِها قال : هو البرّ بعينه الحنطة .
حدثنا عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم الجرمي ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن رشدين بن كريب ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قول الله عزّ وجل : وَفُومِها قال : الفوم : الحنطة بلسان بني هاشم .
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا عبد العزيز بن منصور ، عن نافع بن أبي نعيم أن عبد الله بن عباس سئل عن قول الله : وَفُومِها قال : الحنطة ، أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول :
قَدْ كُنْتُ أغْنَى النّاسِ شَخْصا وَاحدا وَرَدَ المَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ
وقال آخرون : هو الثوم . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : هو هذا الثوم .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : الفوم : الثوم .
وهو في بعض القراءات «وثومها » . وقد ذكر أن تسمية الحنطة والخبز جميعا فوما من اللغة القديمة ، حكي سماعا من أهل هذه اللغة : فوّموا لنا ، بمعنى اختبزوا لنا وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود «وثومها » بالثاء . فإن كان ذلك صحيحا فإنه من الحروف المبدلة ، كقولهم : وقعوا في عاثور شرّ وعافور شرّ ، وكقولهم للأثافي أثاثي ، وللمغافير مغاثير ، وما أشبه ذلك مما تقلب الثاء فاء والفاء ثاء لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء . والمغافير شبيه بالشيء الحلو يشبه بالعسل ينزل من السماء حلوا يقع على الشجر ونحوها .
القول في تأويل قوله تعالى : أتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أدْنَى بالّذِي هُوَ خَيْرٌ .
يعني بقوله : قالَ أتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أدْنى بالّذِي هُوَ خَيْرٌ قال لهم موسى : أتأخذون الذي هو أخسّ خطرا وقيمة وقدرا من العيش ، بدلاً بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا وذلك كان استبدالهم .
وأصل الاستبدال : هو ترك شيء لاَخر غيره مكان المتروك . ومعنى قوله : أدْنى أخسّ وأوضع وأصغر قدرا وخطرا ، وأصله من قولهم : هذا رجل دنيّ بيّن الدناءة ، وإنه ليدني في الأمور بغير همز إذا كان يتتبع خسيسها . وقد ذكر الهمز عن بعض العرب في ذلك سماعا منهم ، يقولون : ما كنت دنيا ولقد دنأت . وأنشدني بعض أصحابنا عن غيره أنه سمع بعض بني كلاب ينشد بيت الأعشى :
باسِلَةُ الوَقْعِ سَرَابِيلُها *** بِيضٌ إلى دانِئها الظّاهرِ
بهمز الدانىء ، وأنه سمعهم يقولون : إنه لدانىء خبيث ، بالهمز . فإن كان ذلك عنهم صحيحا ، فالهمز فيه لغة وتركه أخرى .
ولا شكّ أن من استبدل بالمنّ والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم ، فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه .
وقد تأول بعضهم قوله : الّذي هُوَ أدْنَى بمعنى الذي هو أقرب ، ووجه قوله : أدنى إلى أنه أفعل من الدنوّ الذي هو بمعنى القرب . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : الّذِي هُوَ أدْنى قاله عدد من أهل التأويل في تأويله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قال : أتَسْتَبْدِلُونَ الّذي هُوَ أدْنى بالّذِي هُوَ خَيْرٌ يقول : أتستبدلون الذي هو شرّ بالذي هو خير منه ؟ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : الّذِي هُوَ أدْنى قال : أردأ .
القول في تأويل قوله تعالى : اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ .
وتأويل ذلك : فدعا موسى فاستجبنا له ، فقلنا لهم : اهبطوا مصر . وهو من المحذوف الذي اجتزىء بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه . وقد دللنا فيما مضى على أن معنى الهبوط إلى المكان إنما هو النزول إليه والحلول به .
فتأويل الآية إذا : وَإذْ قُلْتُمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ على طَعامٍ وَاحِدٍ فادْعُ لَنا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثائها وفُومِها وعَدَسِها وبَصَلِها قال لهم موسى : أتستبدلون الذي هو أخسّ وأردأ من العيش بالذي هو خير منه ؟ فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه ، فاستجاب الله له دعاءه ، فأعطاهم ما طلبوا ، وقال الله لهم : اهْبُطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ .
ثم اختلف القرّاء في قراءة قوله : مِصْرا فقرأه عامة القرّاء : «مصرا » بتنوين المصر وإجرائه وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه . فأما الذين نوّنوه وأجروه ، فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار لا مصرا بعينه ، فتأويله على قراءتهم : اهبطوا مصرا من الأمصار ، لأنكم في البدو ، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي ، وإنما يكون في القرى والأمصار ، فإن لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش . وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بالإجراء والتنوين ، كان تأويل الكلام عنده : اهبطوا مصرا البلدة التي تعرف بهذا الاسم وهي «مصر » التي خرجوا عنها ، غير أنه أجراها ونوّنها اتباعا منه خط المصحف ، لأن في المصحف ألفا ثابتة في مصر ، فيكون سبيل قراءته ذلك بالإجراء والتنوين سبيل من قرأ : قَوَارِيرا قَوَارِيرا مِنْ فِضّةٍ منوّنة اتباعا منه خط المصحف . وأما الذي لم ينوّن مصر فإنه لا شك أنه عنى مصر التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها .
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك نظير اختلاف القرّاء في قراءته .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : اهْبِطُوا مِصْرا أي مصرا من الأمصار فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : اهْبُطُوا مِصْرا من الأمصار ، فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ فلما خرجوا من التيه رفع المنّ والسلوى وأكلوا البقول .
وحدثني المثنى ، قال : حدثني آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن قتادة في قوله : اهْبُطُوا مِصْرا قال : يعني مصرا من الأمصار .
وحدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : اهْبِطُوا مِصْرا قال : مصرا من الأمصار ، زعموا أنهم لم يرجعوا إلى مصر .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : اهْبِطُوا مِصْرا قال : مصرا من الأمصار . ومصر لا تجري في الكلام ، فقيل : أيّ مصر ؟ فقال : الأرض المقدسة التي كتب الله لهم . وقرأ قول الله جل ثناؤه : ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ .
وقال آخرون : هي مصر التي كان فيها فرعون . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، حدثنا آدم ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : اهْبِطُوا مِصْرا قال : يعني به مصر فرعون .
حدثت عن عمار بن الحسن ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
ومن حجة من قال : إن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله : اهْبُطُوا مِصْرا مصرا من الأمصار دون مصر فرعون بعينها ، أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر ، وإنما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة إذ قال لهم : يا قَوْمُ ادْخُلُوا الأرْضُ المُقَدّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لكُمْ وَلاَ تَرْتَدّوا على أدْبارِكُم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يا مُوسَى إنّ فِيهَا قَوْما جَبّارِينَ إلى قوله : إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدا ما دَامُوا فِيها فاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قَاعِدُونَ . فحرّم الله جل وعز على قائل ذلك فيما ذكر لنا دخولها حتى هلكوا في التيه وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة ، ثم أهبط ذرّيتهم الشام ، فأسكنهم الأرض المقدسة ، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون بعد وفاة موسى بن عمران . فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة ، ولم يخبرنا عنهم أنه ردّهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها ، فيجوز لنا أن نقرأ اهبطوا مصر ، ونتأوّله أنه ردّهم إليها .
قالوا : فإن احتجّ محتجّ بقول الله جل ثناؤه : فأخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وأوْرَثْناها بَنِي إسْرَائِيلَ . قيل لهم : فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك فملكهم إياها ولم يردّهم إليها ، وجعل مساكنهم الشأم .
وأما الذين قالوا : إن الله إنما عنى بقوله جل وعز : اهْبِطُوا مِصْرا مِصْرَ ، فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها : فأخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأوْرَثْنَاها بَنِي إسْرَائِيلَ وقوله : كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنِعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كذلِكَ وأوْرَثْناها قَوْما آخَرِينَ . قالوا : فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورّثهم ذلك وجعلها لهم ، فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها . قالوا : ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها ، وإلا فلا وجه للانتفاع بها إن لم يصيروا أو يصر بعضهم إليها . قالوا : وأخرى أنها في قراءة أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود : «اهْبِطُوا مِصْرَ » بغير ألف ، قالوا : ففي ذلك الدلالة البينة أنها مصر بعينها .
والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين ، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر ، وأهل التأويل متنازعون تأويله .
فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بينه الله جل وعز في كتابه وهم في الأرض تائهون ، فاستجاب الله لموسى دعاءه ، وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك ، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه ، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر ، وجائز أن يكون الشأم . فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين : اهْبِطُوا مِصْرا وهي القرائة التي لا يجوز عندي غيرها لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين ، واتفاق قراءة القراء على ذلك . ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه إلا من لا يجوز الإعتراض به على الحجة فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينها .
القول في تأويل قوله تعالى : وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ .
قال أبو جعفر : يعني بقوله : وَضُرِبَتْ أي فُرضت ، ووضعت عليهم الذلة وأُلزموها من قول القائل : ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة ، وضرب الرجل على عبده الخراج يعني بذلك وضعه فألزمه إياه ، ومن قولهم : ضرب الأمير على الجيش البعث ، يراد به ألزمهموه .
وأما الذلة ، فهي الفعلة من قول القائل : ذلّ فلان يذلّ ذلاً وذلة ، كالصغرة من صغر الأمر ، والقعدة من قعد ، والذلة : هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ماهم عليه من كفرهم به وبرسوله إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم ، فقال جل وعز : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلاَ بالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقّ مِنَ الّذِين أُوتُوا الكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن وقتادة في قوله : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ قالا : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .
وأما المسكنة ، فإنها مصدر المسكين ، يقال : ما فيهم أسكن من فلان وما كان مسكينا ولقد تمسكن مسكنة . ومن العرب من يقول : تمسكن تمسكنا . والمسكنة في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة ، وهي خشوعها وذلها ، كما :
حدثني به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وَالمَسْكَنَةُ قال : الفاقة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قوله : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ قال : الفقر .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ قال هؤلاء يهود بني إسرائيل . قلت له : هم قبط مصر ، قال : وما لقبط مصر وهذا ؟ لا والله ما هم هم ، ولكنهم اليهود يهود بني إسرائيل . فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعزّ ذلاّ ، وبالنعمة بؤسا ، وبالرضا عنهم غضبا ، جزاءً منه لهم على كفرهم بآياته وقتلهم أنبياءه ورسله اعتداءً وظلما منهم بغير حقّ ، وعصيانهم له ، وخلافا عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ .
قال أبو جعفر : يعني بقوله : وَباءوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال باءوا إلا موصولاً إما بخير وإما بشرّ ، يقال منه : باء فلان بذنبه يبوء به بَوْءا وَبَوْاءً . ومنه قول الله عزّ وجلّ إني أرِيد أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يعني : تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني .
فمعنى الكلام إذا : ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم منه سخط . كما :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَباءُوا بِغَضَبٍ مِن اللّهِ فحدث عليهم غضب من الله .
حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : وَباءوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ قال : استحقوا الغضب من الله .
وقدمنا معنى غضب الله على عبده فيما مضى من كتابنا هذا ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : ذلكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرون بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الحَقّ .
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : «ذلك » ضرب الذلة والمسكنة عليهم ، وإحلاله غضبه بهم . فدل بقوله : «ذلك » وهو يعني به ما وصفنا على أن قول القائل ذلك يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها .
ويعني بقوله : بِأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرونَ : من أجل أنهم كانوا يكفرون ، يقول : فعلنا بهم من إحلال الذلّ والمسكنة والسخط بهم من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير الحقّ ، كما قال أعشى بني ثعلبة :
مَلِيكِيّةٌ جَاوَرتْ بالحِجَازِ *** قَوما عُداةً وأرْضا شَطِيرا
بِمَا قَدْ تَربّعُ روْضَ القَطا *** وَرَوْضَ التّناضِبِ حتّى تَصِيرَا
يعني بذلك : جاورتْ بهذا المكان هذه المرأةُ قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله لمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده من تربعها روض القطا وروض التناضب . فكذلك قوله : وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ والمَسْكَنَةُ وباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ ذلكَ بِأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ يقول : كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا ، وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا . وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى الكفر : تغطية الشيء وستره ، وأن آيات الله : حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله .
فمعنى الكلام إذا : فعلنا بهم ذلك من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده ، وتصديق رسله ويدفعون حقيتها ، ويكذبون بها .
ويعني بقوله : وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الحَقّ : ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم لإنباء ما أرسلهم به عنه لمن أرسلوا إليه . وهم جماع واحدهم نبيّ غير مهموز ، وأصله الهمز ، لأنه من أنبأ عن الله ، فهو يُنْبِىء عنه إنباء ، وإنما الاسم منه منبىء ولكنه صرف وهو «مُفعِل » إلى «فَعِيل » ، كما صرف سميع إلى فعيل من مفعل ، وبصير من مبصر ، وأشباه ذلك ، وأبدل مكان الهمزة من النبىء الياء ، فقيل نبي هذا . ويجمع النبيّ أيضا على أنبياء ، وإنما جمعوه كذلك لإلحاقهم النبيء بإبدال الهمزة منه ياء بالنعوت التي تأتي على تقدير فعيل من ذوات الياء والواو ، وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت على تقدير فعيل من ذوات الياء والواو جمعوه على أفعلاء ، كقولهم ولي وأولياء ، ووصي وأوصياء ، ودعيّ وأدعياء ، ولو جمعوه على أصله الذي هو أصله ، وعلى أن الواحد «نبيء » مهموز لجمعوه على فعلاء ، فقيل لهم النبآء ، على مثال النبغاء ، لأن ذلك جمع ما كان على فعيل من غير ذوات الياء والواو من النعوت كجمعهم الشريك شركاء ، والعليم علماء ، والحكيم حكماء ، وما أشبه ذلك . وقد حكي سماعا من العرب في جمع النبي النبآء ، وذلك من لغة الذين يهمزون النبيء ، ثم يجمعونه على النبآء على ما قد بينت ، ومن ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبيّ صلى الله عليه وسلم :
يا خاتمَ النّبآءِ إنّك مُرْسَل *** بالخَير كُلّ هُدى السّبِيلِ هُدَاكَا
فقال : يا خاتم النبآء ، على أن واحدهم نبيء مهموز . وقد قال بعضهم : النبي والنبوّة غير مهموز ، لأنهما مأخوذان من النّبْوَة ، وهي مثل النجوة ، وهو المكان المرتفع . وكان يقول : إن أصل النبي الطريق ، ويستشهد على ذلك ببيت القطامي :
لمّا وَرَدْنَ نَبِيّا واسْتَتَبّ بها *** مُسْحَنْفِرٌ كخُطوط السّيْحِ مُنْسَحِلُ
يقول : إنما سمي الطريق نبيا ، لأنه ظاهر مستبين من النّبوّة . ويقول : لم أسمع أحدا يهمز النبي . قال : وقد ذكرنا ما في ذلك وبينا ما فيه الكفاية إن شاء الله .
ويعني بقوله : وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الحَقّ : أنهم كانوا يقتلون رسل الله بغير إذن الله لهم بقتلهم منكرين رسالتهم جاحدين نبوّتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : ذلكَ بمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ .
وقوله : ذلكَ ردّ على «ذلك » الأولى . ومعنى الكلام : وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وباءوا بغضب من الله ، من أجل كفرهم بآيات الله ، وقتلهم النبيين بغير الحقّ ، من أجل عصيانهم ربهم ، واعتدائهم حدوده فقال جل ثناؤه : ذلك بِمَا عَصَوْا والمعنى : ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين . والاعتداء : تجاوز الحدّ الذي حدّه الله لعباده إلى غيره ، وكل متجاوز حدّ شيء إلى غيره فقد تعدّاه إلى ما جاوز إليه . ومعنى الكلام : فعلت بهم ما فعلت من ذلك بما عصوا أمري ، وتجاوزوا حدّي إلى ما نهيتهم عنه .
{ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد } يريدون به ما رزقوا في التيه من المن والسلوى . وبوحدته أنه لا يختلف ولا يتبدل ، كقولهم طعام مائدة الأمير واحد يريدون أنه لا تتغير ألوانه وبذلك أجمعوا أو ضرب واحد ، لأنهما طعام أهل التلذذ وهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم واشتهوا ما ألفوه .
{ فادع لنا ربك } سله لنا بدعائك إياه { يخرج لنا } يظهر ويوجد ، وجزمه بأنه جواب فادع فإن دعوته سبب الإجابة .
{ مما تنبت الأرض } من الإسناد المجازي ، وإقامة القابل مقام الفاعل ، ومن للتبعيض .
{ من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها } تفسير وبيان وقع موقع الحال ، وقيل بدل بإعادة الجار . والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطايبه التي تؤكل ، والفوم الحنطة ويقال للخبز ومنه فوموا لنا ، وقيل الثوم وقرئ قثائها بالضم ، وهو لغة فيه .
{ قال } أي الله ، أو موسى عليه السلام . { أتستبدلون الذي هو أدنى } أقرب منزلة وأدون قدرا . وأصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة ، فقيل بعيد المحل بعيد الهمة ، وقرئ " أدنأ " من الدناءة . { بالذي هو خير } يريد به المن والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي .
{ اهبطوا مصرا } انحدروا إليه من التيه ، يقال هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه إذا خرج منه ، وقرئ بالضم والمصر البلد العظيم وأصله الحد بين الشيئين ، وقيل أراد به العلم ، وإنما صرفه لسكون وسطه أو على تأويل البلد ، ويؤيده أنه غير منون في مصحف ابن مسعود . وقيل أصله مصراتم فعرب .
{ فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة } أحيطت بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه ، أو ألصقت بهم ، من ضرب الطين على الحائط ، مجازاة لهم على كفران النعمة . واليهود في غالب الأمر أذلاء مساكين ، إما على الحقيقة أو على التكلف مخافة أن تضاعف جزيتهم .
{ وباؤوا بغضب من الله } رجعوا به ، أو صاروا أحقاء بغضبه ، من باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقتل به ، وأصل البوء المساواة .
{ ذلك } إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب .
{ بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق } بسبب كفرهم بالمعجزات ، التي من جملتها ما عد عليهم من فلق البحر ، وإظلال الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، وانفجار العيون من الحجر . أو بالكتب المنزلة : كالإنجيل والفرقان ، وآية الرجم والتي فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة ، وقتلهم الأنبياء فإنهم قتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق عندهم ، إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم ، وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحب الدنيا كما أشار إليه بقوله : { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } أي : جرهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات ، وقتل النبيين . فإن صغار الذنوب سبب يؤدي إلى ارتكاب كبارها ، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها . وقيل كرر الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما هو بسبب الكفر ، والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله تعالى . وقيل الإشارة إلى الكفر والقتل ، والباء بمعنى مع وإنما جوزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين فصاعدا على تأويل ما ذكر ، أو تقدم للاختصار ، ونظيره في الضمير قول رؤبة يصف بقرة :
فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجلد توليع البهق
والذي حسن ذلك أن تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة ، ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع .
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ( 61 )
كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى ، وتذكروا عيشهم الأول بمصر ، وكنى عن المن والسلوى { بطعام واحد } ، وهما طعامان ، لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد ، ولتكرارهما سواء أبداً( {[667]} ) قيل لهما { طعام واحد } ، ولغة( {[668]} ) بني عامر «فادعِ » بكسر العين .
و { يخرج } : جزم بما تضمنه الأمر من معنى الجزاء( {[669]} ) ، وبنفس الأمر على مذهب أبي عمر الجرمي والمفعول على مذهب سيبويه مضمر تقديره مأكولاً مما تنبت الأرض ، وقال الأخفش : «من » في قوله : { مما } زائدة «وما » مفعولة ، وأبى سيبويه أن تكون «من » ملغاة في غير النفي ، كقولهم : ما رأيت من أحد ، و { من } في قوله : { من بقلها } لبيان الجنس ، و { بقلها } بدل بإعادة الحرف ، والبقل كل ما تنبته الأرض من النجم( {[670]} ) ، والقثاء جمع قثأة( {[671]} ) .
وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب : «قُثائها » ، بضم القاف .
وقال ابن عباس وأكثر المفسرين : «الفوم الحنطة » .
وقال عطاء وقتادة : «الفوم جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز كالحنطة والفول والعدس ونحوه » .
وقال الضحاك : «الفوم الثوم » ، وهي قراءة عبد الله بن مسعود بالثاء ، وروي ذلك عن ابن عباس( {[672]} ) ، والثاء تبدل من الفاء ، كما قالوا ، مغاثير ومغافير( {[673]} ) ، وجدث وجدف ، ووقعوا في عاثور شر ، وعافور شر ، على أن البدل لا يقاس عليه ، والأول أصح : أنها الحنطة ، وأنشد ابن عباس قول أحيحة بن الجلاح : [ الطويل ]
قد كنت أغنى الناس شخصاً واجداً . . . ورد المدينة عن زراعة فوم
قال ابن دريد( {[674]} ) : «الفوم الزرع أو الحنطة » ، وأزد السراة( {[675]} ) يسمون السنبل فوماً « ، والاستبدال طلب وضع الشيء موضع الآخر( {[676]} ) ، و { أدنى } مأخوذ عند أبي إسحاق الزجاج من الدنو أي القرب( {[677]} ) في القيمة .
وقال علي بن سليمان : هو مهموز من الدنيء البين الدناءة ، بمعنى الأخس ، إلا أنه خففت همزته .
وقال غيره : هو مأخوذ من الدون أي الأحط ، فأصله أدون أفعل ، قلب( {[678]} ) فجاء أفلع ، وقلبت الواو ألفاً لتطرفها .
وقرأ زهير للكسائي( {[679]} ) : » أدنأ ، ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل التي هي أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير ؟ والوجه الذي يوجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه ، يحتمل أن يكون تفاضلها في القيمة ، لأن هذه البقول لا خطر لها ، وهذا قول الزجاج ، ويحتمل أن يفضل المن والسلوى لأنه الطعام الذي من الله به وأمرهم بأكله ، وفي استدامة أمر الله تعالى وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوا عارٍ من هذه الخصال ، فكان أدنى من هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في الطيب واللذة به ، فالبقول لا محالة أدنى من هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في حسن الغذاء ونفعه ، فالمن والسلوى خير لا محالة في هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل من جهة أنه لا كلفة فيه ولا تعب ، والذي طلبوا لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب ، فهو { أدنى } في هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في أنه لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخللها البيوع( {[680]} ) والغصوب وتدخلها الشبه ، فهي { أدنى } في هذا الوجه .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : ويترتب الفضل للمن والسلوى بهذه الوجوه كلها ، وفي الكلام حذف ، تقديره : فدعا موسى ربه فأجابه( {[681]} ) ، فقال لهم : { اهبطوا } ، وتقدم ذكر معنى( {[682]} ) الهبوط ، وكأن القادم على قطر منصب( {[683]} ) عليه ، فهو من نحو الهبوط ، وجمهور الناس يقرؤون «مصراً » بالتنوين وهو خط المصحف ، إلا ما حكي عن بعض مصاحف عثمان رضي الله عنه( {[684]} ) .
وقال مجاهد وغيره ممن صرفها : «أراد مصراً من الأمصار غير معين » ، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية ، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه .
وقالت طائفة ممن صرفها( {[685]} ) : أراد مصر فرعون بعينها ، واستدلوا بما في القرآن من أن الله تعالى أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم ، وأجازوا صرفها .
وقال الأخفش : «لخفتها وشبهها بهند ودعد » وسيبويه لا يجيز هذا( {[686]} ) .
وقال غير الأخفش : «أراد المكان فصرف » .
وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وغيرهما : «اهبطوا مصر » بترك الصرف ، وكذلك هي في مصحف أبيّ بن كعب وقالوا : «هي مصر فرعون » .
قال الأعمش : «هي مصر التي عليها صالح بن علي » .
وقال أشهب : «قال لي مالك : هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون » .
وقوله تعالى : { فإن لكم ما سألتم } يقتضي أنه وكلهم إلى أنفسهم .
وقرأ النخغي وابن وثاب «سِألتم » بكسر السين( {[687]} ) وهي لغة ، { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } معناه ألزموها وقضي عليهم بها ، كما يقال ضرب الأمير البعث( {[688]} ) ، وكما قالت العرب ضربة لازب ، أي إلزام ملزوم أو لازم ، فينضاف المصدر إلى المفعول بالمعنى ، وكما يقال ضرب الحاكم على اليد ، أي حجر وألزم ؛ ومنه ضرب الدهر ضرباته ، أي ألزم إلزاماته ، و { الذلة } فعلة من الذل كأنها الهيئة والحال ، { والمسكنة } من المسكين ، قال الزجاج : «هي مأخوذة من السكون وهي هنا : زي الفقر وخضوعه( {[689]} ) ، وإن وجد يهودي غني فلا يخلو من زي الفقر ومهانته » .
قال الحسن وقتادة : «المسكنة الخراج أي الجزية » .
وقال أبو العالية : «المسكنة الفاقة والحاجة » .
{ وباؤوا بغضب من الله } معناه : مروا متحملين له( {[690]} ) ، تقول : بؤت بكذا إذا تحملته ، ومنه قول مهلهل ليحيى بن الحارث بن عباد : «بؤ( {[691]} ) بشسع نعل كليب » .
والغضب بمعنى الإرادة صفة ذات ، وبمعنى إظهاره على العبد بالمعاقبة صفة فعل ، والإشارة بذلك إلى ضرب الذلة وما بعده ، والباء في { بأنهم } باء السبب .
وقال المهدوي : «إن الباء بمعنى اللام » والمعنى : لأنهم ، والآيات هنا تحتمل أن يراد بها التسع( {[692]} ) وغيرها مما يخرق العادة ، وهو علامة لصدق الآية به ، ويحتمل أن يراد آيات التوراة التي هي كآيات القرآن .
وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «وتقتلون » بالتاء على الرجوع إلى خطابهم( {[693]} ) ، وروي عنه أيضاً بالياء .
وقرأ نافع : بهمز «النبيئين » ، وكذلك حيث وقع في القرآن ، إلا في موضعين( {[694]} ) : في سورة الأحزاب : { أن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي } [ الأحزاب : 50 ] بلا مد ولا همز ، { ولا تدخلوا بيوت النبي إلا } [ الأحزاب : 53 ] ، وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد ، وترك الهمز في جميع ذلك الباقون ، فأما من همز فهو عنده من «أنبأ » إذا أخبر ، واسم فاعله منبىء فقيل نبيء ، بمعنى منبىء ، كما قيل : سميع بمعنى مسمع ، واستدلوا بما جاء من جمعه على نبآء . قال الشاعر( {[695]} ) : [ الطويل ]
يا خاتم النبآء إنك مرسل . . . بالحقّ كلّ هدى الإله هداكا
فهذا كما يجمع فعيل في الصحيح «كظريف » وظرفاء وشبهه .
قال أبو علي : «زعم سيبويه أنهم يقولون في تحقير النبوة : كان مسيلمة نبوته نبيئة( {[696]} ) سوء ، وكلهم يقولون تنبأ مسيلمة ، فاتفاقهم على ذلك دليل على أن اللام همزة » ، واختلف القائلون بترك الهمز في نبيء ، فمنهم من اشتق النبي من همز ثم سهل الهمز ، ومنهم من قال : هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر ، فالنبي الطريق الظاهر ، وكان النبي من عند الله طريق الهدى والنجاة ، وقال الشاعر( {[697]} ) : [ البيسط ] .
لما وردنا نبياً واستتبّ بنا . . . مسحنفر كخطوط السيح منسحل( {[698]} )
واستدلوا بأن الأغلب في جمع أنبياء كفعيل في المعتل ، نحو ولي وأولياء وصفي وأصفياء ، وحكى الزهراوي أنه يقول نبوء إذا ظهر فهو نبيء ، والطريق الظاهر نبيء بالهمز ، وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : السلام عليك يا نبيء الله ، وهمز ، فقال له النبي صلى عليه السلام : لست بنبيء الله ، وهمز ، ولكني نبيّ الله ، ولم يهمز .
قال أبو علي : «ضعف سند هذا الحديث ، ومما يقوي ضعفه أنه صلى الله عليه وسلم ، قد أنشده المادح يا خاتم النبآء ولم يؤثر في ذلك إنكار ، والجمع كالواحد » .
وقوله تعالى : { بغير الحق } تعظيم( {[699]} ) للشنعة والذنب الذي أتوه ، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق ، ولكن من حيث قد يتخيل متخيل لذلك وجهاً ، فصرح قوله : { بغير الحق } عن شنعة الذنب ووضوحه ، ولم يجترم( {[700]} ) قط نبي ما يوجب قتله ، وإنما أتاح الله تعالى من أتاح منهم . وسلط عليه ، كرامة لهم ، وزيادة في منازلهم ، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين( {[701]} ) ، قال ابن عباس وغيره : «لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر »( {[702]} ) .
وقوله تعالى : { ذلك } رد على الأول وتاكيد للإشارة إليه( {[703]} ) ، والباء في { بما } باء السبب ، و { يعتدون } معناه : يتجاوزون الحدود ، والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء ، وعرفه في الظلم والمعاصي .