85- وها أنتم أولاء يقتل بعضكم بعضا ، ويخرج فريق منكم فريقاً آخر من ديارهم متعاونين في ذلك عليهم مع غيركم بالإثم والعدوان ، ثم إن وقع فريق منكم أسرى لدى من تتعاونون معهم تعملون على إنقاذهم من الأسر بافتدائهم ، وإن سئلتم عما حملكم على افتدائهم قلتم : لأن أسفارنا أمرتنا أن نفدي أسرانا من اليهود ، أو لم تأمركم أسفاركم كذلك ألا تسفكوا دماء إخوانكم ، وألا تخرجوهم من ديارهم ؟ ، أفتذعنون لبعض ما جاء في الكتاب وتكفرون ببعض ؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ، ويوم القيامة يردهم الله - المطلع على أعمالهم وسرائرهم - إلى أشد العذاب{[4]} .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }
وهذا الفعل المذكور في هذه الآية ، فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة ، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين ، وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية ، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود ، بنو قريظة ، وبنو النضير ، وبنو قينقاع ، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة .
فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم{[92]} الفرقة الأخرى من اليهود ، فيقتل اليهودي اليهودي ، ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها ، وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا .
والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم ، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض ، ولا يخرج بعضهم بعضا ، وإذا وجدوا أسيرا منهم ، وجب عليهم فداؤه ، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين ، فأنكر الله عليهم ذلك فقال : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ } وهو فداء الأسير { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهو القتل والإخراج .
وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي ، وأن المأمورات من الإيمان ، قال تعالى : { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وقد وقع ذلك فأخزاهم الله ، وسلط رسوله عليهم ، فقتل من قتل ، وسبى من سبى منهم ، وأجلى من أجلى .
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } أي : أعظمه { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
لقد بين القرآن الكريم بعد ذلك بأنهم نقضوا عهودهم ، وارتكبوا ما نهوا عن ارتكابه ، فقال تعالى : { ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ . . . } أي : ثم أنتم - يا معشر اليهود - بعد اعترافكم بالميثاق ، والتزامكم به ، نقضتم عهودكم ، وارتكبتم في حق إخوانكم ما نهيتم عنه ، من القتل والإِخراج ، وفعلتم ما لا يليق بالعقلاء ، ومن يحترم المواثيق .
ولما كان قتل بعضهم لبعض ، وإخراجهم من أماكنهم يحتاج إلى قوة وغلبة ، بين - سبحانه - أنهم يرتكبون ذلك وهم متعاونون عليه بالشرور ومجازوة الحدود ، فقال تعالى : { تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بالإثم وَالْعُدْوَانِ } تظاهرون : من التظاهر وهو التعاون ، وأصله من الظهر ، كأن المتعاونين يسند كل واحد منهم ظهره إلى الآخر . والمعنى : تتعاونون على قتل إخوانكم وإخراجهم من ديارهم مع من ليسوا من أقاربكم وليسوا من دينكم ، وأنتم مرتكبون ذلك الإِثم والعدوان .
وقوله تعالى : { وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } بيان لتناقضهم وتفريقهم لأحكام الله تعالى .
وأُسارى - جمع أسير بمعنى مأسور ، وهو من يؤخذ على سبيل القهر فيشد بالإِسار وهو القد - بكسر القاف - ، والقد : سير يقلد من جلد غير مدبوغ . وتفادوهم : تنقذوهم من الأسر بالفداء ، يقال : فاداه وفداه : أعطى فداءه فأنقذه .
أي : أنتم - يا معشر اليهود - إن وجدتم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم أسرى تسعون في فكاكهم ، وتبذلون عرضاً لإِطلاقهم ، والشأن أن قتلهم وإخراجهم محرم عليكم كتركهم أسرى في أيدي أعدائكم ، فلماذا لم تتبعوا حكم التوراة في النهي عن قتالهم وإخراجهم كما اتبعتم حكمها في مفاداتهم ؟
وصدرت الجملة الكريمة " وهو محرم عليكم إخراجهم " بضمير الشأن للاهتمام بها .
والعناية بشأنها ، وإظهاهر أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم ، وليس خافياً عليهم .
وقوله تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } توبيخ وتقريع لهم على تفريقهم بين أحكام الله .
والمعنى : أفتتبعون أحكام كتابكم في فداء الأسرى ، ولا تتبعونها في نهيكم عن قتال إخوانكم وإخراجهم من ديارهم ؟ فالاستفهام للإِنكار والتوبيخ على التفريق بين أحكامه - تعالى - بالإِيمان ببعضها والكفر بالبعض الآخر .
وبعض الكتاب الذي آمنوا به هو ما حرم عليهم من ترك الأسرى في الأيدي عدوهم ، وبعضه الذي كفروا به ما حرم عليهم من القتل والإِخراج من الديار ، فالإِنكار منصب على جمعهم بين الكفر والإِيمان .
قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين : " وإنما سمى - سبحانه - عصيانهم بالقتل والإِخراج من الديار كفراً ؛ لأن من عصى أمر الله - تعالى - بحكم عملي معتقداً أن الحكمة والصلاح فيما فعله ، بحيث يتعاطاه دون أن يكون في قلبه أثر من التحرج ، ودون أن يأخذه ندم وحزن من أجل ما ارتكب . فقد خرج بهذه الحالة النفسية عن سبيل المؤمنين ، وفي الآية الكريمة دليل واضح على أن الذي يؤمن ببعض ما تقرر في الدين بالدليل القاطع ويكفر ببعضه ، يدخل في زمرة الكافرين لأن الإِيمان كل لا يتجزأ " .
ثم بين - سبحانه - العقاب الدنيوي والأخرى الذي استحقه أولئك المفرقون لأحكمه فقال تعالى : { فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .
اسم الإِشارة ( ذلك ) مشار به إلى القتل والإِخراج من الديار ، اللذين نقضوا بهما عهد الله بغياً وكفراً والخزي في الدنيا هو الهوان والمقت والعقوبة ومن مظاهره : ما لحق اليهود بعد تلك الحروب من المذلة بإجلاء بني فينقاع والنضير عن ديارهم ، وقتل بني قريظة وفتح خيبر ، وما لحقهم بعد ذلك من هوان وصغار ، وتلك سنة الله في كل أمة لا تتمسك بدينها ولا تربط شئونها بأحكام شريعتها وآدابها .
ولما كان البعض قد يتوهم أن خزيهم في الدنيا قد يكون سبباً في تخفيف العذاب عنهم في الأخرى ، نفى - سبحانه - هذا التوهم ، وبين أنهم يوم القيامة سيصيرون إلى ما هو أشد منه .
لأن الله - تعالى - ليس ساهياً عن أعمالهم حتى يترك مجازاتهم عليها .
فالمراد من نفي الغفلة نفي ما يتسبب عنها من ترك المجازاة لهم على شرورهم .
وفي ذلك دليل على أن الله - تعالى - يعاقب الحائدين عن طريقه المستقيم ، بعقوبات في الدنيا ، وفي الآخرة ، جزاء طغيانهم ، وإصرارهم على السيئات .
والعطف بثم في قوله : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } للترتيب الرتبي أي وقع ذلك كله وأنتم هؤلاء تقتلون ، والخطاب لليهود الحاضرين في وقت نزول القرآن بقرينة قوله : { هؤلاء } لأن الإشارة لا تكون إلى غائب وذلك نحو قولهم : ها أنا ذا وها أنتم أولاء ، فليست زيادة اسم الإشارة إلا لتعيين مفاد الضمير وهذا استعمال عربي يختص غالباً بمقام التعجب من حال المخاطب وذلك لأن أصل الإخبار أن يكون بين المخبر والمخبر عنه تخالف في المفهوم واتحاد في الصدق في الخارج وهوالمعروف عند المناطقة بحمل الاشتقاق نحو أنت صادق ، ولذلك لزم اختلاف المسند والمسند إليه بالجمود والاشتقاق غالباً أو الاتحاد في الاشتقاق ولا تجدهما جامدين إلا بتأويل .
ثم إن العرب قد تقصد من الإخبار معنى مصادفة المتكلم الشيءَ عينَ شيء يبحث عنه في نفسه نحو « أنت أبا جهل » قاله له ابن مسعود يوم بدر إذ وجده مثخناً بالجراح صريعاً ومصادفة المخاطب ذلك في اعتقاد المتكلم نحو « قال أنا يوسف وهذا أخي » فإذا أرادوا ذلك توسعوا في طريقة الإخبار فمن أجل ذلك صح أن يقال : « أنا ذلك » إذا كانت الإشارة إلى متقرر في ذهن السامع وهو لا يعلم أنه عين المسند إليه كقول خفاف بن نَدبة :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ** * تَأَمَّلْ خُفَافاً إنني أنا ذلكا{[144]} *
…………………… . . *** فتوسموني إنني أنا ذالكم{[145]} *
وأوسع منه عندهم نحوُ قول أبي النجم :
ثم إذا أرادوا العناية بتحقيق هذا الاتحاد جاءوا « بها التنبيهِ » فقالوا : هَا أنا ذا يقوله المتكلم لمن قد يشك أنه هو نحو قول الشاعر :
* إن الفتى مَن يقول ها أنا ذا{[146]} *
فإذا كان السبب الذي صحح الإخبار معلوماً اقتصَر المتكلم على ذلك وإلا أَتْبَع مثلَ ذلك التركيب بجملة تدل على الحال التي اقتضت ذلك الإخبار ولهم في ذلك مراتب : الأولى { ثم أنتم هؤلاء تقتلون } ، الثانية : { ها أنتم أولاء تحبونهم } [ آل عمران : 119 ] . ومنه « ها أنا ذا لديكما » قاله أمية بن أبي الصلت . الثالثة { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا } [ النساء : 109 ] ويستفاد معنى التعجب في أكثر مواقعه من القرينة كما تقول لمن وجدته حاضراً وكنت لا تترقب حضوره ها أنت ذا ، أو من الجملة المذكورة بعده إذا كان مفادها عجيباً كما رأيت في الأمثلة .
والأظهر أن يكون الضمير واسم الإشارة مبتدأ وخبراً والجملة بعدهما حالاً ، وقيل : هي مستأنفة لبيان منشأ التعجب ، وقيل : الجملة هي الخبر واسم الإشارة منادى معترض ومنعه سيبويه ، وقيل : اسم الإشارة منصوب على الاختصاص وهذا ضعيف .
وعلى الخلاف في موقع الجملة اختلف فيما لو أتى بعدها أنت ذَا ونحوِه بمفرد فقيل يكون منصوباً على الحال وقيل : مرفوعاً على الخبر ولم يسمع من العرب إلا مثال أنشده النحاة وهو قوله :
* أبا حَكَم ها أنتَ نَجْمٌ مُجَالد *
ولأجل ذلك جاء ابن مالك في خطبة « التسهيل » بقوله : وها أنا ساع فيما انتدبت إليه ، وجاء ابن هشام في خطبة « المغني » بقوله : وها أنا مبيح بما أسررته .
واختلف النحاة أيضاً في أن وقوع الضمير بعد ( ها ) التنبيه هل يتعين أن يعقبه اسم الإشارة فقال في « التسهيل » هو غالب لا لازم وقال ابن هشام هولازم صرح به في « حواشي التسهيل » بنقل الدماميني في « الحواشي المصرية » في الخطبة وفي الهاء المفردة . وقال الرضى إن دخول ( ها ) التنبيه في الحقيقة إنما هو على اسم الإشارة على ما هو المعروف في قولهم هذا وإنما يفصل بينها وبين اسم الإشارة بفاصل فمنه الضمير المرفوع المنفصل كما رأيت ومنه القسم نحو قول الشاعر من « شواهد الرضي » :
تَعَلَّمَنْ هَا لعمرُ الله ذا قسما *** فاقدر بذرعك فانظر أين تنسلك
وشذ بغير ذلك نحو قول النابغة :
ها إنّ تَاعذرة إن لا تكن نفعت *** فإن صاحبها قد تاه في البلد
وقوله : { تقتلون } حال أو خبر . وعبر بالمضارع لقصد الدلالة على التجدد وأن ذلك من شأنكم وكذلك قوله : { وتخرجون فريقاً منكم } .
وجعل في « الكشاف » المقصود بالخطابات كلها في هذه الآية مراداً به أسلاف الحاضرين وجعل قوله : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون } مع إشعاره بمغايرة المشار إليهم للذين وجه إليهم الخطاب مراداً منه مغايرة تنزيلية لتغير صفات المخاطب الواحد وذلك تكلف ساقه إليه محبة جعل الخطابات في هذه الآية موافقة للخطابات التي في الآي قبلها ، وقد علمت أنه غير لازم وأن المغايرة مقصودة هنا وقد استقامت فلا داعي إلى التكلف .
وقد أشارت هذه الآية إلى ما حدث بين اليهود من التخاذل وإهمال ما أمرتهم به شريعتهم{[147]} والأظهر أن المقصود يهود قريظة والنضير وقَيْنُقَاعَ . وأراد من ذلك بخاصة ما حدث بينهم في حروب بُعَاث القائمة بين الأوس والخزرج وذلك أنه لما تَقَاتَل الأوسُ والخزرجُ اعتزل اليهودُ الفريقين زمناً طويلاً والأوسُ مغلوبون في سائر أيام القتال فدبر الأوس أن يخرجوا يسعون لمحالفة قُريظة والنَّضِير فلما علم الخزرج توعدوا اليهود إن فعلوا ذلك فقالوا لهم : إنا لا نحالف الأوس ولا نحالفكم فطلب الخزرجُ على اليهود رهائنَ أربعين غلاماً من غلمان قريظة والنضير فسلموهم لهم . ثم إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي أطمع قومه أن يتحولوا لقريظة والنضير لحسن أرضهم ونخلهم وأرسل إلى قريظة والنضير يقول لهم : إما أن تخلوا لنا دياركم وإما أن نقتل الرهائن فخشي القوم على رهائنهم واستشاروا كعب بن أسيد القُرظي فقال لهم : « يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان فما هي إلا ليلة يصيب أحدكم فيها امرأتَه حتى يولد له مثلُ أحدهم » فلما أجابت قريظة والنضير عمراً بأنهم يمنعون ديارهم عدا عمروٌ على الغلمان فقتلهم فلذلك تحالفت قريظة والنضير مع الأوس فسعى الخزرج في محالفة بني قينقاع من اليهود وبذلك نشأ قتال بين فِرق اليهود وكان بينهم يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين فكانت اليهود تتقاتل وتجلي المغلوبين من ديارهم وتأسرهم ، ثم لمَّا ارتفعت الحرب جمعوا مالاً وفدوا به أسرى اليهود الواقعين في أسر أحلاف أحد الفريقين من الأوس أو الخزرج فعيرت العربُ اليهودَ بذلك وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم فقالوا : قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أُمرنا أن نفدي الأسرى فذلك قوله تعالى : { وإن يأتوكم أُسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم } .
الواو في قوله : { وإن يأتوكم أُسارى } يجوز أن تكون للعطف فهو عطف على قوله : { تقتلون أنفسكم وتخرجون } فهو من جملة ما وقع التوبيخ عليه مما نكث فيه العهد وهو وإن لم يتقدم في ذِكر ما أُخذ عليهم العهدُ مَا يدل عليه إلا أنه لما رجع إلى إخراج الناس من ديارهم كان في جملة المنهيات . ولك أن تجعل الواو للحال من قوله : { وتخرجون فريقاً } أي تخرجونهم والحال إن أسرتموهم تفدونهم . وكيفما قدرت فقوله : { وهو محرم عليكم إخراجهم } جملة حالية من قوله : { يأتوكم } إما حال من معطوف وإما حال من حال إذ ليس فداء الأسير بمذموم لذاته ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء فحمل التوبيخ هو مجموع المفاداة مع كون الإخراج محرماً وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم ، فجملة { وهو محرم عليكم إخراجهم } حالية من ضمير { تفادوهم } . وصُدرت بضمير الشأن للاهتمام بها وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم وليست معطوفة على قوله : { وتخرجون فريقاً منكم } وما بينهما اعتراض لقلة جدواه إذ قد تحقق ذلك بقوله : { ولا تخرجون أنفسكم } .
وفي قوله : { وهو محرم عليكم إخراجهم } تشنيع وتبليد لهم إذ توهموا القُربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء ؟ .
وعندي أن في الآية دلالةً على ترجيح قول إمام الحرمين في أن الخارج من المغصوب ليس آتياً بواجب ولا بحرام ولكنه انقطع عنه تكليف النهي وأن القُربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير ناشئة عن معصية .
والأُسارى بضم الهمزة جمع أسير حَمْلاً له على كَسْلان كما حملوا كسلان على أسير فقالوا : كَسْلَى هذا مذهب سيبويه لأن قياس جمعه أَسرى كقتلى . وقيل : هو جمع نادر وليس مبنياً على حمل ، كما قالوا قدَامى جمع قديم . وقيل : هو جمعُ جمعٍ فالأسير يجمع على أسرى ثم يجمع أسرى على أُسارى وهو أظهر . والأسير فَعِيل بمعنى مفعول من أَسَرَه إذا أوثقه وهو فعل مشتق من الاسم الجامد فإن الإسَار هو السَّيْر من الجِلد الذي يوثق به المَسجون والمَوثوق وكانوا يُوثِقون المغلوبين في الحرب بسيور من الجِلد ، قال النابغة :
لم يبقَ غيرُ طريدٍ غيرِ مُنْفَلِت *** أو موثَقٍ في حِباله القدِّ مسلوبِ
وقرأ الجمهور ( أُسارى ) ، وقرأه حمزة ( أَسْرَى ) .
وقرأ نافع والكسائي وعاصم ويعقوب { تفادوهم } بصيغة المفاعلة المستعملة في المبالغة في الفداء أي تفدوهم فداء حريصاً ، فاستعمال فادى هنا مسلوب المفاضلة مثل عافاه الله وقول امرىء القيس :
فعادَى عداء بين ثور ونعجة *** دراكاً فلم ينضح بماء فيغسل
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وخلف { تفدوهم } بفتح الفوقية وإسكان الفاء دون ألف بعد الفاء .
والمحرم الممنوع ومادة حرم في كلام العرب للمنع ، والحرام الممنوع منعاً شديداً أو الممنوع منعاً من قبل الدين ، ولذلك قالوا : الأشهر الحرم وشهر المحرم .
وقوله : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم ، وسمي الاتباع والإعراض إيماناً وكفراً على طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها إلى الكفر به ، وإنما وقع { تؤمنون } في حيز الإنكار تنبيهاً على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من الدين مروق من الدين .
والفاء عاطفة على { تقتلون أنفسكم } ، وما عطف عليه ، عطفت الاستفهام أو عطفت مقدراً دل عليه الاستفهام وسيأتي تحقيق ذلك قريباً عند قوله { أفكلما جاءكم رسول } [ البقرة : 86 ] .
والفاء في قوله : { فما جزاء من يفعل ذلك منكم } فصيحة عاطفة على محذوف دل عليه الاستفهام الإنكاري أو عاطفة على نفس الاستفهام لما فيه من التوبيخ . وقال عبد الحكيم : إن الجملة معترضة والاعتراض بالفاء وهذا بعيد معنى ولفظاً ، وأما الأول فلأن الاعتراض في آخر الكلام المعبر عنه بالتذييل لا يكون إلا مفيداً لحاصل ما تقدم وغير مفيد حكماً جديداً وأما الثاني فلأن اقتران الجملة المعترضة بحرف غير الواو غير معروف في كلامهم .
والخزي بالكسر ذل في النفس طارىء عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت عليها وهواسم لما يحصل من ذلك وفعله من باب سمع فمصدره بفتح الخاء ، والمراد بالخزي ما لحق باليهود بعدتلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل قريظة وفتح خيبر وما قدر لهم من الذل بين الأمم .
وقرأ الجمهور { يُردون } و { يعملون } بياء الغيبة ، وقرأ عاصم في رواية عنه { تردون } بتاء الخطاب نظراً إلى معنى ( من ) وإلى قوله ( منكم ) ، وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب : ( يعملون ) بياء الغيبة وقرأه الجمهور بتاء الخطاب .
وقد دلت هذه الآية على أن الله يعاقب الحائدين عن الطريق بعقوبات في الدنيا وعقوبات في الآخرة .
وقد وقع اسم الإشارة وهو قوله : { أولئك الذين اشتروا } موقع نظيره في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .