ثم أخبر عن سعة كلامه وعظمة قوله ، بشرح يبلغ من القلوب كل مبلغ ، وتنبهر له العقول ، وتحير فيه الأفئدة ، وتسيح في معرفته أولو الألباب والبصائر ، فقال : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ } يكتب بها { وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } مدادا يستمد بها ، لتكسرت تلك الأقلام ولفني ذلك المداد ، و لم تنفد { كَلِمَاتُ اللَّهِ } تعالى ، وهذا ليس مبالغة لا حقيقة له ، بل لما علم تبارك وتعالى ، أن العقول تتقاصر عن الإحاطة ببعض صفاته ، وعلم تعالى أن معرفته لعباده ، أفضل نعمة ، أنعم بها عليهم ، وأجل منقبة حصلوها ، وهي لا تمكن على وجهها ، ولكن ما لا يدرك كله ، لا يترك كله ، فنبههم تعالى تنبيها تستنير به قلوبهم ، وتنشرح له صدورهم ، ويستدلون بما وصلوا إليه إلى ما لم يصلوا إليه ، ويقولون كما قال أفضلهم وأعلمهم بربه : " لا نحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " وإلا ، فالأمر أجل من ذلك وأعظم .
وهذا التمثيل من باب تقريب المعنى ، الذي لا يطاق الوصول إليه إلى الأفهام والأذهان ، وإلا فالأشجار ، وإن تضاعفت على ما ذكر ، أضعافا كثيرة ، والبحور لو امتدت{[673]} بأضعاف مضاعفة ، فإنه يتصور نفادها وانقضاؤها ، لكونها مخلوقة .
وأما كلام اللّه تعالى ، فلا يتصور نفاده ، بل دلنا الدليل الشرعي والعقلي ، على أنه لا نفاد له ولا منتهى ، وكل شيء ينتهي إلا الباري وصفاته { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى }
وإذا تصور العقل حقيقة أوليته تعالى وآخريته ، وأنه كل ما فرضه الذهن من الأزمان السابقة ، مهما تسلسل الفرض والتقدير ، فهو تعالى قبل ذلك إلى غير نهاية ، وأنه مهما فرضه الذهن والعقل ، من الأزمان المتأخرة ، وتسلسل الفرض والتقدير ، وساعد على ذلك من ساعد ، بقلبه ولسانه ، فاللّه تعالى بعد ذلك إلى غير غاية ولا نهاية .
واللّه في جميع الأوقات يحكم ، ويتكلم ، ويقول ، ويفعل كيف أراد ، وإذا أراد لا مانع له من شيء من أقواله وأفعاله ، فإذا تصور العقل ذلك ، عرف أن المثل الذي ضربه اللّه لكلامه ، ليدرك العباد شيئا منه ، وإلا ، فالأمر أعظم وأجل .
ثم ذكر جلالة عزته وكمال حكمته فقال : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : له العزة جميعا ، الذي ما في العالم العلوي والسفلي من القوة إلا منه ، أعطاها للخلق ، فلا حول ولا قوة إلا به ، وبعزته قهر الخلق كلهم ، وتصرف فيهم ، ودبرهم ، وبحكمته خلق الخلق ، وابتدأه بالحكمة ، وجعل غايته والمقصود منه الحكمة ، وكذلك الأمر والنهي وجد بالحكمة ، وكانت غايته المقصودة الحكمة ، فهو الحكيم في خلقه وأمره .
ثم ذكر عظمة قدرته وكمالها وأنه لا يمكن أن يتصورها العقل فقال : { مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أَنّمَا فِي الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولو أن شجر الأرض كلها بريت أقلاما والبَحْرُ يَمُدّهُ يقول : والبحر له مداد ، والهاء في قوله يَمُدّهُ عائدة على البحر . وقوله منْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ وفي هذا الكلام محذوف استغنى بدلالة الظاهر عليه منه ، وهو يكتب كلام الله بتلك الأقلام وبذلك المداد ، لتكسرت تلك الأقلام ، ولنفد ذلك المداد ، ولم تنفد كلمات الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سألت الحسن عن هذه الاَية وَلَوْ أنّ ما فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ قال : لو جعل شجر الأرض أقلاما ، وجعل البحور مدادا ، وقال الله : إن من أمري كذا ، ومن أمري كذا ، لنفد ماء البحور ، وتكسّرت الأقلام .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم ، قال : حدثنا عمرو ، في قوله وَلَوْ أنّ ما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ قال : لو بريت أقلاما والبحر مدادا ، فكتب بتلك الأقلام منه ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ ولو مدّه سبعة أبحر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله وَلَوْ أنّ ما فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ ، والبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ قال : قال المشركون : إنما هذا كلام يوشك أن ينفد ، قال : لو كان شجر البرّ أقلاما ، ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب مجادلة كانت من اليهود له . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : ثني رجل من أهل مكة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، أن أخبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة : يا محمد أرأيت قوله وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً إيانا تريد أم قومك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كُلاّ » ، فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك : أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كلّ شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّها في عِلْمِ اللّهِ قَلِيلٌ وَعِنْدَكُمْ مِنْ ذلكَ ما يكْفِيكُمْ » ، فأنزل الله عليه فيما سألوه عنه من ذلك : وَلَوْ أنّ ما في الأرْض مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ : أي أن التوراة في هذا من علم الله قليل .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، قال : سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فأنزل الله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ ، قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي ، وَما أُتِيتُمْ مِنَ العِلْم إلاّ قَلِيلاً فقالوا : تزعم أنا لم نؤت من العلم إلاّ قليلاً ، وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرا كَثِيرا قال : فنزلت وَلَوْ أنّ ما فِي الأرْضِ من شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ قال : ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار وأدخلكم الجنة ، فهو كثير طيب ، وهو في علم الله قليل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : لما نزلت بمكة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً يعني اليهود فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أتاه أحبار يهود ، فقالوا : يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً أفتعنينا أم قومك ؟ قال : «كُلاّ قَدْ عَنَيتُ » ، قالوا : فإنك تتلو : أنا قد أوتينا التوراة ، وفيها تبيان كلّ شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هِيَ فِي عِلمِ اللّهِ قَلِيلٌ ، وَقَدْ آتاكُمُ اللّهُ ما إنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ » ، فأنزل الله وَلَوْ أنّ ما فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ ، والبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ . . . إلى قوله إنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله والبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ فقرأته عامّة قرّاء المدينة والكوفة والبحر رفعا على الابتداء ، وقرأته قرّاء البصرة نصبا ، عطفا به على «ما » في قوله : وَلَوْ أنّ ما فِي الأرْضِ وبأيتهما قرأ القارىء فمصيب عندي . وقوله : إنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يقول : إن الله ذو عزّة في انتقامه ممن أشرك به ، وادّعى معه إلها غيره ، حكيم في تدبيره خلقه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.