50- قل - أيها الرسول - لهؤلاء الكفار : لا أقول لكم إني أملك التصرف بما يملكه الله فأجيبكم إلى ما تطلبون ، ولا أدعى علم الغيب الذي لم يطلعني الله عليه ، ولا أقول إني ملك أستطيع الصعود إلى السماء ! إنما أنا بشر لا أتبع إلا ما يوحيه الله إلي . قل - أيها النبي - : هل يستوي الضال والمهتدي في معرفة هذه الحقائق ؟ هل يليق بكم أن تعرضوا عن هدى أسوقه لكم ، فلا تتأملون فيه بعقولكم حتى يتبين لكم الحق ؟
{ 50 } { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ؛ المقترحين{[289]} عليه الآيات ، أو القائلين له : إنما تدعونا لنتخذك إلها مع الله . { وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ } أي : مفاتيح رزقه ورحمته . { وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } وإنما ذلك كله عند الله فهو الذي ما يفتح للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده ، وهو وحده عالم الغيب والشهادة . فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول .
{ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } فأكون نافذ التصرف قويا ، فلست أدعي فوق منزلتي ، التي أنزلني الله بها . { إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } أي : هذا غايتي ومنتهى أمري وأعلاه ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، فأعمل به في نفسي ، وأدعو الخلق كلهم إلى ذلك .
فإذا عرفت منزلتي ، فلأي شيء يبحث الباحث معي ، أو يطلب مني أمرا لست أدعيه ، وهل يلزم الإنسان ، بغير ما هو بصدده ؟ .
ولأي شيء إذا دعوتكم ، بما أوحي إلي أن تلزموني أني أدعي لنفسي غير مرتبتي . وهل هذا إلا ظلم منكم ، وعناد ، وتمرد ؟ قل لهم في بيان الفرق ، بين من قبل دعوتي ، وانقاد لما أوحي إلي ، وبين من لم يكن كذلك { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ } فتنزلون الأشياء منازلها ، وتختارون ما هو أولى بالاختيار والإيثار ؟
ثم لقن الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم الأجوبة الحاسمة التى تدمغ شبهات الكافرين ، وتبين ضلال مقترحاتهم فقال : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي . . . .
المعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يقترحون عليك المقترحات الباطلة قل لهم : ليس عندى خزائن الرزق فأعطيكم منها ما تريدون ، وإنما ذلك لله - تعالى - فهو الذى له خزائن السموات والأرض ، وقد كان المشركون يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم إن كنت رسولا من الله فاطلب منه أن يوسع عيشنا ويغنى فقرنا ، وقل لهم كذلك إنى لا أعلم الغيب فاخبركم بما مضى وبما سيقع فى المستقبل ، وإنما علم ذلك عند الله ، وقد كانوا يقولون له أخبرنا بما ينفعنا ويضرنا فى المستقبل . حتى نستعد لتحصيل المصالح ودفع المضار ، وقل لهم : إنى لست ملكا فأطلع على مالا يطلع عليه الناس وأقدر على ما لا يقدرون عليه . وقد كانوا يقولون : ما لهذا الرسول يأكل طعاما ويمشى فى الأسواق ثم يتزوج النساء .
ثم بين لهم وظيفته فقال : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } أى إن وظيفتى اتباع ما يوحى إلى من ربى . فأنا عبده وممتثل لأمره ، وحاشاى أن أدعى شيئا من تلك الأشياء التى اقترحتموها على . فالآية الكريمة مسوقة على سبيل الاستئناف لإظهار تبريه عما يقترحونه عليه .
ثم بين لهم - سبحانه - الفرق بين المهتدى والضال فقال : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } .
أى : قل لهم : هلى يستوى أعمى البصيرة الضال عن الصراط المستقيم الذى دعوتكم إليه ، وذو البصيرة المنيرة التى اهتدت إلى الحق فآمنت به واتبعته ؟
فالمراد بالأعمى الكافر الذى لم يستجب للحق ، وبالبصير المؤمن الذى انقاد له .
والاستفهام للانكار ونفى الوقوع ، أى : كما أنه لا يتساوى أعمى العينين وبصيرهما ، فكذلك لا يتساوى المهتدى والضال والرشيد والسفيه ، بل إن الفرق بين المهتدى والضال أقوة وأظهر ، لأنه كم من أعمى العينين وبصير القلب هو من أعلم العلماء وأهدى الفضلاء وكم من بصير العينين أعمى القلب هو أضل من الأنعام ، ولذا قرعهم الله - تعالى - بقوله : { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } ؟ أى : أفلا تتفكرون فى ذلك فتميزوا بين ضلالة الشرك وهداية الإسلام ، وبين صفات الرب وصفات الإنسان . والاستفهام هنا للتحريض على التفكر والتدبر .
هذا من الرد على القائلين لولا أنزل عليه آية والطالبين أن ينزل ملك أو تكون له جنة أو أكثر أو نحو هذا ، والمعنى : لست بهذه الصفات فيلزمني أن أجيبكم باقتراحاتكم ، وقوله { لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب } يحتمل معنيين أظهرهما أن يريد أنه بشر لا شيء عنده من خزائن الله ولا من قدرته ولا يعلم شيئاً مما غيب عنه ، والآخر أنه ليس بإله فكأنه قال :لا أقول لكم إني أتصف بأوصاف إله في أن عندي خزائنه وأني أعلم الغيب ، وهذا هو قول الطبري ، وتعطي قوة اللفظ في هذه الآية أن الملك أفضل من البشر ، وليس ذلك بلازم من هذا الموضع ، وإنما الذي يلزم منه أن الملك أعظم موقعاً في نفوسهم وأقرب إلى الله ، والتفضيل يعطيه المعنى عطاء خفياً وهو ظاهر من آيات أُخر ، وهي مسألة خلاف{[4923]} ، و { ما يوحى } يريد القرآن وسائر ما يأتي به الملك ، أي وفي ذلك عبر وآية لمن تأمل ونظر ، وقوله تعالى { قل هل يستوي } الآية ، أي قل لهم إنه لا يستوي الناظر المفكر في الآيات أو المعرض الكافر المهمل للنظر ، فالأعمى والبصير مثالان للمؤمن والكافر ، أي ففكروا أنتم وانظروا وجاء الأمر بالفكرة في عبارة العرض والتحضيض .
{ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي }
لمّا تقضّت المجادلة مع المشركين في إبطال شركهم ودحْض تعاليل إنكارهم نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم بأنَّهم لا يؤمنون بنبوءته إلاّ إذا جاء بآية على وفق هواهم ، وأبطلت شبهتهم بقوله : { وما نرسل المرسلين إلاّ مبشِّرين ومنذرين } [ الأنعام : 48 ] وكان محمد صلى الله عليه وسلم ممَّن شمله لفظ المرسلين ، نقل الكلام إلى إبطال معاذيرهم فأعلمهم الله حقيقة الرسالة واقترانها بالآيات فبيّن لهم أنّ الرسول هو الذي يتحدّى الأمّة لأنّه خليفة عن الله في تبليغ مراده من خلقه ، وليست الأمّة هي التي تتحدّى الرسول ، فآية صدق الرسول تجيء على وفق دعواه الرسالة ، فلو أدّعى أنّه مَلك أو أنّه بُعث لإنقاذ الناس من أرزاء الدنيا ولإدناء خيراتها إليهم لكان من عذرهم أن يسألوه آيات تؤيِّد ذلك ، فأمّا والرسول مبعوث للهدى فآيته أن يكون ما جاء به هو الهدى وأن تكون معجزته هو ما قارن دعوته ممّا يعجز البشر عن الإتيان بمثله في زمنهم .
فقوله { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من غرض إلى غرض . وافتتاح الكلام بالأمر بالقول للاهتمام بإبلاغه ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [ الأنعام : 40 ] .
وقد تكرّر الأمر بالقول من هنا إلى قوله { لكلّ نبأ مستقرّ } [ الأنعام : 67 ] اثنتي عشرة مرة .
والاقتصار على نفي ادّعاء هذه الثلاثة المذكورة في الآية ناظر إلى ما تقدّم ذكره من الآيات التي سألوها من قوله تعالى : { وقالوا لولا أنز ل عليه ملَك } [ الأنعام : 8 ] وقوله : { ولو نَزّلنا عليك كتاباً في قرطاس } [ الأنعام : 7 ] وقوله : { فإن استطعتَ أن تَبْتَغِي نَفَقاً في الأرض } [ الأنعام : 35 ] الآية .
وافتتح الكلام بنفي القول ليدلّ على أنّ هذا القول لم يقترن بدعوى الرسالة فلا وجه لاقتراح تلك الأمور المنفي قولها على الرسول لأنّ المعجزة من شأنها أن تجيء على وفق دعوى الرسالة .
واللام في { لكم } لام التبليغ ، وهي مفيدة تقوية فعل القول عندما لا تكون حاجة لذكر المواجَه بالقول كما هنا لظهور أنّ المواجَه بالقول هم المكذّبون ، ولذلك ورد قوله تعالى : { ولا أقول إنِّي ملَك } [ هود : 31 ] مجرّداً عن لام التبليغ . فإذا كان الغرض ذكر المواجَه بالقول فاللام حينئذٍ تسمَّى لام تعدَّية فعل القول فالذي اقتضى اجتلابَ هذه اللام هنا هو هذا القول بحيث لو قاله قائل لكان جديراً بلام التبليغ .
والخزائن جمع خِزانة بكسر الخاء وهي البيت أو الصندوق الذي يحتوي ما تتوق إليه النفوس وما ينفع عند الشدّة والحاجة . والمعنى أنّى ليس لي تصرّف مع الله ولا أدّعي أني خازن معلومات الله وأرزاقه .
و { خزائن الله } مستعارة لتعلّق قدرة الله بالإنعام وإعطاء الخيرات النافعة للناس في الدنيا .
شبّهت تلك التعلّقات الصّلُوحية والتنجيزية في حَجْبها عن عيون الناس وتناولهم مع نفعها إيّاهم ، بخزائن أهل اليسار والثروة التي تجمع الأموال والأحبية والخلع والطعام ، كما أطلق عليها ذلك في قوله تعالى : { ولله خزائن السماوات والأرض } [ المنافقون : 7 ] ، أي ما هو مودع في العوالم العليا والسفلى ممّا ينفع الناس ، وكذلك قوله : { وإنْ من شيء إلاّ عندنا خَزائنه } [ الحجر : 21 ] .
وتقديم المسند وهو قوله { عندي } للاهتمام به لما فيه من الغرابة والبشارة للمخبرين به لو كان يقوله .
وقوله : { ولا أعلم الغيب } عطف على { عندي خزائن الله } فهو في حيَّز القول المنفي . وأعيد حرف النفي على طريقة عطف المنفيات بعضها على بعض فإنّ الغالب أن يعاد معها حرف النفي للتنصيص على أنّ تلك المتعاطفات جميعها مقصودة بالنفي بآحادها لئلاّ يتوهّم أنّ المنفي مجموع الأمرين . والمعنى لا أقول أعلم الغيب ، أي علماً مستمراً ملازماً لصفة الرسالة . فأمّا إخباره عن بعض المغيّبات فذلك عند إرادة الله إطلاعه عليه بوحي خاصّ ، كما قال تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 ، 27 ] وهو داخل تحت قوله { إنْ أتّبع إلاّ ما يوحي إلي } .
وعطف : { ولا أقول لكم إنِّي ملك } على { لا أقول لكم عندي خزائن الله } بإظهار فعل القول فيه ، خلافاً لقوله : { ولا أعلم الغيب } لعلَّه لدفع ثقل التقاء حرفين : ( لا ) وحرف ( إنّ ) الذي اقتضاه مقام التأكيد ، لأنّ إدّعاء مثله من شأنه أن يؤكّد ، أي لم أدّع أنِّي من الملائكة فتقولوا : { لولا أنزل عليه ملك } [ الأنعام : 8 ] ، فنفي كونه ملكاً جواب عن مقترحهم أن ينزَل عليهم ملك أو أن يكون معه ملك نذيراً . والمقصود نفي أن يكون الرسول من جنس الملائكة حتى يكون مقارناً لمَلك آخر مقارنة تلازم كشأن أفراد الجنس الواحد . وكانوا يتوهَّمون أنّ الرسالة تقتضي أن يكون الرسول من غير جنس البشر فلذلك قالوا : { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } [ الفرقان : 7 ] . فالمعنى نفي ماهية المَلَكية عنه لأنّ لجنس الملك خصائص أخرى مغايرة لخصائص البشر . وهذا كما يقول القائل لمن يكلِّفه عنتاً : إنِّي لست من حديد .
ومن تلفيق الاستدلال أن يستدلّ الجُبائي بهذه الآية على تأييد قول أصحابه المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء مع بُعد ذلك عن مهيع الآية . وقد تابعه الزمخشري ، وكذلك دأبه كثيراً ما يُرْغِم معاني القرآن على مسايرة مذهبه فتنزو عصبيته وتَنْزوي عبقريته ، وهذه مسألة سنتكلَّم عليها في مظنَّتها .
وجملة { إنْ أتَّبع إلاّ ما يُوحي إليّ } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّه لمَّا نفي أن يقول هذه المقالات كان المقامُ مثيراً سؤال سائل يقول : فماذا تدّعي بالرسالة وما هو حاصلها لأنّ الجهلة يتوهَّمون أنّ معنى النبوءة هو تلك الأشياء المتبرّأ منها في قوله : { قل لا أقول لكم عندي خزائن } الخ ، فيجاب بقوله : { إن أتَّبع إلاّ ما يوحي إليّ } ، أي ليست الرسالة إلاّ التبليغ عن الله تعالى بواسطة الوحي .
فمعنى { أتَّبع } مجاز مرسل في الاقتصار على الشيء وملازمته دون غيره . لأنّ ذلك من لوازم معنى الاتِّباع الحقيقي وهو المشي خلف المتّبَع بفتح الموحّدة ، أي لا أحيد عن تبليغ ما يوحى إليّ إلى إجابة المقترحات من إظهار الخوارق أو لإضافة الأرزاق أوْ إخبار بالغيب ، فالتَّلقِّي والتبليغ هو معنى الاتِّباع ، وهو كنه الرسالة عن الله تعالى . فالقصر المستفاد هنا إضافي ، أي دون الاشتغال بإظهار ما تقترحونه من الخوارق للعادة . والغرض من القصر قلب اعتقادهم أنّ الرسول لا يكون رسولاً حتَّى يأتيهم بالعجائب المسؤولة . وقد حصل بذلك بيان حقيقة الرسالة تلك الحقيقة التي ضلّ عن إدراكها المعاندون . وهذا معنى قوله تعالى : { وما نرسل المرسلين إلاّ مبشِّرين ومنذرين } [ الأنعام : 48 ] .
وإذ قد كان القصر إضافياً كان لا محالة ناظراً إلى قلب اعتقادهم بالنسبة لمطالبهم باتِّباع مقترحاتهم ، أي لا أتَّبع في التبليغ إليكم إلاّ ما يوحى إليّ . فليس في هذا الكلام ما يقتضي قصر تصرّف الرسول عليه الصلاة والسلام على العمل بالوحي حتَّى يحتجّ بها من ينفي من علمائنا جواز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم في أمور الدين لأنّ تلك مسألة مستقلّة لها أدلَّة للجانبين ، ولا مساس لها بهذا القصر . ومن توهّمه فقد أساء التأويل .
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } .
هذا ختام للمجادلة معهم وتذييل للكلام المفتتح بقوله { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } ، أي قل لهم هذا التذييل عقب ذلك الاستدلال .
وشبّهت حالة من لا يفقه الأدلّة ولا يفكِّك بين المعاني المتشابهة بحالة الأعمى الذي لا يعرف أين يقصد ولا أين يضع قدمه . وشبِّهت حالة من يُميِّز الحقائق ولا يلتبس عليه بعضها ببعض بحالة القويّ البصر حيث لا تختلط عليه الأشباح . وهذا تمثيل لحال المشركين في فساد الوضع لأدلَّتهم وعُقم أقيستهم ، ولحال المؤمنين الذين اهتدوا ووضعوا الأشياء مواضعها ، أو تمثيل لحال المشركين التي هم متلبّسون بها والحال المطلوبة منهم التي نفروا منها ليعلموا أيّ الحالين أولى بالتخلّق .
وقوله { أفلا تتفكّرون } استفهام إنكار . وهو معطوف بالفاء على الاستفهام الأول ، لأنّه مترتِّب عليه لأنّ عدم استواء الأعمى والبصير بديهي لا يسعهم إلاّ الاعتراف بعدم استوائهما فلا جرم أن يتفرّع عليه إنكار عدم تفكّرهم في أنَّهم بأيّهما أشبه . والكلام على الأمر بالقول مثل ما تقدّم عند قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [ الأنعام : 40 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فقال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله}، يعني مفاتيح الله بنزول العذاب، {ولا أعلم الغيب}، يعني غيب نزول العذاب متى ينزل بكم، {ولا أقول لكم إني ملك}، لقولهم في حم السجدة: {لو شاء ربنا لأنزل ملائكة} (فصلت: 14) رسلا فنؤمن بهم، فأما أنت يا محمد، فلا نصدقك فيما تقول، {إن أتبع}، يقول: ما أتبع، {إلا ما يوحى إلي} من القرآن، {قل هل يستوي الأعمى} بالهدى فلا يبصره، وهو الكافر، {والبصير} بالهدى، وهو المؤمن، {أفلا}: فهلا {تتفكرون} فتعلمون أنهما لا يستويان.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل لهؤلاء المنكرين نبوّتك: لست أقول لكن إني الربّ الذي له خزائن السموات والأرض وأعلم غيوب الأشياء الخفية التي لا يعلمها إلاّ الربّ الذي لا يخفى عليه شيء، فتكذّبوني فيم أقول من ذلك لأنه لا ينبغي أن يكون ربّا إلاّ من له ملك كلّ شيء وبيده كلّ شيء ومن لا يخفى عليه خافية، وذلك هو الله الذي لا إله غيره. "وَلا أقُولُ لَكُمْ إنّي مَلَكٌ "لأنّه لا ينبغي لملك أن يكون ظاهرا بصورته لأبصار البشر في الدنيا، فتجحدوا ما أقول لكم من ذلك. "إنْ أتّبِعُ إلاّ ما يُوحَى إليّ": قل لهم: ما أتبع فيما أقول لكم وأدعوكم إليه إلاّ وحي الله الذي يوحيه إليّ وتنزيله الذي ينزله عليّ، فأمضي لوحيه وأأتمر لأمره، وقد أتيتكم بالحجج القاطعة من الله عذركم على صحة قولي في ذلك، وليس الذي أقول من ذلك بمنكر في عقولكم ولا مستحيل كونه بل ذلك مع وجود البرهان على حقيقته هو الحكمة البالغة، فما وجه إنكاركم لذلك؟ وذلك تنبيه من الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على موضع حجته على منكري نبوّته من مشركي قومه.
"قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ": قل يا محمد لهم: هل يستوي الأعمى عن الحقّ والبصير به؟ والأعمى هو الكافر الذي قد عمى عن حجج الله فلا يتبيّنها فيتبعها. والبصير: المؤمن الذي قد أبصر آيات الله وحججه فاقتدى بها واستضاء بضيائها. "أفَلا تَتَفَكّرُونَ" يقول لهؤلاء الذي كذّبوا بآيات الله: أفلا تتفكرون فيما أحتجّ عليكم به أيها القوم من هذه الحجج، فتعلموا صحة ما أقول وأدعوكم إليه من فساد ما أنتم عليه مقيمون من إشراك الأوثان والأنداد بالله ربكم وتكذيبكم إياي، مع ظهور حجج صدقي لأعينكم، فتَدَعُوا ما أنتم عليه من الكفر مقيمون إلى ما أدعوكم إليه من الإيمان الذي به تفوزون؟
عن مجاهد، في قول الله تعالى: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ" قال: الضالّ والمهتدى.
عن قتادة، في قوله: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ" قال: الأعمى: الكافر الذي قد عمي عن حقّ الله وأمره ونعمه عليه والبصير: العبد المؤمن الذي أبصر بصرا نافعا، فوحد الله وحده، وعمل بطاعة ربه، وانتفع بما آتاه الله.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قُل لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزآئِنُ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: الرزق، أي لا أقدر على إغناء فقير، ولا إفقار غني، قاله الكلبي. والثاني: مفاتيح خزائن العذاب لأنه خَوَّفهُم منه، فقالوا متى يكون هذا؟ قاله مقاتل. {وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ} فيه وجهان: أحدهما: علم الغيب في نزول العذاب عليهم متى يكون؟، قاله مقاتل. والثاني: علم جميع ما غاب من ماض ومستقبل، إلا أن المستقبل لا يعلمه إلا الله أو من أطلعه الله تعالى على علمه من أنبيائه، وأما الماضي فقد يعلمه المخلوقون من أحد الوجهين: إما من معاينة أو خبر، والخبر قد يكون من وجهين: إما من مخلوق عاين أو خالق أخبر، فإن كان الإِخبار عن مستقبل، فهو من آيات الله المعجزة، وإن كان عن ماض فإن علم به غير المخبر والمخبر لم يكن معجزاً، وإن لم يعلم به أحد وعلم به المخبِر وحده كان معجزاً، فنفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه علم الغيب، لأنه لا يعلمه غير الله تعالى، وإن ما أخبر به من غيب فهو عن الله ووحيه... {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن أخبركم إلا بما أخبرني الله به. والثاني: إن أفعل إلا ما أمرني الله به... {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: فيما ضربه الله من مثل الأعمى والبصير. الثاني: فيما بيّنه من آياته الدالة على توحيده وصدق رسوله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله -وهي قسمة بين الخلق وإرزاقه، وعلم الغيب، وأني من الملائكة الذين هم أشرف جنس خلقه الله تعالى وأفضله وأقربه منزلة منه. أي لم أدّع إلهية ولا ملكية؛ لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزل الملائكة، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكرونها. وإنما أدّعي ما كان مثله لكثير من البشر وهو النبوّة {هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} مثل للضالّ والمهتدي ويجوز أن يكون مثلاً لمن اتبع ما يوحي إليه. ومن لم يتبع. أو لمن ادّعى المستقيم وهو النبوة. والمحال وهو الإلهية أو الملكية {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} فلا تكونوا ضالين أشباه العميان. أو فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر. أو فتعلموا أن اتباع ما يوحى إليَّ مما لا بدّ لي منه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...هذا من الرد على القائلين لولا أنزل عليه آية والطالبين أن ينزل ملك أو تكون له جنة أو أكثر أو نحو هذا، والمعنى: لست بهذه الصفات فيلزمني أن أجيبكم باقتراحاتكم، وقوله {لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب} يحتمل معنيين أظهرهما أن يريد أنه بشر لا شيء عنده من خزائن الله ولا من قدرته ولا يعلم شيئاً مما غيب عنه، والآخر أنه ليس بإله فكأنه قال:لا أقول لكم إني أتصف بأوصاف إله في أن عندي خزائنه وأني أعلم الغيب، وهذا هو قول الطبري، وتعطي قوة اللفظ في هذه الآية أن الملك أفضل من البشر، وليس ذلك بلازم من هذا الموضع، وإنما الذي يلزم منه أن الملك أعظم موقعاً في نفوسهم وأقرب إلى الله، والتفضيل يعطيه المعنى عطاء خفياً وهو ظاهر من آيات أُخر، وهي مسألة خلاف، و {ما يوحى} يريد القرآن وسائر ما يأتي به الملك، أي وفي ذلك عبر وآية لمن تأمل ونظر،
المسألة الأولى: اعلم أن هذا من بقية الكلام على قوله {لولا نزل عليه ءاية من ربه} فقال الله تعالى قل لهؤلاء الأقوام، إنما بعثت مبشرا ومنذرا، وليس لي أن أتحكم على الله تعالى وأمره الله تعالى أن ينفي عن نفسه أمورا ثلاثة، أولها: قوله {لا أقول لكم عندي خزائن الله} فاعلم أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولا من عند الله، فاطلب من الله حتى يوسع علينا منافع الدنيا وخيراتها، ويفتح علينا أبواب سعادتها. فقال تعالى قل لهم إني لا أقول لكم عندي خزائن الله، فهو تعالى يؤتي الملك من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير لا بيدي والخزائن جمع خزانة، وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه، بحيث لا تناله الأيدي. وثانيها: قوله {ولا أعلم الغيب} ومعناه أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولا من عند الله فلابد وأن تخبرنا عما يقع في المستقبل من المصالح والمضار، حتى نستعد لتحصيل تلك المصالح، ولدفع تلك المضار. فقال تعالى: قل إني لا أعلم الغيب فكيف تطلبون مني هذه المطالب؟
والحاصل أنهم كانوا في المقام الأول يطلبون منه الأموال الكثيرة والخيرات الواسعة، وفي المقام الثاني كانوا يطلبون منه الإخبار عن الغيوب، ليتوسلوا بمعرفة تلك الغيوب إلى الفوز بالمنافع والاجتناب عن المضار والمفاسد. وثالثها: قوله {ولا أقول لكم إني ملك} ومعناه أن القوم كانوا يقولون {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق} ويتزوج ويخالط الناس. فقال تعالى: قل لهم إني لست من الملائكة.
واعلم أن الناس اختلفوا في أنه ما الفائدة في ذكر نفي هذه الأحوال الثلاثة؟
فالقول الأول: أن المراد منه أن يظهر الرسول من نفسه التواضع لله والخضوع له والاعتراف بعبوديته، حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليه السلام.
والقول الثاني: أن القوم كانوا يقترحون منه إظهار المعجزات القاهرة القوية، كقولهم {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} إلى آخر الآية فقال تعالى في آخر الآية {قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا} يعني لا أدعي إلا الرسالة والنبوة، وأما هذه الأمور التي طلبتموها، فلا يكن تحصيلها إلا بقدرة الله، فكان المقصود من هذا الكلام إظهار العجز والضعف وأنه لا يستقل بتحصيل هذه المعجزات التي طلبوها منه.
والقول الثالث: أن المراد من قوله {لا أقول لكم عندي خزائن الله} معناه إني لا أدعي كوني موصوفا بالقدرة اللائقة بالإله تعالى. وقوله {ولا أعلم الغيب} أي ولا أدعي كوني موصوفا بعلم الله تعالى. وبمجموع هذين الكلامين حصل أنه لا يدعي الإلهية.
ثم قال: {ولا أقول لكم إني ملك} وذلك لأنه ليس بعد الإلهية درجة أعلى حالا من الملائكة، فصار حاصل الكلام كأنه يقول لا أدعي الإلهية ولا أدعي الملكية ولكني أدعي الرسالة، وهذا منصب لا يمتنع حصوله للبشر، فكيف أطبقتم على استنكار قولي ودفع دعواي؟
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
إن الآيات الأربع التي قبل هذه الآيات قد بينت أركان الدين وأصول العقائد وهي: توحيد الله عز وجل، والرسالة أو وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، والجزاء على الأعمال. وقد جاءت الآيتان الأوليان من هذه الآيات بعدهن مفصلتين لما فيهن من بيان وظيفة الرسل العامة بتطبيقها على خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وإزالة أوهام الناس فيها، ومن بيان أمر الجزاء في الآخرة وكون الأمر فيه لله تعالى وحده، على الوجه الذي يزيد عقيدة التوحيد تقريرا وتأكيدا، وبيانا وتفصيلا. وذهب الرازي إلى أن هذا من بقية الكلام على قوله: {وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه} [الأنعام: 38] وما قلناه أظهر.
وقد بدئت الآية الأولى بالأمر بالقول على ما علمنا من أسلوب هذه السورة في بيان المسائل التي يتعلق بها التبليغ فقال عز وجل:
{قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك} أي قل أيها الرسول الذي لم يبعث إلا كما بعث غيره من الرسل مبشرا من أجاب دعوته بحسن الثواب، ومنذرا من ردها سوء العقاب، لهؤلاء الكفار المشاغبين لك بغير علم يميزون به بين شؤون الألوهية وحقيقة الرسالة، الذين يقترحون عليك من الآيات الكونية ما يعلمون أن البشر لا يقدرون عليه، لأنهم – وإن قالوه تعجيزا – يتوهمون أن الرجل من البشر لا يكون رسولا إلا أن يخرج من حقيقة البشرية ويصير إلها قادرا على ما لا يقدر عليه البشر وعالما بكل ما يعجز عن علمه البشر، وإن لم يكن من موضوع الرسالة التي عهد إليه أمر تبليغها، أو يصير ملكا من الملائكة في متعلق قدرته ومتناول علمه، لأن أمر الرسالة في خيالهم ينافي البشرية التي حقرها في أنفسهم جهلهم وسوء حالهم وفساد أعمالهم.
قل لهؤلاء: لا أقول لكم عندي خزائن الله أتصرف بما خزنه وحفظه فيها من أرزاق العباد وشؤون المخلوقات، فالخزائن جمع خزينة أو خزانة وهي ما يخزن فيها الشيء من يريد حفظه ومنع غيره من التصرف فيه، {ولله خزائن السموات والأرض} [المنافقون: 7] يتصرف فيها كما يشاء، ولا يقدر أحد من خلقه على التصرف في شيء منها إلا ما أعطاه تعالى إياه ومكنه من التصرف فيه، والمتصرف بما يعطى من الخزانة لا يكون متصرفا في الخزانة نفسها. فالمستخدمون عند الملك أو الرجل الغني يعطون أجورهم من خزانته فيتصرفون فيها دون الخزانة، وجميع الأحياء العاملين يتصرفون بما يعطيهم الله تعالى من خزائن الموجودات، كل بحسب ما أوتي من الاستعداد، في دائرة ارتباط الأسباب بالمسببات، ولا يقدر أحد منهم أن يتجاوز إلى ذلك ما لم يؤته ولم يصل إليه استعداده، فالتصرف المطلق في كل شيء إنما هو لله القادر على كل شيء، وليس من موضوع الرسالة أن يكون الرسول – المبلغ عن الله تعالى أمر دينه – قادرا على ما لا يقدر عليه البشر من التصرف في المخلوقات بالأسباب، فضلا عن التصرف الذاتي بغير سبب الذي طلبه المشركون منه، وجعلوه شرطا للإيمان له، كتفجير الينابيع والأنهار من أرض مكة وإيجاد الجنات والبساتين فيها، وإسقاط السماء عليهم كسفا، والإتيان بالله والملائكة قبيلا، وغير ذلك مما اقترحوه وحكاه الله تعالى عنهم في سورة الإسراء وغيرها.
بدأ بنفي القدرة على التصرف فيما ليس من شأن البشر التصرف فيه لعدم تسخير الله تعالى إياه لهم بإقدارهم على أسبابه. وثنى بنفي علم الغيب الخاص بالله تعالى فقال: {ولا أعلم الغيب} أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب وهو ما حجب الله علمه عن الناس بعدم تمكينهم من أسباب العلم به ككونه مما لا تدركه مشاعرهم الظاهرة ولا الباطنة لأنها لم تخلق مستعدة لإدراكه ولا لطرق الاستدلال عليه، أو لأنها مستعدة له بالقوة غير متمكنة من أسبابه بالفعل كعالم الآخرة. فالغيب من جنس المعلومات، كخزائن الله من جنس المقدورات، يراد بهما ما اختص بالله تعالى فلم يمكن عباده من علمه والتصرف فيه، أي لم يعطهم القوى ولم يسخر لهم الأسباب الموصلة إلى ذلك.
والغيب قسمان غيب حقيقي مطلق وهو ما غاب علمه عن جميع الخلق حتى الملائكة وفيه يقول الله عز وجل: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65] وغيب إضافي وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض كالذي يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره ولا يعلمه البشر مثلا، وأما ما يعلمه بعض البشر بتمكينهم من أسبابه واستعمالهم لها، ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب أو عجزهم عن استعمالها، فلا يدخل في عموم معنى الغيب الوارد في كتاب الله، وهذه الأسباب منها ما هو علمي كالدلائل العقلية والعلمية، فإن بعض علماء الرياضيات وغيرها يستخرجون من دقائق المجهولات ما يعجز عنه أكثر الناس، ويضبطون ما يقع من الخسوف والكسوف بالدقائق والثواني قبل وقوعه بالألوف من الأعوام، ومنها ما هو عملي كالتلغراف الهوائي أو اللاسلكي الذي يعلم المرء به بعض ما يقع ما في أقاصي البلاد وأجواز البحار التي بينه وبينها ألوف من الأميال، ومنها ما قد يصل إلى حد العلم من الإدراكات النفسية الخفية كالفراسة والإلهام – وأكثر هذا النوع من الانكشاف لوائح تلوح للنفس لا تجزم بها إلا بعد وقوعها – فما يصل منها إلى حد العلم الذي يجزم به صاحبه لاستكمال شروطه يشبه ما ينفرد بإدراكه بعض الممتازين بقوة الحاسة كزرقاء اليمامة التي كانت ترى على بعد عظيم ما لا يراه غيرها، أو بقوة بعض المدارك العقلية كالعلماء الذين أشرنا إليهم آنفا.
وأظهر شروط هذا النوع من الإدراك قوة الاستعداد الفطرية في النفس لذلك وتوجه النفس إلى المدرك توجها قويا لا يعارضه اشتغال قوى بغيرها من المدركات، وكثيرا ما يقع هذا في حال مرض عصبي أو انفعال نفسي قوي يحصر هم النفس كله فيه. وقد تقدم في تفسير {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا} [الأنعام: 9] من هذه السورة في هذا الجزء كلام نفيس في هذه الإدراكات الخفية الخاصة، ومن الناس من يعدها من خوارق العادات لخفاء أسبابها عنه، ويرده أنها مما يكثر ويتكرر حتى صار معتادا من أهله الكثيرين المختلفين في الملل والنحل والأخلاق والآداب، وما كان كذلك لا يكون من الخوارق كما قال محيي الدين بن العربي. ولكنا مع هذا نقول إن بعضه يصح أن يسمى كرامة كما يعلم من تفسيرنا للآية التاسعة من هذه السورة.
فإن قيل قد علمنا أن الرسالة الإلهية لا تتوقف على إقدار الرسول على التصرف في المخلوقات من غير طريق الأسباب التي سخرها الله للناس لأن موضوعها علمي تعليمي فهي عبارة عن تبليغ ما علمه الله للرسول بوحيه إليه وليس من موضوعها تغيير شيء من خلق الله، ولذلك لم يعط الله تعالى أحدا من رسله قدرة على هداية أحد بالفعل، قال تعالى لخاتم رسله: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} [البقرة: 273] – وقال له – {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56] ولو كان لهم شيء من التصرف في الخلق لجعله نوح نبي الله في هداية ولده، وإبراهيم خليل الله في هداية أبيه آزر، ولكن علم الغيب من موضوع الرسالة فإن أصل موضوعها رؤية الملائكة والتلقي عنهم وذلك من عالم الغيب الذي أمرنا بالإيمان به إتباعا للرسول صلى الله عليه وسلم الذي رأى بعينيه وسمع بأذنيه ووعى بقلبه، وقد أثبت تعالى علم الغيب المتعلق بالرسالة للرسل عليهم السلام فقال في آخر سورة الجن: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا * ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} [الجن: 26 – 28] فكيف أمر رسوله أن يتنصل في هذه الآية من ادعاء علم الغيب، وأن يستدل على ذلك بعد نفي التصرف بقوله في أواخر الأعراف: {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء، إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} [الأعراف: 188]؟
نقول أولا: إن ما يظهر الله تعالى عليه الرسل هو من الغيب الإضافي لا الحقيقي المطلق الذي لم يؤت أحدا من خلقه الاستعداد لعلمه، وثانيا: إن إظهاره تعالى إياهم على شيء خاص من هذا الغيب لا يجعل ذلك داخلا في علومهم الكسبية فإن الوحي ضرب من العلم الضروري يجده النبي في نفسه عند ما يظهره الله تعالى عليه فإذا حبس عنه لم يكن له قدرة ولا وسيلة كسبية إليه كما يعلم مما ورد في فترات الوحي وهو مقتضى الإجماع على أن النبوة غير مكتسبة. نعم قد كان يكون توجه قلب الرسول إلى الله تعالى عند بعض الحوادث مقدمة لنزول الوحي في الحكم الذي استشرف له وتوجه إلى الله تعالى ليبينه له كما يرشد إليه قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها} [البقرة: 143] الخ وكذلك رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم للملك على هيئته التي خلقه الله عليها مرتين، هي خصوصية لا يعد مثلها من علوم الرسل الكسبية. وأما رؤية الملك متمثلا بصورة بشر أو جسم آخر فهو سبب عام لرؤيته، ولكنه لا يتمثل إلا لأمر عظيم، أو آية لنبي أو صديق.
فعلم مما قررناه أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لم يعطوا علم الغيب بحيث يكون إدراكه من علومهم الكسبية، كما أنهم لم يعطوا قوة التصرف في خزائن ملك الله وهي ما لم يمكن البشر من أسبابه فيكون من أعمالهم الكسبية، ولا أعطاهم إياه أيضا على سبيل الخصوصية، كما أظهرهم على بعض الغيب الذي هو موضوع الرسالة. ونفي ادعاء الرسول لكل من الأمرين يتضمن التبرؤ من ادعاء الإلهية – كما قيل – أو ادعاء شيء من صفات الإله – وهو أولى ويستلزم الأول – لأن كلا منهما خاص بالإله الذي هو على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، وقدرته وعلمه صفتان ذاتيتان له، ويتضمن بيان جهل المشركين بحقيقة الإلهية وحقيقة الرسالة إذ كانوا يقترحون على الرسول من الأعمال، ما لا يقدر عليه إلا من له التصرف فيما وراء الأسباب، ومن الإخبار بما يكون في مستقبل الزمان، ما لا يعلمه إلا من كان علم الغيب صفة له كسائر الصفات، فقد سألوه عن وقت الساعة وعن وقت نزول العذاب الدنيوي بهم. وعن وقت نصر الله تعالى إياه عليهم، وغير ذلك من أمور الغيب.
وإذا كان الله تعالى لم يؤت الرسل ما لم يؤت غيرهم من أسباب التصرف في المخلوقات ومن علم الغيب، وكان من التصرف بالقدرة الذاتية وعلم الغيب خاصا به عز وجل يستحيل أن يشاركه غيره فيه – فمن أين جاءت دعوى التصرف في الكون وعلم الغيب لمن هم دون الرسل منزلة وكرامة عند الله تعالى من المشايخ المعروفين وغير المعروفين حتى صاروا يدعون من دون الله تعالى لما عز نيله بالأسباب والسنن الإلهية « والدعاء هو العبادة» كما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ وقد قال المفسرون إن نفي النبي صلى الله عليه وسلم لهذين عن نفسه هو عبارة عن نفي ادعاء الإلهية وبيان لكون ما اقترحوه عليه مما لا يقدر عليه غير الله تعالى، فضلال المشركين في فهم الرسالة وجعلهم إياها شعبة من الربوبية لا يزال منتشرا في أذهان الناس، حتى بعض المؤمنين باسم القرآن، المتبركين بجلد مصحفه وورقه وبالتغني به في المآثم وغيرها، الجاهلين بما أنزل لبيانه من توحيد الله تعالى وشؤون ربوبيته وألوهيته ومن حقيقة الرسالة ووظيفة الرسل ومن معنى الجزاء على العقائد والأعمال – دع ما دون هذه الأصول الثلاثة من أمور الدين – إذ نرى بعض هؤلاء المعدودين في عرفهم وعرف الناس من أتباع القرآن يدعون التصرف في خزائن الله وعلم الغيب لمن دون الرسل كما قلنا آنفا.
ومن مباحث البلاغة في قوله: {ولا أقول لكم إني ملك} أنه أعاد فيه « لا أقول لكم» ولم يعدها في نفي علم الغيب، ونكتة ذلك أن نفي علم الغيب ونفي التصرف في خزائن الله يؤلفان التبرؤ من دعوى واحدة هي دعوى الصفات الخاصة بالله تعالى. وأما نفي ادعاء الملكية فهو شيء آخر فأعيد العامل لإفادة ذلك، كأنه قال إنني لا أدعي صفات الإله حتى تطلبوا مني ما لا يقدر عليه أو ما لا يعلمه إلا الله، ولا أدعي أني ملك وهو دون ما قبله حتى تطلبوا مني ما جعله الله في قدرة الملائكة ولم يجعله من مقدور البشر، بل ادعيت أني عبد الله ورسوله، وإنما وظيفة العبد الطاعة ووظيفة الرسول التبليغ، وعبر عن هذا بقوله: {إن أتبع إلا ما يوحى إلي} أي ما أفعل من حيث أنا عبد رسول إلا إتباع ما يوحيه إلي من أرسلني من تبليغ دينه بالتبشير والإنذار والعمل به كما بينت لكم آنفا – أي في الآيتين اللتين قبل هذه الآية.
ثم قال عز وجل: {قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون (50)} أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين هل يستوي أعمى البصيرة الضال عن الصراط المستقيم الذي دعوتكم إليه فلا يميز بين التوحيد والشرك، ولا بين صفات الله وصفات الخلق، المقلد في ضلاله وجهالته، لمن لا علم عنده ولا عقل من آبائه وأجداده، وذو البصيرة المهتدي إليه، المستقيم في سيره عليه، على بينة وبرهان، يجعل ما يرى القلب أوضح مما ترى العينان؟ الاستفهام إنكاري أي لا يستويان كما أن أعمى العينين وبصيرهما لا يستويان، بل الفرق بين الأولين أقوى وأظهر، فكأين من أعمى العينين بصير القلب كان من أعلم العلماء وأهدى الفضلاء، وكأين من أعمى العينين بصير القلب هو أضل من الأنعام، ولذلك قال مقرعا لهم: (أفلا تتفكرون) أي في ذلك فتميزوا بين ضلالة الشرك وهداية الإسلام، وتفرقوا بين صفات الرب الإله وصفات الإنسان، وتعقلوا حجة الرسالة مما في هذا القرآن، من أنواع الهداية والعرفان، وأخبار الغيب التي لم يؤتها أنس ولا جان، على ما فيه من بلاغة البيان، والأسلوب البديع الذي لم تعهدوه قبل الآن، فمتى كان في قدرة مثلي شيء من ذلك، ولقد لبثت فيكم عمرا من قبله يزيد على الأربعين سنة، عاطلا من هذه البلاغة وهذه المعرفة.
هذه الآية حجة من حجج الله تعالى للمستقلين في هداية الدين، على المقلدين فيه لآبائهم ومشايخهم الجاهلين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"هذه الموجة بقية في مواجهة المشركين بحقيقة الرسالة، وطبيعة الرسول؛ بمناسبة طلبهم للخوارق -التي ذكرنا نماذج منها في الفقرة السابقة في هذا السياق- وبقية في تصحيح التصورات الجاهلية -والبشرية بصفة عامة- عن الرسالات والرسل؛ بعدما عبثت بهذه التصورات جاهليات العرب وغيرهم من الأمم حولهم؛ فابتعدت بها عن حقيقة الرسالة وحقيقة النبوة، وحقيقة الوحي، وحقيقة الرسول؛ ودخلت بها في خرافات وأساطير وأوهام وأضاليل؛ حتى اختلطت النبوة بالسحر والكهانة، واختلط الوحي بالجن والجنون أيضا! وأصبح يطلب من النبي أن يتنبأ بالغيب، وأن يأتي بالخوارق؛ وأن يصنع ما عهد الناس أن يصنعه صاحب الجن والساحر!.. ثم جاءت العقيدة الإسلامية لتقذف بالحق على الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق، ولترد إلى التصور الإيماني وضوحه وبساطته وصدقه وواقعيته، ولتخلص صورة النبوة وصورة النبي من تلك الخرافات والأساطير والأوهام والأضاليل، التي شاعت في الجاهليات كلها. وكان أقربها إلى مشركي العرب جاهليات أهل الكتاب من اليهود والنصارى على اختلاف الملل والنحل بينهم، وكلها تشترك في تشويه صورة النبوة وصورة النبي أقبح تشويه! وبعد بيان حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول، وتقديمها للناس مبرأة من كل ما علق بصورة النبوة وصورة النبي من أوهام وأضاليل. يقدم القرآن عقيدته للناس مجردة من كل إغراء خارج عن طبيعتها، ومن كل زينة زائدة عن حقيقتها.. فالرسول الذي يقدمها للناس بشر، لا يملك خزائن الله، ولا يعلم الغيب، ولا يقول لهم:إني ملك.. وهو لا يتلقى إلا من ربه، ولا يتبع إلا ما يوحى إليه منه. والذين يقبلون دعوته هم أكرم البشر عند الله، وعليه أن يلزمهم، وأن يهش لهم، وأن يبلغهم ما كتبه الله لهم على نفسه من الرحمة والمغفرة. كما أن عليه إنذار الذين تتحرك ضمائرهم من خشية الآخرة؛ ليصلوا إلى مرتبة التقوى، وفي هذا وذلك تنحصر وظيفته، كما أنه في" "البشرية" "وفي ""تلقي الوحي"" تنحصر حقيقته. فتصح في التصورات حقيقته ووظيفته جميعا.. ثم إنه بهذا التصحيح، وبهذا الإنذار، تستبين سبيل المجرمين، عند مفرق الطريق، ويتضح الحق والباطل، وينكشف الغموض والوهم حول طبيعة الرسول وحول حقيقة الرسالة، كما ينكشف الغموض حول حقيقة الهدى وحقيقة الضلال، وتتم المفاصلة بين المؤمنين وغير المؤمنين في نور وفي يقين. وفي ثنايا الإفصاح عن هذه الحقائق يعرض السياق جوانب من حقيقة الألوهية، وعلاقة الرسول بها، وعلاقة الناس جميعا -الطائعين منهم والعصاة- ويتحدث عن طبيعة الهدى وطبيعة الضلال عن هذه الحقيقة. فالهدى إليها بصر والضلال عنها عمى. والله كتب على نفسه الرحمة متمثلة في التوبة على عباده والمغفرة لما يرتكبونه من المعاصي في جهالة متى تأبوا منها وأصلحوا بعدها. وهو يريد أن تستبين سبيل المجرمين، فيؤمن من يؤمن عن بينة، ويضل من يضل عن بينة، ويتخذ الناس مواقفهم في وضوح لا تغشيه الأوهام والظنون.."
إنه صلى الله عليه وسلم يؤمر من ربه أن يقدم لهم نفسه بشرا مجردا من كل الأوهام التي سادت الجاهليات عن طبيعة النبي والنبوة. وأن يقدم لهم كذلك هذه العقيدة بذاتها مجردة من كل إغراء.. لا ثراء. ولا ادعاء.. إنها عقيدة يحملها رسول، لا يملك إلا هداية الله، تنير له الطريق! ولا يتبع إلا وحي الله يعلمه ما لم يكن يعلم.. إنه لا يقعد على خزائن الله، ليغدق منها على من يتبعه، ولا يملك مفاتح الغيب ليدل أتباعه على ما هو كائن؛ ولا هو ملك كما يطلبون أن ينزل الله ملكا.. إنما هو بشر رسول؛ وإنما هي هذه العقيدة وحدها، في صورتها الناصعة الواضحة البسيطة... (قل: هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون؟).. ثم.. إن اتباع الوحي وحده هداية وبصر، والمتروك بغير هذا الهادي متروك أعمى.. هذا ما تقرره هذه الآية في وضوح وصرامة.. فما شأن العقل البشري في هذا المجال؟ سؤال جوابه في التصور الإسلامي واضح بسيط.. إن هذا العقل الذي وهبه الله للإنسان قادر على تلقي ذلك الوحي، وإدراك مدلولاته.. وهذه وظيفته.. ثم هذه هي فرصته في النور والهداية؛ وفي الانضباط بهذا الضابط الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فأما حين يستقل هذا العقل البشري بنفسه بعيدا عن الوحي، فإنه يتعرض حينئذ للضلال والانحراف، وسوء الرؤية، ونقص الرؤية، وسوء التقدير، وسوء التدبير... والعقل البشري حين يتحرك في إطار الوحي لا يتحرك في مجال ضيق، إنما يتحرك في مجال واسع جدا.. يتحرك في مجال هو هذا الوجود كله، الذي يحتوي عالم الشهادة وعالم الغيب أيضا؛ كما يحتوي أغوار النفس ومجالي الأحداث، ومجالات الحياة جميعا.. فالوحي لا يكف العقل عن شيء إلا عن انحراف المنهج، وسوء الرؤية والتواء الأهواء والشهوات! وبعد ذلك يدفعه إلى الحركة والنشاط دفعا. فهذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان.. العقل.. إنما وهبها له لتعمل وتنشط في حراسة الوحي والهدى الرباني.. فلا تضل إذن ولا تطغى..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لمّا تقضّت المجادلة مع المشركين في إبطال شركهم ودحْض تعاليل إنكارهم نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم بأنَّهم لا يؤمنون بنبوءته إلاّ إذا جاء بآية على وفق هواهم، وأبطلت شبهتهم بقوله: {وما نرسل المرسلين إلاّ مبشِّرين ومنذرين} [الأنعام: 48] وكان محمد صلى الله عليه وسلم ممَّن شمله لفظ المرسلين، نقل الكلام إلى إبطال معاذيرهم فأعلمهم الله حقيقة الرسالة واقترانها بالآيات فبيّن لهم أنّ الرسول هو الذي يتحدّى الأمّة لأنّه خليفة عن الله في تبليغ مراده من خلقه، وليست الأمّة هي التي تتحدّى الرسول، فآية صدق الرسول تجيء على وفق دعواه الرسالة، فلو أدّعى أنّه مَلك أو أنّه بُعث لإنقاذ الناس من أرزاء الدنيا ولإدناء خيراتها إليهم لكان من عذرهم أن يسألوه آيات تؤيِّد ذلك، فأمّا والرسول مبعوث للهدى فآيته أن يكون ما جاء به هو الهدى وأن تكون معجزته هو ما قارن دعوته ممّا يعجز البشر عن الإتيان بمثله في زمنهم.
فقوله {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله} استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من غرض إلى غرض. وافتتاح الكلام بالأمر بالقول للاهتمام بإبلاغه، كما تقدّم عند قوله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة} [الأنعام: 40].
وقد تكرّر الأمر بالقول من هنا إلى قوله {لكلّ نبأ مستقرّ} [الأنعام: 67] اثنتي عشرة مرة.
والاقتصار على نفي ادّعاء هذه الثلاثة المذكورة في الآية ناظر إلى ما تقدّم ذكره من الآيات التي سألوها من قوله تعالى: {وقالوا لولا أنز ل عليه ملَك} [الأنعام: 8] وقوله: {ولو نَزّلنا عليك كتاباً في قرطاس} [الأنعام: 7] وقوله: {فإن استطعتَ أن تَبْتَغِي نَفَقاً في الأرض} [الأنعام: 35] الآية.
وافتتح الكلام بنفي القول ليدلّ على أنّ هذا القول لم يقترن بدعوى الرسالة فلا وجه لاقتراح تلك الأمور المنفي قولها على الرسول لأنّ المعجزة من شأنها أن تجيء على وفق دعوى الرسالة.
واللام في {لكم} لام التبليغ، وهي مفيدة تقوية فعل القول عندما لا تكون حاجة لذكر المواجَه بالقول كما هنا لظهور أنّ المواجَه بالقول هم المكذّبون، ولذلك ورد قوله تعالى: {ولا أقول إنِّي ملَك} [هود: 31] مجرّداً عن لام التبليغ. فإذا كان الغرض ذكر المواجَه بالقول فاللام حينئذٍ تسمَّى لام تعدَّية فعل القول فالذي اقتضى اجتلابَ هذه اللام هنا هو هذا القول بحيث لو قاله قائل لكان جديراً بلام التبليغ.
والخزائن جمع خِزانة بكسر الخاء وهي البيت أو الصندوق الذي يحتوي ما تتوق إليه النفوس وما ينفع عند الشدّة والحاجة. والمعنى أنّى ليس لي تصرّف مع الله ولا أدّعي أني خازن معلومات الله وأرزاقه.
و {خزائن الله} مستعارة لتعلّق قدرة الله بالإنعام وإعطاء الخيرات النافعة للناس في الدنيا.
شبّهت تلك التعلّقات الصّلُوحية والتنجيزية في حَجْبها عن عيون الناس وتناولهم مع نفعها إيّاهم، بخزائن أهل اليسار والثروة التي تجمع الأموال والأحبية والخلع والطعام، كما أطلق عليها ذلك في قوله تعالى: {ولله خزائن السماوات والأرض} [المنافقون: 7]، أي ما هو مودع في العوالم العليا والسفلى ممّا ينفع الناس، وكذلك قوله: {وإنْ من شيء إلاّ عندنا خَزائنه} [الحجر: 21].
وتقديم المسند وهو قوله {عندي} للاهتمام به لما فيه من الغرابة والبشارة للمخبرين به لو كان يقوله.
وقوله: {ولا أعلم الغيب} عطف على {عندي خزائن الله} فهو في حيَّز القول المنفي. وأعيد حرف النفي على طريقة عطف المنفيات بعضها على بعض فإنّ الغالب أن يعاد معها حرف النفي للتنصيص على أنّ تلك المتعاطفات جميعها مقصودة بالنفي بآحادها لئلاّ يتوهّم أنّ المنفي مجموع الأمرين. والمعنى لا أقول أعلم الغيب، أي علماً مستمراً ملازماً لصفة الرسالة. فأمّا إخباره عن بعض المغيّبات فذلك عند إرادة الله إطلاعه عليه بوحي خاصّ، كما قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول} [الجن: 26، 27] وهو داخل تحت قوله {إنْ أتّبع إلاّ ما يوحي إلي}.
وعطف: {ولا أقول لكم إنِّي ملك} على {لا أقول لكم عندي خزائن الله} بإظهار فعل القول فيه، خلافاً لقوله: {ولا أعلم الغيب} لعلَّه لدفع ثقل التقاء حرفين: (لا) وحرف (إنّ) الذي اقتضاه مقام التأكيد، لأنّ ادّعاء مثله من شأنه أن يؤكّد، أي لم أدّع أنِّي من الملائكة فتقولوا: {لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام: 8]، فنفي كونه ملكاً جواب عن مقترحهم أن ينزَل عليهم ملك أو أن يكون معه ملك نذيراً. والمقصود نفي أن يكون الرسول من جنس الملائكة حتى يكون مقارناً لمَلك آخر مقارنة تلازم كشأن أفراد الجنس الواحد. وكانوا يتوهَّمون أنّ الرسالة تقتضي أن يكون الرسول من غير جنس البشر فلذلك قالوا: {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7]. فالمعنى نفي ماهية المَلَكية عنه لأنّ لجنس الملك خصائص أخرى مغايرة لخصائص البشر. وهذا كما يقول القائل لمن يكلِّفه عنتاً: إنِّي لست من حديد.
ومن تلفيق الاستدلال أن يستدلّ الجُبائي بهذه الآية على تأييد قول أصحابه المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء مع بُعد ذلك عن مهيع الآية. وقد تابعه الزمخشري، وكذلك دأبه كثيراً ما يُرْغِم معاني القرآن على مسايرة مذهبه فتنزو عصبيته وتَنْزوي عبقريته، وهذه مسألة سنتكلَّم عليها في مظنَّتها.
وجملة {إنْ أتَّبع إلاّ ما يُوحي إليّ} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّه لمَّا نفي أن يقول هذه المقالات كان المقامُ مثيراً سؤال سائل يقول: فماذا تدّعي بالرسالة وما هو حاصلها لأنّ الجهلة يتوهَّمون أنّ معنى النبوءة هو تلك الأشياء المتبرّأ منها في قوله: {قل لا أقول لكم عندي خزائن} الخ، فيجاب بقوله: {إن أتَّبع إلاّ ما يوحي إليّ}، أي ليست الرسالة إلاّ التبليغ عن الله تعالى بواسطة الوحي.
فمعنى {أتَّبع} مجاز مرسل في الاقتصار على الشيء وملازمته دون غيره. لأنّ ذلك من لوازم معنى الاتِّباع الحقيقي وهو المشي خلف المتّبَع بفتح الموحّدة، أي لا أحيد عن تبليغ ما يوحى إليّ إلى إجابة المقترحات من إظهار الخوارق أو لإضافة الأرزاق أوْ إخبار بالغيب، فالتَّلقِّي والتبليغ هو معنى الاتِّباع، وهو كنه الرسالة عن الله تعالى. فالقصر المستفاد هنا إضافي، أي دون الاشتغال بإظهار ما تقترحونه من الخوارق للعادة. والغرض من القصر قلب اعتقادهم أنّ الرسول لا يكون رسولاً حتَّى يأتيهم بالعجائب المسؤولة. وقد حصل بذلك بيان حقيقة الرسالة تلك الحقيقة التي ضلّ عن إدراكها المعاندون. وهذا معنى قوله تعالى: {وما نرسل المرسلين إلاّ مبشِّرين ومنذرين} [الأنعام: 48].
وإذ قد كان القصر إضافياً كان لا محالة ناظراً إلى قلب اعتقادهم بالنسبة لمطالبهم باتِّباع مقترحاتهم، أي لا أتَّبع في التبليغ إليكم إلاّ ما يوحى إليّ. فليس في هذا الكلام ما يقتضي قصر تصرّف الرسول عليه الصلاة والسلام على العمل بالوحي حتَّى يحتجّ بها من ينفي من علمائنا جواز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم في أمور الدين لأنّ تلك مسألة مستقلّة لها أدلَّة للجانبين، ولا مساس لها بهذا القصر. ومن توهّمه فقد أساء التأويل.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ}.
هذا ختام للمجادلة معهم وتذييل للكلام المفتتح بقوله {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله}، أي قل لهم هذا التذييل عقب ذلك الاستدلال.
وشبّهت حالة من لا يفقه الأدلّة ولا يفكِّك بين المعاني المتشابهة بحالة الأعمى الذي لا يعرف أين يقصد ولا أين يضع قدمه. وشبِّهت حالة من يُميِّز الحقائق ولا يلتبس عليه بعضها ببعض بحالة القويّ البصر حيث لا تختلط عليه الأشباح. وهذا تمثيل لحال المشركين في فساد الوضع لأدلَّتهم وعُقم أقيستهم، ولحال المؤمنين الذين اهتدوا ووضعوا الأشياء مواضعها، أو تمثيل لحال المشركين التي هم متلبّسون بها والحال المطلوبة منهم التي نفروا منها ليعلموا أيّ الحالين أولى بالتخلّق.
وقوله {أفلا تتفكّرون} استفهام إنكار. وهو معطوف بالفاء على الاستفهام الأول، لأنّه مترتِّب عليه لأنّ عدم استواء الأعمى والبصير بديهي لا يسعهم إلاّ الاعتراف بعدم استوائهما فلا جرم أن يتفرّع عليه إنكار عدم تفكّرهم في أنَّهم بأيّهما أشبه. والكلام على الأمر بالقول مثل ما تقدّم عند قوله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة} [الأنعام: 40].
والتفكّر: جولان العقل في طريق استفادة علم صحيح.
وكلمة (خزائن) هذه مفردها (خزانة) وهي الشيء الذي يكنز فيه كل نفيس ليخرج منه وقت الحاجة. لا تقل: خزانة إلا لشيء جعلته ظرفا لشيء نفيس تخاف عليه من أن تخرجه في غير أوان وزمان إخراجه. وخزائن الأرض كلها يملكها الله... ومن رحمة الحق بالخلق أنه لم يملك خزائن الأرض أو السماوات لأحد من البشر حتى لا يستعلى إنسان على آخر. ولم يعط الحق حتى للرسل أي حق للتصرف في هذه الخزائن؛ لأن الرسل بشر، وقد احتفظ الحق لنفسه بخزائن الأرض والسماوات ليطمئننا على هذه الخزائن. ولذلك يقول الحق سبحانه: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا (100)} (سورة الإسراء). الحق سبحانه يعلم أن الإنسان مطبوع على الحرص الشديد أو البخل، وهو سبحانه الغني الكريم؛ لذلك ينزل ما يشاء من خزائنه لعباده حتى ينتفعوا. لم يدع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الخزائن لنفسه، فكيف يطالبه المشركون بما في خزائن الله، وهو صلى الله عليه وآله وسلم يوضح ذلك ويوضح أيضا أنه لا يعلم الغيب: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب} (من الآية 50 سورة الأنعام)... ولا يختلف أحد في أن العمى مهلك وضار ومتعب، والإبصار مريح. وكأن الحق يقول للخلق: إياكم أن تظنوا أن حياتكم كلها تعتمد على المحيط المحس، لا، إن هناك قيما إن لم يعرفها الإنسان فهو يتعثر ويضطرب ويتخبط. إذن فمنهج السماء قد جاء ليهدي النفس البشرية إلى القيم، كما يهدي النور الحسي الإنسان إلى المحسات. فإذا كان البصر هو وقاية للإنسان لتفادي العقبات، فكذلك المنهج هو الذي يبين للإنسان ألا يصطدم بالعقبات في الأمور المعنوية. والإنسان يحيا بقيمه، بدليل أن الأعمى قد يجد من يقوده من المبصرين، ولكنه قد لا يجد هدايته في هداية مهتد. إذن فالإنسان قد يستغني عن البصر، ولكنه لا غنى له عن الهدى؛ لأن الضلال سيصيبه، والضلال في القيم أبلغ وأشد قسوة من الضلال في الأمور المحسة. {قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} هناك تفكر، وتذكر، وتدبر. التفكر هو شغل العقل ابتداء بأمر ظاهر، يريد أن يستنبط منه شيئا. وعندما يقول إنسان لآخر: فكر في هذا الأمر، أي أدر عقلك في كل ما يتعرض لهذا الأمر. والذي يطلب من آخر التفكير في هذا الأمر كأنه واثق من أن الذي يتفكر في أمر لن يصل إلا إلى الرأي الذي قاله من عرض عليه التفكر. وأما التذكر فهو أن يصل الإنسان إلى حكم انتهى إليه بالتفكر ثم نسيه، ويأتي من يلفت الذهن إلى ذلك الحكم الذي انتهى منه فكريا. إذن فالفكر يأتي بحكم أولي ناضج. والتذكر يأتي بحكم كان معلوما للإنسان ولكنه غفل عنه. أما التدبر فهو ألا يكتفي الإنسان بالنظر إلى واجهة الأمور ولكن إلى ما وراء ذلك أيضا؛ لأن كل شيء له واجهة، وقد تخفي الواجهة ما خلفها، لذلك يطلب الحق من الإنسان أن ينظر إلى أعقاب الأشياء وأقفائها، أي يدير الأمر على كل جهاته ولا يكتفي بالنظر إلى واجهاتها.