ثم ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة للآيات الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } فهذا مشتمل على الآيات التي جاء بها ، وهي ترجع إلى ثلاثة أمور :
الأول : في نفس إرساله ، والثاني : في سيرته وهديه ودله ، والثالث : في معرفة ما جاء به من القرآن والسنة .
فالأول والثاني ، قد دخلا في قوله : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ } والثالث دخل في قوله : { بِالْحَقِّ }
وبيان الأمر الأول وهو - نفس إرساله - أنه قد علم حالة أهل الأرض قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من عبادة الأوثان والنيران ، والصلبان ، وتبديلهم للأديان ، حتى كانوا في ظلمة من الكفر ، قد عمتهم وشملتهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ، قد انقرضوا قبيل البعثة .
وقد علم أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى ، ولم يتركهم هملا ، لأنه حكيم عليم ، قدير رحيم ، فمن حكمته ورحمته بعباده ، أن أرسل إليهم هذا الرسول العظيم ، يأمرهم بعبادة الرحمن وحده لا شريك له ، فبمجرد رسالته يعرف العاقل صدقه ، وهو آية كبيرة على أنه رسول الله ، وأما الثاني : فمن عرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة تامة ، وعرف سيرته وهديه قبل البعثة ، ونشوءه على أكمل الخصال ، ثم من بعد ذلك ،
قد ازدادت مكارمه وأخلاقه العظيمة الباهرة للناظرين ، فمن عرفها ، وسبر أحواله ، عرف أنها لا تكون إلا أخلاق الأنبياء الكاملين ، لأن الله تعالى جعل الأوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها وصدقهم وكذبهم .
وأما الثالث : فهو معرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الشرع العظيم ، والقرآن الكريم ، المشتمل على الإخبارات الصادقة ، والأوامر الحسنة ، والنهي عن كل قبيح ، والمعجزات الباهرة ، فجميع الآيات تدخل في هذه الثلاثة .
قوله : { بَشِيرًا } أي لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والأخروية ، { نَذِيرًا } لمن عصاك بالشقاوة والهلاك الدنيوي والأخروي .
{ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } أي : لست مسئولا عنهم ، إنما عليك البلاغ ، وعلينا الحساب .
{ إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }
ومعنى قوله جلّ ثناؤه : { إنّا أرْسَلْناكَ بالحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا } إنا أرسلناك يا محمد بالإسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الأديان وهو الحقّ مبشرا من اتبعك فأطاعك وقَبِلَ منك ما دعوته إليه من الحقّ ، بالنصر في الدنيا ، والظفر بالثواب في الاَخرة ، والنعيم المقيم فيها ومنذرا من عصاك فخالفك وردّ عليك ما دعوته إليه من الحقّ بالخزي في الدنيا ، والذلّ فيها ، والعذاب المهين في الاَخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تُسْألُ عَنْ أصْحَاب الجَحِيمِ } وقال أبو جعفر : قرأت عامة القراء : وَلا تُسألُ عَنْ أصْحَابِ الجَحِيمِ بضم التاء من «تُسأل » ورفع اللام منها على الخبر ، بمعنى : يا محمد إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا ، فبلغت ما أرسلت به ، وإنما عليك البلاغ والإنذار ، ولست مسئولاً عمن كفر بما أتيته به من الحقّ وكان من أهل الجحيم .
وقرأ ذلك بعض أهل المدينة : «وَلا تَسْألْ » جزما بمعنى النهي مفتوح التاء من «تَسأل » ، وجَزْم اللام منها . ومعنى ذلك على قراءة هؤلاء : إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به ، لا لتسأل عن أصحاب الجحيم ، فلا تسألْ عن حالهم . وتأوّل الذين قرءوا هذه القراءة ما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لَيْتَ شِعْرِي ما فَعَلَ أبَوَايَ » فنزلت : { وَلا تُسألُ عَنْ أصْحابِ الجَحِيمِ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَيْتَ شِعْرِي ما فَعَلَ أبَوَايَ لَيْتَ شِعْرِي ما فَعَلَ أبَوَايَ لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوايَ » » ثلاثا ، فنزلت : { إنّا أرْسَلْنَاكَ بالحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلا تُسألُ عَنْ أصْحابِ الجَحِيمِ } فما ذكرهما حتى توفاه الله .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني داود بن أبي عاصم ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : «لَيْتَ شِعْرِي أيْنَ أبَوَايَ ؟ » فنزلت : { إنّا أرْسَلْنَاكَ بالحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلا تُسألُ عَنْ أصْحابِ الجَحِيمِ } .
والصواب عندي من القراءة في ذلك قراءة من قرأ بالرفع على الخبر لأن الله جل ثناؤه قصّ قصص أقوام من اليهود والنصارى ، وذكر ضلالتهم ، وكُفْرَهم بالله ، وجراءَتهم على أنبيائه ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : إنا أرسلناك يا محمد بشيرا من آمن بك واتبعك ممن قصصت عليك أنباءه ومن لم أقصص عليك أنباءه ، ونذيرا من كفر بك وخالفك ، فبلّغ رسالتي ، فليس عليك من أعمال من كفر بك بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة ، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك . ولم يجر لمسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عن أصحاب الجحيم ذكر ، فيكون لقوله : { وَلا تُسألُ عَنْ أصْحَابِ الجَحِيمِ }وجهٌ يوجّه إليه .
وإنما الكلام موجه معناه إلى ما دلّ عليه ظاهره المفهوم ، حتى تأتي دلالة بيّنة تقوم بها الحجة على أن المراد به غير ما دلّ عليه ظاهره فيكون حينئذ مسلما للحجة الثابتة بذلك . ولا خبر تقوم به الحجة على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نُهي عن أن يسأل في هذه الآية عن أصحاب الجحيم ، ولا دلالة تدلّ على أن ذلك كذلك في ظاهر التنزيل .
والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل هذه الآية وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر ، دون النهي عن المسألة عنهم .
فإن ظنّ ظانّ أن الخبر الذي رُوي عن محمد بن كعب صحيح ، فإن في استحالة الشكّ من الرسول عليه السلام في أن أهل الشرك من أهل الجحيم ، وأن أبويه كانا منهم ، ما يدفع صحة ما قاله محمد بن كعب إن كان الخبر عنه صحيحا ، مع أن ابتداء الله الخبر بعد قوله : { إنّا أرْسَلْنَاكَ بالحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا } بالواو بقوله : ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ، وتركه وصل ذلك بأوله بالفاء ، وأن يكون : { إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا } ، ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ، أوضح الدلائل على أن الخبر بقوله : { ولا تسأل } ، أولى من النهي ، والرفع به أولى من الجزم .
وقد ذكر أنها في قراءة أبيّ : «وَما تُسْألُ » وفي قراءة ابن مسعود : «وَلَنْ تُسْألَ » وكلتا هاتين القراءتين تشهد بالرفع والخبر فيه دون النهي .
وقد كان بعض نحويي البصرة يوجه قوله : { وَلا تُسْألُ عَنْ أصْحَابِ الجَحِيمِ } إلى الحال ، كأنه كان يرى أن معناه : إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الجحيم . وذلك إذا ضم التاء ، وقرأه على معنى الخبر ، وكان يجيز على ذلك قراءته : «ولا تَسْألُ » ، بفتح التاء وضم اللام على وجه الخبر بمعنى : إنا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا ، غير سائل عن أصحاب الجحيم . وقد بينا الصواب عندنا في ذلك .
وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري في ذلك يرفعهما ما رُوي عن ابن مسعود وأبيّ من القراءة لأن إدخالهما ما أدخلا من ذلك من ( ما ) ، و( لن ) يدلّ على انقطاع الكلام عن أوله وابتداء قوله : وَلا تُسْألُ وإذا كان ابتداءً لم يكن حالاً . وأما أصحاب الجحيم ، فالجحيم هي النار بعينها إذا شبّت وقودها ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
إذا شُبّتْ جَهَنّمُ ثُمّ دَارَتْ وأعْرَضَ عَنْ قَوَابِسِها الجَحِيمُ
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.