{ 36 - 40 } { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }
أي : { و } لما دخل يوسف السجن ، كان في جملة من { دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ } أي : شابان ، فرأى كل واحد منهما رؤيا ، فقصها على يوسف ليعبرها ، . ف { قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا } وذلك الخبز { تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } أي : بتفسيره ، وما يؤول إليه أمرهما ، وقولهما : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أي : من أهل الإحسان إلى الخلق ، فأحسن إلينا في تعبيرك لرؤيانا ، كما أحسنت إلى غيرنا ، فتوسلا ليوسف بإحسانه .
ثم بين - سبحانه - جانبا من أحواله بعد أن دخل السجن فقال : { وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ . . }
والفتيان : تثنية فتى ، وهو من جاوز الحلم ودخل في سن الشباب .
قالوا : وهذان الفتيان كان أحدهما : خبازا للملك وصاحب طعامه وكان الثانى : ساقيا للملك ، وصاحب شرابه .
وقد أدخلهما الملك السجن غضبا عليهما ، لأنهما اتهما بخيانته .
والجملة الكريمة عطف على كلام محذوف يفهم من السياق ، والتقدير بعد أن بدا للعزيز وحاشيته سجن يوسف .
نفذا ما بدا لهم فسجنوه ، ودخل معه في السجن فتيان من خدم الملك " قال أحدهما " وهو ساقى الملك ليوسف - عليه السلام - :
{ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً } أى : إنى رأيت فيما يرى النائم . إنى عصرا عنبا ليصير خمرا . سماه بما يؤول إليه .
{ وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ } أى : وقال الثانى وهو خباز الملك ، إنى رأيت في المنام أنى أحمل فوق رأسى سلالا بها خبز ، وهذا الخبز تأكل الطير منه وهو فوق رأسى .
والضمير المجرور في قوله : { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } يعود إلى المرئى في المنام أى : أخبرنا بتفسير ما رأيناه في منامنا ، إذ نراك ونعتقدك من القوم الذين يحسنون تأويل الرؤى ، كما أننا نتوسم فيك الخير والصلاح ، لإِحسانك إلى غيرك ، من السجناء الذين أنت واحد منهم .
وقبل أن يبدأ يوسف - عليه السلام - في تأويل رؤياهما ، أخذ يمهد لذلك بأن يعرفهما بنفسه ، وبعقيدته ، ويدعوهما إلى عبادة الله وحده ويقيم لهما الأدلة على ذلك . .
وهذا شأن المصلحين العقلاء المخلصين لعقيدتهم الغيورين على نشرها بين الناس ، إنهم يسوقون لغيرهم من الكلام الحكيم ما يجعل هذا الغير يثق بهم ، ويقبل عليهم ، ويستجيب لهم . .
وهذا ما كان من يوسف - عليه السلام - فقد بدأ في رده عليهما بقوله : { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا . . } .
{ ودخل معه السجن فَتيان } أي أدخل يوسف السجن واتفق أنه أدخل حينئذ آخران من عبيد الملك شرابيه وخبازه للاتهام بأنهما يريدان أن يسماه . { قال أحدهما } يعني الشرابي . { إني أراني } أي في المنام وهي حكاية حال ماضية . { أعصر خمرا } أي عنبا وسماه خمرا باعتبار ما يؤول إليه . { وقال الآخر } أي الخباز . { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه } تنهش منه . { نبّئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين } من الذين يحسنون تأويل الرؤيا ، أو من العالمي وإنما قالا ذلك لأنهما رأياه في السجن يذكر الناس ويعبر رؤياهم ، أو من المحسنين إلى أهل السجن فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه .
اتفق جميع القراء على كسر سين { السّجن } هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه ، لأنّ الدخول لا يناسب أن يتعلق إلا بالمكان لا بالمصدر .
وهذان الفتيان هما ساقي المَلك وخبّازُه غضب عليهما الملك فأمر بسجنهما . قيل : اتهما بتسميم الملك في الشراب والطعام .
وجملة { قال أحدهما } ابتداء محاورة ، كما دل عليه فعل القول . وكان تعبير الرؤيا من فنون علمائهم فلذلك أيّد الله به يوسف عليه السّلام بينهم .
وهذان الفتيان توسّما من يوسف عليه السّلام كمال العقل والفهم فظنّا أنه يحسن تعبير الرؤيا ولم يكونا علِما منه ذلك من قبل ، وقد صادفا الصواب ، ولذلك قالا : { إنا نراك من المحسنين } ، أي المحسنين التعبير ، أو المحسنين الفهم .
والإحسان : الإتقان ، يقال : هو لا يحسن القراءة ، أي لا يتقنها . ومن عادة المساجين حكاية المرائي التي يرونها ، لفقدانهم الأخبار التي هي وسائل المحادثة والمحاورة ، ولأنهم يتفاءلون بما عسى أن يبشرهم بالخلاص في المستقبل . وكان علم تعبير الرؤيا من العلوم التي يشتغل بها كهنة المصريين ، كما دل عليه قوله تعالى حكاية عن ملك مصر { أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون } [ سورة يوسف : 43 ] كما سيأتي .
والعصر : الضغط باليد أو بحَجر أو نحوه على شيء فيه رطوبة لإخراج ما فيه من المائع زيتتٍ أو ماءٍ . والعصير : ما يستخرج من المعصور سمي باسم محله ، أي معصور من كذا .
والخبز : اسم لقطعة من دقيق البر أو الشعير أو نحوهما يعجن بالماء ويوضع قرب النار حتى ينضج ليؤكل ، ويسمى رغيفاً أيضاً .