197- والحج يقع في أشهر معلومة لكم ، إذ كان أمره معروفاً عندكم من عهد إبراهيم - عليه السلام - وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة ، فمن فرض الحج على نفسه في هذه الأشهر ودخل فيه فليراع آدابه ، ومن آداب الحج أن يتنزه المحرم عن مباشرة النساء ، وعن المعاصي من السباب وغيره ، وعن الجدل والمراء مع غيره من الحجيج ، وعن كل ما يجر إلى الشحناء والخصام حتى يخرج المحرم مهذب النفس ، وليجتهد في فعل الخير ، وطلب الأجر من الله بالعمل الصالح فإن الله عليم بذلك ومجاز عليه ، وتزودوا لآخرتكم بالتقوى والائتمار بأوامر الله واجتناب نواهيه ، فإن ذلك خير الزاد ، واستشعروا خشية الله فيما تأتون وما تذرون كما هو مقتضى العقل والحكمة ، فلا تشوبوا أفعالكم بدواعي الهوى والغرض الدنيوي .
{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }
يخبر تعالى أن { الْحَجَّ } واقع في { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } عند المخاطبين ، مشهورات ، بحيث لا تحتاج إلى تخصيص ، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره ، وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس .
وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم ، التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم .
والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا .
{ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي : أحرم به ، لأن الشروع فيه يصيره فرضا ، ولو كان نفلا .
واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه ، على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره ، قلت لو قيل : إن فيها دلالة لقول الجمهور ، بصحة الإحرام [ بالحج ] قبل أشهره لكان قريبا ، فإن قوله : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها ، وإلا لم يقيده .
وقوله : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } أي : يجب أن تعظموا الإحرام بالحج ، وخصوصا الواقع في أشهره ، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه ، من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية ، خصوصا عند النساء بحضرتهن .
والفسوق وهو : جميع المعاصي ، ومنها محظورات الإحرام .
والجدال وهو : المماراة والمنازعة والمخاصمة ، لكونها تثير الشر ، وتوقع العداوة .
والمقصود من الحج ، الذل والانكسار لله ، والتقرب إليه بما أمكن من القربات ، والتنزه عن مقارفة السيئات ، فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور ، ليس له جزاء إلا الجنة ، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان ، فإنها{[132]} يتغلظ المنع عنها في الحج .
واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } أتى ب " من " لتنصيص على العموم ، فكل خير وقربة وعبادة ، داخل في ذلك ، أي : فإن الله به عليم ، وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير ، وخصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة ، فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها ، من صلاة ، وصيام ، وصدقة ، وطواف ، وإحسان قولي وفعلي .
ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك ، فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين ، والكف عن أموالهم ، سؤالا واستشرافا ، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين ، وزيادة قربة لرب العالمين ، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع .
وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه ، في دنياه ، وأخراه ، فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار ، وهو الموصل لأكمل لذة ، وأجل نعيم دائم أبدا ، ومن ترك هذا الزاد ، فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر ، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين . فهذا مدح للتقوى .
ثم أمر بها أولي الألباب فقال : { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } أي : يا أهل العقول الرزينة ، اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول ، وتركها دليل على الجهل ، وفساد الرأي .
ثم بين - سبحانه - وقت الحج وما يجب على المسلم عند أدائه لهذه الفريضة من آداب فقال - تعالى - :
{ الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ . . . }
قوله : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } .
أي : وقت الحج أشهر معلومات أو أشهر الحج أشهر معلومات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .
وجعلت النسبة إلى الحج نفسه لا إلى وقته ، للإِشعار بأن هذه الأشهر لكونها تؤدي فيها هذه الفريضة قد اكتسبت تقديساً وبركة منها ، حتى لكأن هذه الأشهر هي الفريضة نفسها قال القرطبي ما ملخصه : وأشهر الحج هي شوال وذي القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة . وقيل هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله وفائدة الفرق تعلق الدم ؛ فمن قال : إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم يوجب دماً على من أخر طواف الإِفاضة إلى آخر ذي الحجة لأنه وقع في أشهر الحج ، ومن قال بأن وقت الحج ينقضي بالعشرة الأولى من ذي الحجة يوجب الدم عليه لتأخيره عن وقته . ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث ، لأن بعض الشهر ينزل منزلة كله ، كما يقال : رأيتك سنة كذا ولعله إنما رآه في ساعة منها " .
وعبر - سبحانه - عن هذه الأشهر بأنها معلومات ، لأن العرب كانوا يعرفون أشهر الحج من كل عام منذ عهد إبراهيم - عليه السلام - وقد جاء الإِسلام مقرراً لما عرفوه . أو المراد بكونها معلومات أنها مؤقتة بأوقات معينة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها عنها ، وهو يتضمن بطلان النسئ الذي كان يفعله الجاهليون تبعاً لأهوائهم .
وقوله : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } بيان لما يحب أن يتحلى به المسلم من فضائل عند أدائه لهذه الفريضة .
قال الإِمام الرازي : ومعنى { فَرَضَ } في اللغة ألزم وأوجب . يقال : فرضت عليك كذا ، أي أوجبته . وأصل معنى الفرض في اللغة الحز الذي يقع فيه الوتر ، ومنه فرض الصلاة وغيرها لأنها لازمة للعبد كلزوزم الحز للقدح ففرض هنا بمعنى أوجب وألزم . . . " .
والرفث في الأصل : الفحش من القول . والمراد به هنا الجماع . أو الكلام المتضمن لما يستقبح ذكره من الجماع ودواعيه .
قال القرطبي : وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج وعليه حج قابل والهدي .
والفسوق : الخروج عن طاعة الله بارتكاب المعاصي ، ومن ذلك السباب وفعل محظورات الإِحرام ، وغير ذلك مما نهى الله عنه ،
والجدال على وزن فعال من المجادلة وهي مشقة من الجدل وهو الفتل ومنه : زمام مجدول .
وقيل : هي مشقة من الجدالة التي هي الأرض . فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه ، فيكون كمن ضرب به الجدالة .
والمراد النهي عن الممارة والمنازعة التي تؤدي إلى البغضاء وتغير القلوب .
والمعنى : أوقات الحج أشهر معلومات ، فمن نوى وأوجب على نفسه فيهن الحج وأحرم به فعليه أن يجتنب الجماع بالنساء ودواعيه ؛ وأن يبتعد عن كل قول أو فعل يكون خارجاً عن آداب الإِسلام ، ومؤدياً إلى التنازع بيين الرفقاء والإِخوان ، فإن الجميع قد اجتمعوا على مائدة الرحمن ، فعليهم أن يجتمعوا على طاعته ، وأن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان .
روى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " .
قال الآلوسي : وقال - سبحانه - { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } بالإِظهار ولم يقل فيه مع أن المقام يقتضي الإِضمار ، لإِظهار كمال الاعتناء بشأنه ، وللإِشعار بعلة الحكم ، فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها إلى الله - تعالى - من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك . وإيثار النفي للمبالغة في النهي ، والدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون ، فإن ما كان منكراً مستقبحاً في نفسه منهياً عنه مطلقاصار في حق المحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر وأقبح .
والضمير في قوله : { فِيهِنَّ } للأشهر ، لأنه جمع لغير العاقل فيجرى على التأنيث .
وجملة { فَلاَ رَفَثَ . . } إلخ في محل جزم جواب من الشرطية والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى { فَلاَ رَفَثَ } من ضمير يعود على " من " ، لأن التقدير فلا يرفث . ويجوز أن تكون جملة { فَلاَ رَفَثَ . . } وما عطف عليها في محل رفع خبر لمن على أنها موصولة .
وقد أخذ الشافعية من هذه الآية أنه لا يجوز الإِحرام بالحج في غير أشهر الحج ، لأن الإِحرام به في غير أشهره يكون شروعاً في العبادة في غير وقتها فلا تصح .
ويرى الأحناف والحنابلة ، أنه يجوز الإِحرام قبل أشهره ولكنه مع الكراهة : والإِمام مالك لا يرى كراهة في ذلك .
ويبدو أن رأي الشافعية هنا أرجح ، لأن قوله - تعالى - : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج . . . } يشهد لهم ، فقد جعل - سبحانه - هذه الأشهر وعاء لهذه الفريضة وظرفاً لها .
أي : اتركوا الأقوال والأفعال القبيحة ، وسارعوا إلى الأعمال الصالحة خصوصاً في تلك الأزمنة والأمكنة المفضلة ، والله - تعالى - لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، وهو - سبحانه - سيجازيكم على فعل الخير بما تستقحون من جزاء .
ثم قال - تعالى : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } .
قال الإِمام الرازي : في هذه الجملة الكريمة قولان :
أحدهما : أن المراد وتزودوا من التقوى - أي الأعمال الصالحة - والدليل عليه قوله بعد ذلك { فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } وتحقيق الكلام فيه أن الإِنسان له سفران : سفر في الدنيا وسفر من الدنيا لا بد له أيضاً من زاد وهو معرفة الله ومحبته والإِعراض عما سواه ، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لأن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم .
. قال الأعشى مقرراً هذا المعنى :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى . . . ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله . . . وأنك لم ترصد بما كان أرصدا
والقول الثاني : أن هذه الآية نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون إنا متوكلون ، ثم كانوا يسألون الناس ، وربما ظلموا الناس وغصبوهم فأمرهم الله - تعالى - أن يتزودوا بالمال والطعام الذي يغنيهم عن سؤال الناس .
والذي نراه أن الجملة الكريمة تسع القولين . فهي تدعو الناس إلى أن يتزودوا بالزاد المعنوي النفسي الذي يسعدهم ألا وهو تقوى الله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والاكثار من العمل الصالح وفي الوقت نفسه هي تأمرهم - أيضاً - بأن يتزودوا بالزاد المادي الحقيقي الذي يغنيهم عن سؤال الناس ، ويصون لهم ماء وجوههم .
وبذلك نكون قد استعملنا اللفظ في حقيقته ومجازه ، وهو استعمال شائع مستساغ عند كثير من العلماء .
ثم ختم - سبحانه - الآية بتأكيد أمر التقوى ووجوب الإِخلاص فقال : { واتقون ياأولي الألباب } والألباب : جمع لب وهو العقل واللب من كل شيء : هو الخالص منه . وسمى به العقل ، لأنه أشرف ما في الإِنسان .
أي : أخلصوا لي يا أصحاب العقول السليمة ، والمدارك الواعية ، لأنكم لما كنتم كذلك كان وجوبها عليكم أثبت ، واعراضكم عنها أقبح . ورحم الله القائل :
ولم أر في عيوب الناس عيباً . . . كنقص القادرين على التمام
والجملة الكريمة ليست تكرارا لسابقتها ، لأن الأولى حث على التقوى وهذه حث على الإِخلاص فيها .
{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }( 197 )
وقوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } ، في الكلام حذف تقديره : أشهر الحج أشهر ، أو : وقت الحج أشهر ، أو : وقت عمل الحج أشهر( {[1850]} ) ، والغرض إنما هو أن يكون الخبر عن الابتداء هو الابتداء نفسه( {[1851]} ) ، والحج ليس بالأشهر فاحتيج إلى هذه التقديرات ، ومن قدر الكلام : الحج في أشهر ، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر ، ولم يقرأ بنصبها أحد( {[1852]} ) .
وقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري : أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة كله .
وقال ابن عباس والشعبي والسدي وإبراهيم : هي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة ، والقولان لمالك رحمه الله ، حكى الأخير ابن حبيب ، وجمع على هذا القول الأخير الاثنان وبعض الثالث( {[1853]} ) كما فعلوا في جمع عشر فقالوا عشرون لعشرين ويومين من الثالث( {[1854]} ) ، وكما قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
ثلاثون شهراً في ثلاثةِ أَحْوَال( {[1855]} ) . . . فمن قال إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم ير دماً فيما يقع من الأعمال بعد يوم النحر لأنها في أشهر الحج ، وعلى القول الآخر ينقضي الحج بيوم النحر ويلزم الدم فيما عمل بعد ذلك( {[1856]} ) .
وقوله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج } أي من ألزم نفسه( {[1857]} ) ، وأصل الفرض الحز الذي يكون في السهام والقسي وغيرها ، ومنه فرضة النهر والجبل ، فكأن من التزم شيئاً وأثبته على نفسه قد فرضه ، وفرض الحج هو بالنية والدخول في الإحرام ، والتلبية تبع لذلك ، و { من } رفع بالابتداء ، ومعناها الشرط ، والخبر قوله { فرض } لأن { من } ليست بموصولة فكأنه قال فرجل فرض ، وقوله { فلا رفث } يحتمل أن يكون الخبر ، وتكون { فرض } صفة( {[1858]} ) .
وقوله تعالى : { فيهن } ولم يجيء الكلام فرض فيها : فقال قوم : هما سواء في الاستعمال .
وقال أبو عثمان المازني( {[1859]} ) : «الجميع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة ، والقليل ليس كذلك ، تقول الأجذاع انكسرن والجذوع انكسرت »( {[1860]} ) ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { إن عدة الشهور }( {[1861]} ) [ التوبة : 36 ] ، ثم قال : { منها } ، وقرأ نافع «فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ » بنصب الجميع ، وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالَ » بالرفع في الاثنين ونصب الجدال ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالرفع في الثلاثة ، ورويت عن عاصم في بعض الطرق( {[1862]} ) ، و { لا } بمعنى ليس في قراءة الرفع( {[1863]} ) وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو( {[1864]} ) ، و { في الحج } خبر { لا جدال } وحذف الخبر هنا هو مذهب أبي علي ، وقد خولف في ذلك ، بل { في الحج } هو خبر الكل ، إذ هو في موضع رفع في الوجهين( {[1865]} ) ، لأن { لا } إنما تعمل على بابها فيما يليها وخبرها مرفوع باق على حاله من خبر الابتداء( {[1866]} ) ، وظن أبو علي أنها بمنزلة ليس في نصب الخبر ، وليس كذلك ، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر ، و { في الحج } هو الخبر في قراءة كلها بالرفع وفي قراءتها بالنصب( {[1867]} ) ، والتحرير أن { في الحج } في موضع نصب بالخبر المقدر كأنك قلت موجود في الحج ، ولا فرق بين الآية وبين قولك زيد في الدار .
وقال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة ومالك ومجاهد وغيرهم : الرفث الجماع .
وقال عبد الله بن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم : الرفث الإعراب والتعريب( {[1868]} ) ، وهو الإفحاش بأمر الجماع عند النساء خاصة ، وهذا قول ابن عباس أيضاً ، وأنشد وهو محرم :
وَهُنَّ يَمْشينَ بِنَا هَمِيساً . . . إنْ تَصْدُقِ الطِّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا
فقيل له : ترفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء( {[1869]} ) وقال قوم : الرفث الإفحاش بذكر النساء كان ذلك بحضرتهن أم لا ، وقد قال ابن عمر للحادي : «لا تذكر النساء » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يحتمل أن تحضر امرأة فلذلك نهاه ، وإنما يقوي القول من جهة ما يلزم من توقير الحج .
وقال أبو عبيدة : «الرفث اللغا من الكلام » ، وأنشد :
وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظُمِ . . . عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ( {[1870]} )
قال القاضي أبو محمد : ولا حجة في البيت ، وقرأ ابن مسعود «ولا رفوث » .
وقال ابن عباس وعطاء والحسن وغيرهم : الفسوق المعاصي كلها لا يختص بها شيء دون شيء .
وقال ابن عمر وجماعة معه : الفسوق المعاصي في معنى الحج كقتل الصيد وغيره( {[1871]} ) .
وقال ابن زيد ومالك : الفسوق الذبح للأصنام ، ومنه قول الله تعالى : { أو فسقاً أهل لغير الله به }( {[1872]} ) [ الأنعام : 145 ] .
وقال الضحاك : الفسوق التنابز بالألقاب ، ومنه قول الله تعالى : { بئس الاسم الفسوق }( {[1873]} ) [ الحجرات : 11 ] .
وقال ابن عمر أيضاً ومجاهد وعطاء وإبراهيم : الفسوق السباب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر »( {[1874]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وعموم جميع المعاصي أولى الأقوال .
وقال قتادة وغيره : الجدال هنا السباب .
وقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء ومجاهد : الجدال هنا أن تماري مسلماً حتى تغضبه .
وقال مالك وابن زيد : الجدال هنا أن يختلف الناس أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب ثم يتجادلون بعد ذلك .
وقال محمد بن كعب القرظي : الجدال أن تقول طائفة حجنا أبر من حجكم وتقول الأخرى مثل ذلك .
وقالت فرقة : الجدال هنا أن تقول طائفة : الجح اليوم وتقول طائفة بل الحج غداً ، وقيل : الجدال كان في الفخر بالآباء .
وقال مجاهد وجماعة معه : الجدال أن تنسىء العرب الشهور حسبما كان النسيء عليه ، فقرر الشرع وقت الحج وبينه ، وأخبر أنه حتم لا جدال فيه ، وهذا أصح الأقوال وأظهرها ، والجدال مأخوذ من الجدل وهو الفتل ، كأن كل مجادل يفاتل( {[1875]} ) صاحبه في الكلام .
وأما ما كان النسيء عليه فظاهر سير ابن إسحاق وغيرها من الدواوين أن الناسىء كان يحل المحرم لئلا تتوالى على العرب ثلاثة أشهر لا إغارة فيها ، ويحرم صفر ، وربما سموه المحرم ، وتبقى سائر الأشهر بأسمائها حتى يأتي حجهم في ذي الحجة على الحقيقة ، وأسند الطبري عن مجاهد أنه قال : كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون صفران لصفر وشهر ربيع الأول ، ثم كذلك ينقلون أسماء الشهور ، ويتبدل وقت الحج في الحقيقة ، لكنه يبقى في ذي الحجة بالتسمية لا في حقيقة الشهر ، قال : فكان حج أبي بكر سنة تسع في ذي القعدة على الحقيقة( {[1876]} ) ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة على الحقيقة ، وحينئذ قال : «إن الزمان قد استدار » الحديث( {[1877]} ) ، ونزلت { ولا جدال في الحج } أي قد تبين أمره فلا ينتقل شهر البتة أبداً .
وقوله تعالى : { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } المعنى فيثيب عليه ، وفي هذا تخصيص على فعل الخير .
وقوله تعالى : { وتزودوا } الآية ، قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد : نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد ويقول بعضهم : نحن المتوكلون ، ويقول بعضهم : كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا ، فكانوا يبقون عالة على الناس ، فنهوا عن ذلك وأمروا بالتزود .
وقال بعض الناس : المعنى تزودوا الرفيق الصالح ، وهذا تخصيص ضعيف ، والأولى في معنى الآية : وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة( {[1878]} ) ، وفي قوله تعالى : { فإن خير الزاد التقوى } حض على التقوى ، وخص أولو الألباب بالخطاب وإن كان الأمر يعم الكل لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله وهم قابلو أوامره ، والناهضون بها ، وهذا على أن اللب لب( {[1879]} ) التجارب وجودة النظر ، وإن جعلناه لب التكليف فالنداء ب { أولي الألباب } عام لجيمع المكلفين ، واللب العقل ، تقول العرب لبُبْت بضم الباء الأولى ألُب بضم اللام ، حكاه سيبويه ، وليس في الكلام فعل يفعل بضم العين فيهما غير هذه الكلمة( {[1880]} ) .
استئناف ابتدائي للإِعلام بتفصيل مناسك الحج ، والذي أراه أن هذه الآيات نزلت بعد نزول قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } في [ سورة آل عمران : 97 ] فإن تلك الآية نزلت بفرض الحج إجمالاً ، وهذه الآية فيها بيان أعماله ، وهو بيان مؤخر عن المبين ، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة واقع غير مرة ، فيظهر أن هذه الآية نزلت في سنة تسع ، تهيئة لحج المسلمين مع أبي بكر الصديق .
وبين نزول هذه الآية ونزول آية { وأتموا الحج والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] نحو من ثلاث سنين فتكون فيما نرى من الآيات التي أمر الرسول عليه السلام بوضعها في هذا الموضع من هذه السورة للجمع بين أعمال الحج وأعمال العمرة .
وهي وصاية بفرائض الحج وسننه ومما يحق أن يراعى في أدائه ، وذكر ما أراد الله الوصاية به من أركانه وشعائره . وقد ظهرت عناية الله تعالى بهذه العبادة العظيمة ، إذ بسط تفاصيلها وأحوالها مع تغيير ما أدخله أهل الجاهلية فيها .
ووصف الأشهر بمعلومات حوالة على ما هو معلوم للعرب من قبل ، فهي من الموروثة عندهم عن شريعة إبراهيم ، وهي من مبدأ شوال إلى نهاية أيام النحر ، وبعضها بعض الأشهر الحرم ، لأنهم حرموا قبل يوم الحج شهراً وأياماً وحرموا بعده بقية ذي الحجة والحرام كلّه ، لتكون الأشهر الحرم مدة كافية لرجوع الحجيج إلى آفاقهم ، وأما رجب فإنما حَرَّمته مُضر لأنه شهر العمرة .
فقوله : { الحج أشهر معلومات } أي في أشهر ، لقوله بعده : { فمن فرض فيهن الحج } ولك أن تقدر : مدة الحج أشهر ، وهو كقول العرب « الرطب شهرا ربيع » .
والمقصود من قوله : { الحج أشهر } يحتمل أن يكون تمهيداً لقوله : { فلا رفث ولا فسوق } تهويناً لمدة تر ك الرفث والفسوق والجدال ، لصعوبة ترك ذلك على الناس ، ولذلك قُللت بجمع القلة ، فهو نظير ما روى مالك في « الموطأ » : أن عائشة قالت لعروة بن الزبير يا ابن أختي إنما هي عشر ليال فإن تخلج في نفسك شيء فدعه ، تعني أكل لحم الصيد ، ويحتمل أن يكون تقريراً لما كانوا عليه في الجاهلية من تعيين أشهر الحج فهو نظير قوله : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } [ التوبة : 36 ] الآية ، وقيل : المقصود بيان وقت الحج ولا أَنثلج له .
والأَشهر المقصودة هي شوال وذو القعدة وذو الحجة لا غير ، وإنما اختلفوا في أن ذا الحجة كله شهر أو العشر الأوائل منه أو التسع فقط ، أو ثلاثة عشر يوماً منه ، فقال بالأول ابن مسعود وابن عمر والزهري وعروة بن الزبير وهو رواية ابن المنذر عن مالك ، وقال بالثاني ابن عباس والسدي وأبو حنيفة وهو رواية ابن حبيب عن مالك .
وقال بالثالث الشافعي ، والرابع قول في مذهب مالك ذكره ابن الحاجب في « المختصر » غير معزو .
وإطلاق الأشهر على الشهرين وبعض الشهر عند أصحاب القولين الثالث والرابع مخرَّج على إطلاق الجمع على الاثنين أو على اعتبار العرب الدخول في الشهر أو السنة كاستكماله ، كما قالوا : ابن سنتين لمن دخل في الثانية ، وكثرة هذا الخلاف تظهر فيمن أوقع بعض أعمال الحج مما يصح تأخيره كطواف الزيارة بعد عاشر ذي الحجة ، فمن يراه أوقعه في أيام الحج لم ير عليه دماً ومن يرى خلافه يرى خلافه .
وقد اختلفوا في الإهلال بالحج قبل دخول أشهر الحج ، فقال مجاهد وعطاء والأوزاعي والشافعي وأبو ثور : لا يجزىء ويكون له عمرة كمن أحرم للصلاة قبل وقتها ، وعليه : يجب عليه إعادة الإحرام من الميقات عند ابتداء أشهر الحج ، واحتج الشافعي بقوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } ، وقال أحمد : يجزىء ولكنه مكروه ، وقال مالك وأبو حنيفة والنخعي : يجوز الإحرام في جميع السنة بالحج والعمرة إلاّ أن مالكاً كره العمرة في بقية ذي الحجة ، لأن عمر بن الخطاب كان ينهى عن ذلك ويضرب فاعله بالدِّرة ، ودليل مالك في هذا ما مضى من السنة ، واحتج النخعي بقوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } [ البقرة : 189 ] إذ جعل جميع الأهلة مواقيت للحج ولم يفصل ، وهذا احتجاج ضعيف ، إذ ليس في الآية تعميم جميع الأهلة لتوقيت الحج بل مساق الآية أن جميع الأهلة صالحة للتوفيق إجمالاً ، مع التوزيع في التفصيل فيوقت كل عمل بما يقارنه من ظهور الأهلة على ما تبينه أدلة أخرى من الكتاب والسنة . ولاحتمال الآية عدة محامل في وجه ذكر أشهر الحج لا أرى للأئمة حجة فيها لتوقيت الحج .
وقوله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج } تفريع على هاته المقدمة لبيان أن الحج يقع فيها وبيان أهم أحكامه .
ومعنى فرض : نوى وعزم ، فنية الحج هي العزم عليه وهو الإحرام ، ويشترط في النية عند مالك وأبي حنيفة مقارنتها لقول من أقوال الحج وهو التلبية ، أو عمل من أعماله كسَوْق الهدي ، وعند الشافعي يدخل الحج بنية ولو لم يصاحب قولاً أو عملاً وهو أرجح ؛ لأن النية في العبادات لم يشترط فيها مقارنتها لجزء من أعمال العبادة ، ولا خلاف أن السنة مقارنة الإهلال للاغتسال والتلبية واستواء الراحلة براكبها .
وضمير { فيهن } للأشهر ، لأنه جمع لغير عاقل فيجري على التأنيث .
وقوله : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } جواب من الشرطية ، والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى { لا رفث } من ضمير يعود على ( من ) ؛ لأن التقدير فلا يرفث .
وقد نفى الرفث والفسوق والجدال نفي الجنس مبالغة في النهي عنها وإبعادها عن الحاج ، حتى جعلت كأنها قد نهي الحاج عنها فانتهى فانتفت أجناسها ، ونظير هذا كثير في القرآن كقوله تعالى :
{ والمطلقات يتربصن } [ البقرة : 228 ] وهو من قبيل التمثيل بأن شبهت حالة المأمور وقت الأمر بالحالة الحاصلة بعد امتثاله فكأنه امتثل وفعل المأمور به فصار بحيث يخبر عنه بأنه فَعَل كما قرره في « الكشاف » في قوله : { والمطلقات يتربصن } ، فأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة .
وقرأ الجمهور بفتح أواخر الكلمات الثلاث المنفية بلا ، على اعتبار ( لا ) نافية للجنس نصاً ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع ( رفث ) و ( فسوق ) على أن ( لا ) أخت ليس نافية للجنس غير نص وقرآ ( ولا جدال ) بفتح اللام على اعتبار ( لا ) نافية للجنس نصاً وعلى أنه عطف جملة على جملة فروي عن أبي عمرو أنه قال : الرفع بمعنى لا يكون رفث ولا فسوق يعني أن خبر ( لا ) محذوف وأن المصدرين نائبان عن فعليهما وأنهما رفعا لقصد الدلالة على الثبات مثل رفع { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] وانتهى الكلام ثم ابتدأ النفي فقال : { ولا جدال في الحج } على أن في الحج خبر ( لا ) ، والكلام على القراءتين خبرٌ مستعمل في النهي .
والرفث اللغو من الكلام والفحش منه قاله أبو عبيدة واحتج بقول العجاج :
وَربِّ أَسْرابِ حجيجٍ كُظَّم *** عن اللَّغَا ورَفَثِ التَّكَلُّــم
وفعله كنصر وفرح وكرم والمراد به هنا الكناية عن قربان النساء . وأحسب أن الكناية بهذا اللفظ دون غيره لقصد جمع المعنيين الصريح والكناية ، وكانوا في الجاهلية يتوقون ذلك ، قال النابغة :
حَيَّاكِ رَبِّي فإنَّا لاَ يحِلُّ لنا *** لَهْوُ النساءٍ وإِنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَما
يريد من الدين الحج وقد فسروا قوله : لهو النساء بالغزل .
وهذا خبر مراد به مبالغة النهي اقتضى أن الجماع في الحج حرام ، وأنه مفسد للحج وقد بينت السنة ذلك بصراحة ، فالدخول في الإحرام يمنع من الجماع إلى الإحلال بطواف الإفاضة وذلك جميع وقت الإحرام ، فإن حصل نسيان فقال مالك هو مفسد ويعيد حجه إذا لم يمض وقوف عرفة ، وإلاّ قضاه في القابل نظراً إلى أن حصول الالتذاذ قد نافى تجرد الحج والزهد المطلوب فيه بقطع النظر عن تعمد أو نسيان ، وقال الشافعي في أحد قوليه وداود الظاهري : لا يفسد الحج وعليه هدي ، وأما مغازلة النساء والحديث في شأن الجماع فذريعة ينبغي سدها ، لأنه يصرف القلب عن الانقطاع إلى ذكر الله في الحج .
وليس من الرفث إنشاد الشعر القديم الذي فيه ذكر الغزل ؛ إذ ليس القصد منه إنشاء الرفث ، وقد حدا ابن عباس راحلته وهو محرم ببيت فيه ذكر لفظ من الرفث فقال له صاحبه حصين بن قيس : أترفُث وأنت محرم ؟ فقال : إن الرفث ما كان عند النساء أي الفعل الذي عند النساء أي الجماع .
والفسوق معروف وقد تقدم القول فيه غير مرة ، وقد قيل أراد به هنا النهي عن الذبح للأصنام وهو تفسير مروي عن مالك ، وكأنه قاله لأنه يتعلق بإبطال ما كانوا عليه في الجاهلية غير أن الظاهر شمول الفسوق لسائر الفسق وقد سكت جميع المفسرين عن حكم الإتيان بالفسوق في مدة الإحرام .
وقرن الفسوق بالرفث الذي هو مفسد للحج يقتضي أن إتيان الفسوق في مدة الإحرام مفسد للحج كذلك ، ولم أر لأحد من الفقهاء أن الفسوق مفسد للحج ، ولا أنه غير مفسد سوى ابن حزم فقال في « المحلَّى » : إن مذهب الظاهرية أن المعاصي كلها مفسدة للحج ، والذي يظهر أن غير الكبائر لا يفسد الحج وأن تعمد الكبائر مفسد للحج وهو أحرى بإفساده من قربان النساء الذي هو التذاذ مباح والله أعلم .
والجدال مصدر جادله إذا خاصمه خصاماً شديداً وقد بسطنا الكلام عليه عند قوله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } [ في سورة النساء : 107 ] ، إذ فاتنا بيانه هنا .
واختلف في المراد بالجدال هنا فقيل السباب والمغاضبة ، وقيل تجادل العرب في اختلافهم في الموقف ؛ إذ كان بعضهم يقف في عرفة وبعضهم يقف في جمع وروي هذا عن مالك .
واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه ، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن الزمخشري لما أتم تفسير وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء يحضرون الموسم وقال : من بدا له أن يجادل في شيء فليفعل ، فزعموا أن بعض أهل العلم اعترض عليه قائلاً : بماذا فسرت قوله تعالى : { ولا جدال في الحج } وأنه وجم لها ، وأنا أحسب إن صحت هذه الحكاية أن الزمخشري أعرض عن مجاوبته ، لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم .
واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى .
وقوله : { وما تفعلوا خير يعلمه الله } عُقب به النهي عن المنهيات لقصد الاتصاف بأضداد تلك المنهيات فكأنه قال : لا تفعلوا ما نهيتم عنه وافعلوا الخير فما تفعلوا يعلمه الله ، وأطلق علم الله وأريد لازمه وهو المجازاة على المعلوم بطريق الكناية فهو معطوف على قوله : { فلا رفث } الخ .
معطوف على جملة : { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } باعتبار ما فيها من الكناية عن الترغيب في فعل الخير ، والمعنى وأكثروا من فعل الخير .
والتزود إعداد الزاد وهو الطعام الذي يحمله المسافر ، وهو تفعُّل مشتق من اسم جامد وهو الزاد كما يقال تَعَمَّم وتقَمَّص أي جعل ذلك معه .
فالتزود مستعار للاستكثار من فعل الخير استعداداً ليوم الجزاء شبه بإعداد المسافر الزاد لسفره بناء على إطلاق اسم السفر والرحيل على الموت .
قال الأعشى في قصيدته التي أنشأها لمدح النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيها بعض ما يدعو النبي إليه أخذاً من هذه الآية وغيرها :
إذا أنْتَ لم تَرْحَلْ بزاد من التقى *** ولاَقَيْتَ بعد الموت من قَد تَزودا
نَدِمْتَ أَنْ لا تكونَ كمِثْلِــــه *** وأَنَّك لم تُرْصِدْ بما كان أرْصَدا
فقوله : { فإن خير الزاد التقوى } بمنزلة التذييل أي التقوى أفضل من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص .
ويجوز أن يستعمل التزود مع ذلك في معناه الحقيقي على وجه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فيكون أمراً بإعداد الزاد لسفر الحج تعريضاً بقوم من أهل اليمن كانوا يجيئون إلى الحج دون أي زاد ويقولون نحن متوكلون على الله{[179]} فيكونون كلاً على الناس بالإلحاف .
فقوله : { فإن خير الزاد } الخ إشارة إلى تأكيد الأمر بالتزود تنبيهاً بالتفريع على أنه من التقوى لأن فيه صيانة ماء الوجه والعرض .
وقوله : { واتقون } بمنزلة التأكيد لقوله { فإن خير الزاد التقوى } ولم يزد إلا قوله { يا أولى الألباب } المشير إلى أن التوقى مما يرغب فيه أهل العقول .
والألباب : جمع لب وهو العقل ، واللب من كل شيء : الخالص منه ، وفعله لَبُب يلُب بضم اللام قالوا وليس في كلام العرب فَعُل يفعُل بضم العين في الماضي والمضارع من المضاعف إلا عذا الفعل حكاه سيبويه عن يونس وقال ثعلب ما أعرف له نظيراً .
فقوله { فإن خير الزاد التقوى } بمنزلة التذييل أي التقوء أفضل من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص ، وموقع قوله : { واتقون يا أولي الألباب } على احتمال أن يُرَاد بالتزود معناه الحقيقي مع المجازي إفادةُ الأمر بالتقوى التي هي زاد الآخرة بمناسبة الأمر بالتزود لحصول التقوَى الدنيوية بصَوْن العرض .
والتقوى مصدر اتقى إذا حذر شيئاً ، وأصلها تقيي قلبوا ياءها واواً للفرق بين الاسم والصفة ، فالصفة بالياء كامرأةٍ تَقْيَى كخَزْبى وصَدْيَى ، وقد أطلقت شرعاً على الحذر من عقاب الله تعالى باتباع أوامره واجتناب نواهيه وقد تقدمت عند قوله تعالى : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] .