وأقبل على عبادة مخلوق مثله أو دونه ، ليس بيده من الأمر شيء بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب ، ولهذا قال : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ } فإن ضرره في العقل والبدن والدنيا والآخرة معلوم { لَبِئْسَ الْمَوْلَى } أي : هذا المعبود { وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } أي : القرين الملازم على صحبته ، فإن المقصود من المولى والعشير ، حصول النفع ، ودفع الضرر ، فإذا لم يحصل شيء من هذا ، فإنه مذموم ملوم .
ثم أضاف - سبحانه - إلى تبكيت هذا المذبذب وتقريعه تقريعاً آخر فقال : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير } .
والمولى : هو كل من انعقد بينك وبينه سبب ، يجعلك تواليه ويواليك ، وتناصره ويناصرك . والعشير : هو من يعاشرك ويخالطك فى حياتك .
أى : يعبد هذا الإنسان الجاهل المضطرب ، معبوداً ضرره أقرب من منفعته ، لبئس الناصر ولبئس الصاحب هذا المعبود .
فإن قيل : كيف نجمع بين هذه الآية التى جعلت المعبود الباطل ضرره أقرب من نفعه ، وبين الآية السابقة عليها والتى نفت الضر والنفع نفياً تاماً .
وقد أجاب العلماء عن هذا التساؤل بإجابات منها : أن لفظ " يدعو " فى الآية الثانية بمعنى يقول .
وقد صدر الألوسى تفسيره للآية بهذا الرأى فقال ما ملخصه : " قوله - تعالى - { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } . استئناف يبين مآل دعائه وعبادته غير الله - تعالى - ويقرر كون ذكل ضلالاً بعيداً . فالدعاء هنا بمعنى القول .
ِأى : يقول الكافر يوم القيامة برفع صنت ، وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه ، ولا يرى منه أثراً مما كان يتوقعه منه من نفع أو دفع ضر : والله لبئس الذى يتخذ ناصراً - من دون الله - ولبئس الذى يعاشر ويخالط ، فكيف بما هو ضرر محض ، عار من النفع بالكلية ، وفى هذا من المبالغة فى تقبيح حال الصنم والإمعان فى ذمه ما لا يخفى . . . " .
ومنها ما ذكره الإمام القرطبى فقال : قوله - تعالى - { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } أى : هذا الذى انقلب على وجهه يدعو من ضره أدنى من نفعه ، أى : فى الآخرة ، لأنه بعبادته دخل النار . ولم يرد منه نفعاً أصلاً ، ولكنه قال : ضره أقرب من نفعه ، ترفيعاً للكلام ، كقوله - تعالى - : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ومنها : ما ذكره بعض العلماء من أن الآية الأولى فى شأن الذين يعبدون الأصنام ، إذ الأصنام لا تنفع من عبدها ، ولا ضر من كفر بها ، ولذا قال فيها : ما لا يضره وما لا ينفعه ، والقرينة على أن المراد بذلك الأصنام ، التعبير بلفظة " ما " فى قوله : { مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } لأن لفظ " ما " يأتى - غالباً - لما لا يعقل .
أما الآية الثانية فهى فى شأن من عبد بعض الطغاة من دون الله ، كفرعون القائل لقومه : " ما علمت لكم من إله غيرى " فإن فرعون وأمثاله من الطغاة المعبودين ، قد يغدقون نعم الدنيا على عابديهم . وهذا النفع الدنيوى بالنسبة لما سيلاقونه من عذاب لا شىء . فضر هذا المعبود بخلود عابده فى النار . أقرب من نفعه بعرض قليل زائل من حطام الدنيا .
والقرينة على أن المراد بالمعبود الباطل فى الآية الثانية بعض الطغاة الذين هم من جنس العقلاء : هى التعبير " بمن " التى تأتى - غالباً - لمن يعقل ، كما قال - تعالى - : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ . . } .
ويبدو لنا أن هذا القول الأخير له وجه من القبول .
وبذلك نرى السورة الكريمة قد ساقت لنا نماذج من أحوال الناس فى هذه الحياة . لكى يحذرهم المؤمنون ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة .
{ يدعو لمن ضره } بكونه معبودا لأنه يوجب القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة . { أقرب من نفعه } الذي يتوقع بعبادته وهو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى ، واللام معلقة ل { يدعو } من حيث إنه بمعنى يزعم والزعم قول مع اعتقاد ، أو داخلة على الجملة الواقعة مقولا إجراء له مجرى قول : أي يقول الكافر ذلك بدعاء وصراخ حين يرى استضراره به ، أو مستأنفة على أن يدعو تكرير للأول ومن مبتدأ خبره { لبئس المولى } الناصر { ولبئس العشير } الصاحب .
ثم كرر { يدعو } على جهة التوبيخ غير معدى إذ عدي أول الكلام ثم ابتدأ الإخبار بقوله { لمن ضره } واللام مؤذنة بمجيء القسم والثانية التي في { لبئس } لام القسم وإن كان أبو علي مال إلى أنها لام الابتداء والثانية لام اليمين ، ويظهر أيضاً في الآية أن يكون المراد يدعو من ضره ثم علق الفعل باللام وصح أن يقدر هذا الفعل من الأفعال التي تعلق وهي أفعال النفس كظننت وخشيت ، وأشار أبو علي إلى هذا ورد عليه ، و { العشير } القريب المعاشر في الأمور ، وذهب الطبري إلى أن المراد بالمولى والعشير هو الإنسان الذي يعبد الله على حرف ويدعو الأصنام ، والظاهر أن المراد ب { المولى } و { العشير } هو الوثن الذي ضره أقرب من نفعه ، وهو قول مجاهد والله أعلم .
جملة في موضع حال ثانية ، ومضمونها ارتقاء في تضليل عابدي الأصنام . فبعد أن بيّن لهم أنهم يعبدون ما لا غناء لهم فيه زاد فبين أنهم يعبدون ما فيه ضر . فموضع الارتقاء هو مضمون جملة { ما لا يضره } [ الحج : 12 ] كأنه قيل : ما لا يضره بل ما ينجر له منه ضرّ . وذلك أن عبادة الأصنام تضرّه في الدنيا بالتوجه عند الاضطرار إليها فيضيع زمنه في تطلب ما لا يحصل وتضره في الآخرة بالإلقاء في النار .
ولما كان الضر الحاصل من الأصنام ليس ضراً ناشئاً عن فعلها بل هو ضر ملابس لها أثبت الضر بطريق الإضافة للضمير دون طريق الإسناد إذ قال تعالى : { لمن ضره أقرب من نفعه } ولم يقل : لمن يضر ولا ينفع ، لأن الإضافة أوسع من الإسناد فلم يحصل تناف بين قوله { ما لا يضره } [ الحج : 12 ] وقوله { لمن ضره أقرب من نفعه } .
وكونه أقرب من النفع كناية عن تمحّضه للضرّ وانتفاء النفع منه لأن الشيء الأقرب حاصل قبل البعيد فيقتضي أن لا يحصل معه إلاّ الضر .
واللام في قوله { لمَن } لام الابتداء ، وهي تفيد تأكيد مضمون الجملة الواقعة بعدها ، فلام الابتداء تفيد مفاد ( إنّ ) من التأكيد .
وقدمت من تأخير إذ حقها أن تدخل على صلة ( من الموصولة . والأصل : يدعو من لضَره أقرب من نفعه ) .
ويجوز أن تعتبر اللام داخلة على ( من ) الموصولة ويكون فعل { يدعو } معلقاً عن العمل لدخول لام الابتداء بناء على الحق من عدم اختصاص التعليق بأفعال القلوب .
وجملة { لبئس المولى ولبئس العشير } إنشاء ذم للأصنام التي يدعونها بأنها شر الموالي وشر العشراء لأن شأن المولى جلب النفع لمولاه ، وشأن العشير جلب الخير لعشيره فإذا تخلف ذلك منهما نادراً كان مذمة وغضاضة ، فأما أن يكون ذلك منه مطرداً فذلك شر الموالي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يدعو} يعني: يعبد، {لمن ضره} في الآخرة {أقرب من نفعه} في الدنيا، {لبئس المولى} يعني: الولي {ولبئس العشير} يعني: الصاحب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يدعو هذا المنقلب على وجهه من أن أصابته فتنة آلهة لضرّها في الآخرة له، أقرب وأسرع إليه من نفعها...
واختلف أهل العربية في موضع «مَنْ»، فكان بعض نحوّيي البصرة يقول: موضعه نصب ب «يدعو»، ويقول: معناه: يدعو لآلهة ضرّها أقرب من نفعها، ويقول: هو شاذّ لأنه لم يوجد في الكلام: يدعو لزيدا. وكان بعض نحويّي الكوفة يقول: اللام من صلة «ما» بعد «مَنْ» كأن معنى الكلام عنده: يدعو من لَضَرّه أقرب من نفعه، وحُكي عن العرب سماعا منها: عندي لَمَا غيرُه خير منه، بمعنى: عندي ما لغيره خير منه، وأعطيتك لما غيرُه خير منه، بمعنى: ما لغيره خير منه. وقال: جائز في كلّ ما لم يتبين فيه الإعراب الاعتراض باللام دون الاسم.
وقال آخرون منهم: جائز أن يكون معنى ذلك: هو الضلال البعيد يدعو فيكون «يدعو» صلة «الضلال البعيد»، وتضمر في «يدعو» الهاء ثم تستأنف الكلام باللام، فتقول:"لمن ضرّه أقرب من نفعه لبئس المولى" كقولك في الكلام في مذهب الجزاء: لَمَا فَعَلْتَ لَهُو خَيْر لك...
وهذا القول الآخر على مذهب العربية أصحّ، والأوّل إلى مذهب أهل التأويل أقرب.
وقوله: "لَبِئْسَ المَوْلَى "يقول: لبئس ابن العمّ هذا الذي يعبد الله على حرف. "وَلَبِئْسَ العَشِيرُ" يقول: ولبئس الخليط المعاشر والصاحب...
وقد قيل: عني بالمولى في هذا الموضع: الوليّ الناصر.
وكان مجاهد يقول: عُني بقوله: "لَبِئْسَ المَوْلَى وَلَبِئْسَ العَشِيرُ" الوثن...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"يدعو لمن ضره أقرب من نفعه" هذه الآية من مشكلات القرآن، وفيها أسئلة:
أولها قال: قالوا في الآية الأولى: "ما لا يضره" وقال هاهنا: "لمن ضره". فكيف وجه التوفيق؟ الجواب عنه: أن معنى قوله: "يدعو لمن ضره" أي: لمن ضر عبادته، وقوله في الآية الأولى: "ما لا يضره" أي: لا يضر إن ترك عبادته.
السؤال الثاني: قالوا: قال في هذه الآية: "أقرب من نفعه" والجواب: أن هذا على عادة العرب، وهم يقولون مثل هذا اللفظ، ويريدون أنه لا نفع له أصلا، وهذا مثل قوله تعالى: "ذلك رجع بعيد" أي: لا رجع أصلا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وكرّر يدعو، كأنه قال: يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه، ثم قال: لمن ضره بكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفيعاً لبئس المولى.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم كرر {يدعو} على جهة التوبيخ...
أما قوله تعالى: {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه} ففيه مسألتان: المسألة الأولى: اختلفوا في تفسيره على وجهين: أحدهما: أن المراد رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم لأنه يصح منهم أن يضروا، وحجة هذا القول أن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضرهم ولا تنفعهم، وهذه الآية تقتضي كون المذكور فيها ضارا نافعا...
أما قوله: {لبئس المولى ولبئس العشير} فالمولى هو الولي والناصر، والعشير الصاحب والمعاشر، واعلم أن هذا الوصف بالرؤساء أليق لأن ذلك لا يكاد يستعمل في الأوثان، فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله تعالى الذي يجمع خير الدنيا والآخرة إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء، ثم ذم الرؤساء بقوله: {لبئس المولى} والمراد ذم من انتصر بهم والتجأ إليهم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} أي: ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها، وأما في الآخرة فضرره محقق متيقن.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الإحسان جالباً للانسان، من غير نظر إلى مورده، لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، بين أن ما قيل في جانب النفع إنما هو على سبيل الفرض فقال: {يدعوا} ولما كان ما فرض أولاً فيما عبر عنه ب "ما "قد يكون غير عاقل، فيكون ما صدر منه لعدمه العقل، أزال هذا الإبهام بقوله: {لمن} أي زاعماً أن من {ضره} ولو بعبادته الموجبة لأعظم الشقاء {أقرب من نفعه} الذي يتوقع منه -إله.
ولما كانت الولاية الكاملة لا تنبغي إلا لمن يكون توقع النفع منه والضر على حد سواء، لقدرته على كل منهما باختياره، وكان العشير لا يصلح إلا إن كان مأمون العاقبة، وكان هذا المدعو إن نظر إليه في جانب الضر وجد غير قادر عليه، أو في جانب النفع فكذلك، وإن فرض توقع نفعه أو ضره كان خوف ضره أقرب من رجاء نفعه، استحق غاية الذم فلذلك استأنف تعالى وصفه بقوله معبراً في ذمه بالأداة الموضوعة لمجامع الذم: {لبئس المولى} لكونه ليس مرجو النفع كما هو مخشى الضر {ولبئس العشير} لكونه ليس مأمون الضر فهو غير صالح لولاية ولا لعشرة بوجه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فإن المقصود من المولى والعشير، حصول النفع، ودفع الضرر، فإذا لم يحصل شيء من هذا، فإنه مذموم ملوم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) من وثن أو شيطان، أو سند من بني الإنسان.. وهذا كله لا يملك ضرا ولا نفعا؛ وهو أقرب لأن ينشأ عنه الضر. وضره أقرب من نفعه. ضره في عالم الضمير بتوزيع القلب، وإثقاله بالوهم وإثقاله بالذل. وضره في عالم الواقع وكفى بما يعقبه في الآخرة من ضلال وخسران (لبئس المولى) ذلك الضعيف لا سلطان له في ضر أو نفع (ولبئس العشير) ذلك الذي ينشأ عنه الخسران. يستوي في ذلك المولى والعشير من الأصنام والأوثان، والمولى والعشير من بني الإنسان، ممن يتخذهم بعض الناس آلهة أو أشباه آلهة في كل زمان ومكان!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولما كان الضر الحاصل من الأصنام ليس ضراً ناشئاً عن فعلها بل هو ضر ملابس لها أثبت الضر بطريق الإضافة للضمير دون طريق الإسناد إذ قال تعالى: {لمن ضره أقرب من نفعه} ولم يقل: لمن يضر ولا ينفع، لأن الإضافة أوسع من الإسناد فلم يحصل تناف بين قوله {ما لا يضره} [الحج: 12] وقوله {لمن ضره أقرب من نفعه}. وكونه أقرب من النفع كناية عن تمحّضه للضرّ وانتفاء النفع منه لأن الشيء الأقرب حاصل قبل البعيد فيقتضي أن لا يحصل معه إلاّ الضر.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} لما يضعه من خطط تقود تابعه إلى الشرّ الذي يعقّد حياته في الدنيا، ويهلكه في الآخرة، مما يجعل ما يحصل عليه من شهواتٍ وملذاتٍ يحققها له أمراً غير ذي معنى. {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} الذي يأمل في نصرته، فلا يجد لديه أيّة إمكانيةٍ للنصر، لافتقاره إلى أي قدر من القوة، {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} وبئس الصاحب الذي يعاشره، لأنه لا ينفعه، بل يقوده إلى الضرر المحقق في ما يوجهه إليه من مواقع الهلكة في الدنيا والآخرة...