{ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } أي : ما تركك منذ اعتنى بك ، ولا أهملك منذ رباك ورعاك ، بل لم يزل يربيك أحسن تربية ، ويعليك درجة بعد درجة .
{ وَمَا قَلا } ك الله أي : ما أبغضك منذ أحبك ، فإن نفي الضد دليل على ثبوت ضده ، والنفي المحض لا يكون مدحًا ، إلا إذا تضمن ثبوت كمال ، فهذه حال الرسول صلى الله عليه وسلم الماضية والحاضرة ، أكمل حال وأتمها ، محبة الله له واستمرارها ، وترقيته في درج{[1447]} الكمال ، ودوام اعتناء الله به .
وقوله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى وهذا جواب القسم ، ومعناه : ما تركك يا محمد ربك وما أبغضك . وقيل : وَما قَلى ومعناه : وما قلاك ، اكتفاء بفهم السامع لمعناه ، إذ كان قد تقدّم ذلك قولُه : ما وَدّعَكَ فعُرف بذلك أن المخاطب به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى يقول : ما تركك ربك ، وما أبغضك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى قال : ما قلاك ربك وما أبغضك قال : والقالي : المبغض .
وذُكر أن هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تكذيبا من الله قريشا في قيلهم لرسول الله ، لما أبطأ عليه الوحي : قد ودّع محمدا ربّه وقَلاه . ذكر الرواية بذلك :
حدثني عليّ بن عبد الله الدهان ، قال : حدثنا مفضل بن صالح ، عن الأسود بن قيس العبديّ ، عن ابن عبد الله ، قال : لما أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت امرأة من أهله ، أو من قومه : ودّع الشيطان محمدا ، فأنزل الله عليه : وَالضّحَى . . . إلى قوله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
قال أبو جعفر : ابن عبد الله : هو جُندَب بن عبد الله البَجَلي .
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني ، ومحمد بن هارون القطان ، قالا : حدثنا سفيان ، عن الأسود بن قيس سمع جندبا البجليّ يقول : أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى قال المشركون : ودّع محمدا ربّه ، فأنزل الله : وَالضّحَى واللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأسود بن قيس ، أنه سمع جندبا البَجَليّ قال : قالت امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أرى صاحبك إلا قد أبطأ عنك ، فنزلت هذه الاَية : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأسود بن قيس ، قال : سمعت جندب بن عبد الله يقول : إن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فنزلت : والضُحَى وَاللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا سليمان الشيبانيّ ، عن عبد الله بن شدّاد أن خديجة قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ما أرى ربك إلا قد قلاك ، فأنزل الله : وَالضّحَى وَاللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى قال : إن جبريل عليه السلام أبطأ عليه بالوحي ، فقال ناس من الناس ، وهم يومئذٍ بمكة ، ما نرى صاحبك إلا قد قلاك فودّعك ، فأنزل الله ما تسمع : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلَى .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى قال : أبطأ عليه جبريل ، فقال المشركون : قد قلاه ربّه وودّعه ، فأنزل الله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى مكث جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال المشركون : قد ودّعه ربه وقلاه ، فأنزل الله هذه الاَية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى قال : لما نزل عليه القرآن ، أبطأ عنه جبريل أياما ، فعُيّر بذلك ، فقال المشركون : ودّعه ربه وقلاه ، فأنزل الله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجزع جزعا شديدا ، وقالت خديجة : أرى ربك قد قَلاك ، مما نرى من جزعك ، قال : فنزلت والضّحَى واللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى . . . إلى آخرها .
وقرأ جمهور الناس «ودّعك » بشد الدال من التوديع ، وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام «ودَعك » بتخفيف الدال من التوديع ، وقرأ عروة بن الزبير وأبنه هشام «ودَعك » بتخفيف الدال بمعنى ترك ، و { قلى } معناه : أبغض . واختلف في سبب هذه الآية فقال ابن عباس وغيره : أبطأ الوحي مرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة مدة اختلفت في حدها الروايات حتى شق ذلك عليه فجاءت امرأة من الكفار هي أم جميل امرأة أبي لهب ، فقالت يا محمد : ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فنزلت الآية بسبب ذلك{[11869]} . وقال ابن وهب عن رجال عن عروة بن الزبير أن خديجة قالت له : ما أرى الله إلا قد خلاك لإفراط جزعك لبطء الوحي عنك ، فنزل الآية بسبب ذلك{[11870]} ، وقال زيد بن أسلم : إنما احتبس عنه جبريل لجرو كلب كان في بيته{[11871]}
وجملة : { ما ودعك ربك } الخ جواب القسم ، وجواب القسم إذا كان جملة منفية لم تقترن باللام .
والتوديع : تحيةُ من يريد السفر .
واستعير في الآية للمفارقة بعد الاتصال تشبيهاً بفراق المسافر في انقطاع الصلة حيث شبه انقطاع صلة الكلام بانقطاع صلة الإقامة ، والقرينة إسناد ذلك إلى الله الذي لا يتصل بالناس اتصالاً معهوداً .
وهذا نفي لأن يكون الله قطع عنه الوحي .
وقد عطف عليه : { وما قلى } للإِتيان على إبطال مقالتي المشركين إذ قال بعضهم : ودَّعه ربه ، وقال بعضهم : قَلاه ربه ، يريدون التهكم .
وجملة : { وما قلى } عطف على جملة جواب القسم ولها حكمها .
والقليْ ( بفتح القاف مع سكون اللام ) والقِلَى ( بكسر القاف مع فتح اللام ) : البغض الشديد ، وسبب مقالة المشركين تقدم في صدر السورة .
والظاهر أن هذه السورة نزلت عقب فترة ثانية فتر فيها الوحي بعد الفترة التي نزلت إثرها سورة المدثر ، فعن ابن عباس وابن جريج : « احتبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً أو نحوها . فقال المشركون : إن محمداً ودَّعه ربه وقلاه ، فنزلت الآية » .
واحتباس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقع مرتين :
أولاهما : قبل نزول سورة المدثر أو المزمل ، أي بعد نزول سورتين من القرآن أو ثلاث على الخلاف في الأسبق من سورتي المزمل والمدثر ، وتلك الفترة هي التي خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون قد انقطع عنه الوحي ، وهي التي رأى عقبها جبريل على كرسي بين السماء والأرض كما تقدم في تفسير سورة المدثر ، وقد قيل : إن مدة انقطاع الوحي في الفترة الأولى كانت أربعين يوماً ولم يشعر بها المشركون لأنها كانت في مبدإ نزول الوحي قبل أن يشيع الحديث بينهم فيه وقبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن ليلاً .
وثانيتهما : فترة بعد نزول نحو من ثماننِ سور ، أي السور التي نزلت بعد الفترة الأولى فتكون بعد تجمع عشر سور ، وبذلك تكون هذه السورة حادية عشرة فيتوافق ذلك مع عددها في ترتيب نزول السور .
والاختلاف في سبب نزول هذه السورة يدل على عدم وضوحه للرواة ، فالذي نظنه أن احتباس الوحي في هذه المرة كان لمدة نحو من اثني عشر يوماً وأنه ما كان إلا للرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم كي تسْتَجِمَّ نفسه وتعتاد قوته تحمُّل أعباء الوحي إذ كانت الفترة الأولى أربعين يوماً ثم كانت الثانية اثني عشر يوماً أو نحوها ، فيكون نزول سورة الضحى هو النزول الثالث ، وفي المرة الثالثة يحصل الارتياض في الأمور الشاقة ولذلك يكثر الأمر بتكرر بعض الأعمال ثلاثاً ، وبهذا الوجه يجمع بين مختلف الأخبار في سبب نزول هذه السورة وسبب نزول سورة المدثر .
وحُذف مفعول { قلى } لدلالة { ودعك } عليه كقوله تعالى : { والذاكرين اللَّه كثيراً والذاكرات } [ الأحزاب : 35 ] وهو إيجاز لفظيّ لظهور المحذوف ومثله قوله : { فآوى } [ الضحى : 6 ] ، ف { هدى } [ الضحى : 7 ] { فأغنى } [ الضحى : 8 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ ما ودعك ربك } يا محمد { وما قلى } يعني وما مقتك ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا جواب القسم ، ومعناه : ما تركك يا محمد ربك وما أبغضك . وقيل : "وَما قَلى" ومعناه : وما قلاك ، اكتفاء بفهم السامع لمعناه ، إذ كان قد تقدّم ذلك قولُه : "ما وَدّعَكَ" فعُرف بذلك أن المخاطب به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم . ... حدثني محمد بن عيسى الدامغاني ، ومحمد بن هارون القطان ، قالا : حدثنا سفيان ، عن الأسود بن قيس سمع جندبا البجليّ يقول : أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى قال المشركون : ودّع محمدا ربّه ، فأنزل الله : وَالضّحَى واللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وفي " وَدَّعَك " قراءتان : أحدهما : قراءة الجمهور ودّعك ، بالتشديد ، ومعناها : ما انقطع الوحي عنك توديعاً لك . والثانية : بالتخفيف ، ومعناها : ما تركك إعراضاً عنك ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والتوديع : مبالغة في الودع ؛ لأنّ من ودّعك مفارقاً فقد بالغ في تركك .
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ ما ودعك } أي تركك تركاً يحصل به فرقة كفرقة المودع ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع { ربك } أي الذي أحسن إليك بإيجادك أولاً ، وجعلك أكمل الخلق ثانياً ، ورباك أحسن تربية ثالثاً ، كما أنه لا يمكن توديع الليل للنهار بل الضحى للنهار الذي هو أشد ضيائه ، ولا يمكن توديع الضحى للنهار ولا الليل وقت سجوه له . ولما كان ربما تعنت متعنت فقال : ما تركه ولكنه لا يحبه ، فكم من مواصل وليس بواصل ، قال نافياً لكل ترك : { وما قلى } أي وما أبغضك بغضاً ما ، وحذف الضمير اختصاراً لفظياً ليعم ، فهو من تقليل اللفظ لتكثير المعنى ....
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وقال [الشهاب] في ( شرح الشفاء ): الوداع له معنيان في اللغة الترك وتشييع المسافر، فإن فسر بالثاني هنا على طريق الاستعارة يكون فيه إيماء إلى أن الله لم يتركه أصلا ، فإنه معه أينما كان وإنما الترك لو تصور في جانبه ظاهر مع دلالته بهذا المعنى على الرجوع ، فالتوديع إنما يكون لمن يحب ويرجى عوده وإليه ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
( ما ودعك ربك وما قلى ) . . ما تركك ربك ولا جافاك - كما زعم من يريدون إيذاء روحك وإيجاع قلبك وإقلاق خاطرك . . وهو( ربك ) وأنت عبده المنسوب إليه ، المضاف إلى ربوبيته ، وهو راعيك وكافلك . . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
واحتباس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقع مرتين :
أولاهما : قبل نزول سورة المدثر أو المزمل ، أي بعد نزول سورتين من القرآن أو ثلاث على الخلاف في الأسبق من سورتي المزمل والمدثر ، وتلك الفترة هي التي خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون قد انقطع عنه الوحي ، وهي التي رأى عقبها جبريل على كرسي بين السماء والأرض كما تقدم في تفسير سورة المدثر ، وقد قيل : إن مدة انقطاع الوحي في الفترة الأولى كانت أربعين يوماً ولم يشعر بها المشركون لأنها كانت في مبدإ نزول الوحي قبل أن يشيع الحديث بينهم فيه وقبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن ليلاً .
وثانيتهما : فترة بعد نزول نحو من ثماني سور ، أي السور التي نزلت بعد الفترة الأولى فتكون بعد تجمع عشر سور ، وبذلك تكون هذه السورة حادية عشرة فيتوافق ذلك مع عددها في ترتيب نزول السور . والاختلاف في سبب نزول هذه السورة يدل على عدم وضوحه للرواة ، فالذي نظنه أن احتباس الوحي في هذه المرة كان لمدة نحو من اثني عشر يوماً وأنه ما كان إلا للرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم كي تسْتَجِمَّ نفسه وتعتاد قوته تحمُّل أعباء الوحي إذ كانت الفترة الأولى أربعين يوماً ثم كانت الثانية اثني عشر يوماً أو نحوها ، فيكون نزول سورة الضحى هو النزول الثالث ، وفي المرة الثالثة يحصل الارتياض في الأمور الشاقة ولذلك يكثر الأمر بتكرر بعض الأعمال ثلاثاً ، وبهذا الوجه يجمع بين مختلف الأخبار في سبب نزول هذه السورة وسبب نزول سورة المدثر .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذا التعبير سَكنٌ لقلب النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتسلّ له ، ليعلم أن التأخير في نزول الوحي إنّما يحدث لمصلحة يعلمها الله تعالى ، وليست كما يقول الأعداء لترك الله نبيّه أو لسخطه عليه . فهو مشمول دائماً بلطف الله وعنايته الخاصّة ، وهو دائماً في كنف حماية الله سبحانه . ...