وقيل : إن المقسم عليه قوله { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ } وهذا دعاء عليهم بالهلاك .
و { الأخدود } الحفر التي تحفر في الأرض .
وكان أصحاب الأخدود هؤلاء قومًا كافرين ، ولديهم قوم مؤمنون ، فراودوهم للدخول{[1394]} في دينهم ، فامتنع المؤمنون من ذلك ، فشق الكافرون أخدودًا [ في الأرض ] ، وقذفوا فيها النار ، وقعدوا حولها ، وفتنوا المؤمنين ، وعرضوهم عليها ، فمن استجاب لهم أطلقوه ، ومن استمر على الإيمان قذفوه في النار ، وهذا في غاية المحاربة لله ولحزبه المؤمنين ، ولهذا لعنهم الله وأهلكهم وتوعدهم فقال : { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ }
وقوله - تعالى - { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } جواب القسم بتقدير اللام وقد .
أى : وحق السماء ذات البروج ، وحق اليوم الموعود ، وحق الشاهد والمشهود ، لقد قتل ولعن أصحاب الأخدود ، وطردوا من رحمة الله بسبب كفرهم وبغيهم .
والأخدود : وهو الحفرة العظيمة المستطيلة فى الأرض ، كالخندق ، وجمعه أخاديد ، ومنه الخد لمجارى الدمع ، والمخدة : لأن الخد يوضع عليها .
ويقال : تخدد وجه الرجل ، إذا صارت فيه التجاعيد . . ومنه قول الشاعر :
ووجه كأن الشمس ألقت رداءها . . . عليه ، نقى اللون لم يتخدد
وقيل : إن جواب القسم محذوف ، دل عليه قوله - تعالى - : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء إن كفار مكة لملعونون كما لعن أصحاب الأخدود .
وأصحاب الأخدود : هم قوم من الكفار السابقين ، حفروا حفرا مستطيلة فى الأرض ، ثم أضرموها بالنار ، ثم ألقوا فيها المؤمنين ، الذين خالفوهم فى كفرهم ، وأبوا إلا إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده .
واختلف الناس في { أصحاب الأخدود } ، فقيل : هو قوم كانوا على دين كان لهم ملك فزنى بأخته ، ثم حمله بعض نسائه على أن يسن في الناس نكاح البنات والأخوات ، فحمل الناس على ذلك فأطاعه كثير وعصيته فرقة فخَدَّ لهم أخاديد ، وهي حفائر طويلة كالخنادق ، وأضرم لهم ناراً وطرحهم فيها ، ثم استمرت المجوسية في مطيعيه ، وقال علي بن أبي طالب : { الأخدود } ، وملك حمير ، كان بمزارع{[11728]} من اليمن ، اقتتل هو والكفار مع المؤمنين ثم غلب في آخر الأمر فحرقهم على دينهم إذا أبوا دينه ، وفيهم كانت المرأة ذات الطفل التي تلكأت ، فقال لها الطفل : امضي في النار فإنك على الحق ، وحكى النقاش عن علي رضي الله عنه ، أن نبيّ { أصحاب الأخدود } كان حبشياً ، وأن الحبشة بقية { أصحاب الأخدود } وقيل : { أصحاب الأخدود } ذو نواس في قصة عبد الله بن التامر التي وقعت في السير ، وقيل : كان { أصحاب الأخدود } في بني إسرائيل .
قال القاضي أبو محمد : ورأيت في بعض الكتب أن صاحب الأخدود هو محرق وأنه الذي حرق من بني تميم المائة ، ويعترض هذا القول بقوله تعالى : { وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } ، فينفصل عن هذا الاعتراض بأن هذا الكلام من قصة { أصحاب الأخدود } ، وأن المراد بقوله : { وهم } قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات ، واختلف الناس في جواب القسم ، فقال بعض النحاة : هو محذوف لعلم السامع به ، وقال آخرون : هو في قوله تعالى : { قتل } ، والتقدير لقتل ، وقال قتادة : هو في قوله : إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ .
وجواب القسم قيل محذوف لدلالة قوله : { قتل أصحاب الأخدود } عليه والتقدير أنهم ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود . وقيل : تقديره : أن الأمر لحق في الجزاء على الأعمال : أو لتبعثن .
وقيل : الجواب مذكور فيما يلي فقال الزجاج : هو { إن بطش ربك لشديد } [ البروج : 12 ] ( أي والكلام الذي بينهما اعتراض قصد به التوطئة للمقسم عليه وتوكيد التحقيق الذي أفاده القسم بتحقيق ذكر النظير ) . وقال الفراء : الجواب : { قُتل أصحاب الأخدود } ( أي فيكون قُتِلَ خَبَراً لادعاء وَلا شتماً ولا يلزم ذكر ( قد ) في الجواب مع كون الجواب ماضياً لأن ( قد ) تحذف بناء على أن حذفها ليس مشروطاً بالضرورة ) .
ويتعين على قول الفراء أن يكون الخبر مستعملاً في لازم معناه من الإِنذار للذين يَفتنون المؤمنين بأن يحلّ بهم ما حلّ بفاتني أصحاب الأخدود ، وإلا فإن الخبر عن أصحاب الأخدود لا يحتاج إلى التوكيد بالقسم إذ لا ينكره أحد فهو قصة معلومة للعرب .
وانتساق ضمائر جمع الغائب المرفوعة من قوله : { إذ هم عليها قعود } إلى قوله : { وما نقموا } يقتضي أن يكون أصحاب الأخدود وَاضعيه لتعذيب المؤمنين .
وقيل : الجواب هو جملة : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] فيكون الكلام الذي بينهما اعتراضاً وتوطئة على نحو ما قررناه في كلام الزجاج .
وقوله : { قتل أصحاب الأخدود } صيغته تشعر بأنه إنشاء شتم لهم شتم خزي وغضب وهؤلاء لم يُقتلوا ففعل قُتِل ليس بخبر بل شتم نحو قوله تعالى : { قُتل الخرّاصون } [ الذاريات : 10 ] . وقولهم قاتله الله ، وصدوره من الله يفيد معنى اللعن ويدل على الوعيد لأن الغضب واللعن يستلزمان العقاب على الفعل الملعون لأجله .
وقيل : هو دعاء على أصحاب الأخدود بالقتل كقوله تعالى : { قتل الإنسان ما أكفره } [ عبس : 17 ] والقَتل مستعار لأشد العذاب كما يقال : أهلكه الله ، أي أوقعه في أشد العناء ، وأيَّاً مَّا كان فجملة { قتل أصحاب الأخدود } على هذا معترضة بين القسم وما بعده .
ومَن جَعل { قتل أصحاب الأخدود } جواب القسم جعل الكلام خبراً وقدَّره لقد قتل أصحاب الأخدود ، فيكون المراد من أصحاب الأخدود الذين أُلقوا فيه وعُذبوا به ويكون لفظ أصحاب مستعملاً في معنى مجرد المقارنة والملازمة كقوله تعالى : { يا صاحبي السجن } [ يوسف : 39 ] وقد علمتَ آنفاً تَعيُّن تأويل هذا القول بأن الخبر مستعمل في لازم معناه .
ولفظ { أصحاب } يُعمّ الآمرين بجعل الأخدود والمباشرين لِحفره وتسعيره ، والقائمين على إلقاء المؤمنين فيه .
وهذه قصة اختلف الرواة في تعيينها وفي تعيين المراد منها في هذه الآية .
والروايات كلها تقتضي أن المفتونين بالأخدود قوم اتبَعوا النصرانية في بلاد اليمن على أكثر الروايات ، أو في بلاد الحبشة على بعض الروايات ، وذُكرتْ فيها روايات متقاربة تختلف بالإِجمال والتفصيل ، والترتيب ، والزيادة ، والتعيين وأصحّها ما رواه مسلم والترمذي عن صُهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قصَّ هذه القصة على أصحابه . وليس فيما رُوي تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقها تفسيراً لهذه الآية والترمذي ساق حديثها في تفسير سورة البروج .
وعن مقاتل كان الذين اتخذوا الأخاديد في ثلاث من البلاد بنجران ، وبالشام ، وبفارس ، أما الذي بالشام ف ( انطانيوس ) الرومي وأما الذي بفارس فهو ( بختنصر ) والذي بنجران فيوسف ذو نواس ولنذكر القصة التي أشار إليها القرآن تؤخذ من « سيرة ابن إسحاق » على أنها جرت في نجران من بلاد اليمن ، وأنه كان مَلِكٌ وهو ذو نواس له كاهن أو ساحر . وكان للساحر تلميذ اسمه عبد الله بن الثامر وكان يَجِد في طريقه إذا مشى إلى الكاهن صومعة فيها راهب كان يعبد الله على دين عيسى عليه السّلام ويقرأ الإنجيل اسمه ( فَيْمِيُون ) بفاء ، فتحتية ، فميم ، فتحتية ( وضبط في الطبعة الأوروبية من « سيرة ابن إسحاق » التي يلوح أن أصلها المطبوعة عليه أصل صحيح ، بفتح فسكون فكسر فضم ) قال السهيلي : ووقع للطبري بقاف عوض الفاء .
وقد يحرف فيقال ميمون بميم في أوله وبتحتية واحدة ، أصله من غسان من الشام ثم سَاح فاستقر بنجران ، وكان منعزلاً عن الناس مختفياً في صومعته وظهرت لعبد الله في قومه كرامات . وكان كلما ظهرت له كرامة دعا من ظهرتْ لهم إلى أن يتبعوا النصرانية ، فكثر المتنصرون في نجران وبلغ ذلك المَلكَ ذا نُواس وكان يهودياً وكان أهل نجران مشركين يعبدون نخلة طويلة ، فقتل الملك الغلامَ وقَتَل الراهب وأمر بأخاديد وجُمع فيها حَطب وأُشعلت ، وعُرض أهل نجران عليها فمن رجع عن التوحيد تركه ومن ثبت على الدين الحق قذفه في النار .
فكان أصحاب الأخدود ممن عُذِّب من أهلِ دين المسيحية في بلاد العرب . وقِصص الأخاديد كثيرة في التاريخ ، والتعذيب بالحرق طريقة قديمة ، ومنها : نار إبراهيم عليه السلام . وأما تحريق عَمرو بن هند مائةً من بني تميم وتلقيبُه بالمحرق فلا أعرف أن ذلك كان باتخاذ أخدود . وقال ابن عطية : رأيت في بعض الكتب أن أصحاب الأخدود هو مُحرق وآله الذي حَرق من بني تميم مائةً .
و{ الأخدود } : بوزن أُفعول وهو صيغة قليلة الدوران غيرُ مقيسة ، ومنها قولهم : أفحوص مشتق من فحصت القطاة والدجاجةُ إذا بحثت في التراب موضعاً تَبيض فيه ، وقولُهم أسلوب اسم لطريقة ، ولسطر النّخل ، وأقنوم اسم لأصل الشيء . وقد يكون هذا الوزن مع هاء تأنيث مثل أكرومة ، وأعجوبة ، وأُطروحة وأضحوكة .