61- واذكروا - أيها اليهود - أيضاً يوم سيطر البطر على أسلافكم ، ولم يؤدوا لنعمة الله حقها فقالوا لموسى : إننا لن نصبر على طعام واحد ( وهو المن والسلوى ) فادع لنا ربك كي يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقولها وقثائها وعدسها وثومها وبصلها ، فتعجب موسى من ذلك ، وأنكره عليهم فقال لهم : أتفضلون هذه الأصناف على ما هو أفضل وأحسن ، وهو المن والسلوى ؟ . . فانزلوا إذن من سيناء وادخلوا مدينة من المدن فإنكم ستجدون فيها ما تريدون ، وبسبب ذلك البطر والعناد أحاطت بهؤلاء اليهود المذلة والفقر والخنوع ، واستحقوا غضب الله عليهم لما ألفوه من العناد والعصيان ، وما جروا عليه من الكفر بآيات الله وبقتلهم الأنبياء مخالفين بذلك الحق الثابت المقرر ، وقد جرأهم على ذلك - الكفر وهذا القتل - ما رُكِّب في نفوسهم من التمرد والعدوان ومجاوزة الحد في المعاصي .
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }
أي : واذكروا ، إذ قلتم لموسى ، على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها ، { لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } أي : جنس من الطعام ، وإن كان كما تقدم أنواعا ، لكنها لا تتغير ، { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا } أي : نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه ، { وَقِثَّائِهَا } وهو الخيار { وَفُومِهَا } أي : ثومها ، والعدس والبصل معروف ، قال لهم موسي { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى } وهو الأطعمة المذكورة ، { بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وهو المن والسلوى ، فهذا غير لائق بكم ، فإن هذه الأطعمة التي طلبتم ، أي مصر هبطتموه وجدتموها ، وأما طعامكم الذي من الله به عليكم ، فهو خير الأطعمة وأشرفها ، فكيف تطلبون به بدلا ؟
ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم لأوامر الله ونعمه ، جازاهم من جنس عملهم فقال : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } التي تشاهد على ظاهر أبدانهم { وَالْمَسْكَنَةُ } بقلوبهم ، فلم تكن أنفسهم عزيزة ، ولا لهم همم عالية ، بل أنفسهم أنفس مهينة ، وهممهم أردأ الهمم ، { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } أي : لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها وفازوا ، إلا أن رجعوا بسخطه عليهم ، فبئست الغنيمة غنيمتهم ، وبئست الحالة حالتهم .
{ ذَلِكَ } الذي استحقوا به غضبه { بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } الدالات على الحق الموضحة لهم ، فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم ، وبما كانوا { يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ }
وقوله : { بِغَيْرِ الْحَقِّ } زيادة شناعة ، وإلا فمن المعلوم أن قتل النبي لا يكون بحق ، لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم .
{ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا } بأن ارتكبوا معاصي الله { وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } على عباد الله ، فإن المعاصي يجر بعضها بعضا ، فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير ، ثم ينشأ عنه الذنب الكبير ، ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك ، فنسأل الله العافية من كل بلاء .
واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن ، وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم ، ونسبت لهم لفوائد عديدة ، منها : أنهم كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم ، ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به ، فبين الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم ، ما يبين به لكل أحد [ منهم ] أنهم ليسوا من أهل الصبر ومكارم الأخلاق ، ومعالي الأعمال ، فإذا كانت هذه حالة سلفهم ، مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف الظن بالمخاطبين ؟ " .
ومنها : أن نعمة الله على المتقدمين منهم ، نعمة واصلة إلى المتأخرين ، والنعمة على الآباء ، نعمة على الأبناء ، فخوطبوا بها ، لأنها نعم تشملهم وتعمهم .
ومنها : أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم ، مما يدل على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها ، حتى كان متقدمهم ومتأخرهم في وقت واحد ، وكان الحادث من بعضهم حادثا من الجميع .
لأن ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع ، وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع .
ومنها : أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها ، والراضي بالمعصية شريك للعاصي ، إلى غير ذلك من الحِكَم التي لا يعلمها إلا الله .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد ذكرت بني إسرائيل بنعمة جليلة ، ونصحتهم بأن يعملوا على شكرها : وحذرتهم عاقبة الإِفساد في الأرض وجحودهم النعمى واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير :
ثم ذكرهم - سبحانه - بما كان منهم من جحود النعمة واستخفافهم بها وإيثارهم - بسوء اختيارهم - ما هو أدنى على ما هو خير ، فقال تعالى :
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يا موسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ . . . }
الصبر : حبس النفس على الشيء ، بمعنى إلزامها إياه ، ومنه الصبر على الطاعات ، أو يطلق على حبسها بمعنى كفها . ومنه الصبر عن المعاصي . والطعام : ما رزقوه في التيه من المن والسولى : والبقل : ما تنبته الأرض من الخضر مما يأكله الناس والأنعام من نحو النعناع والكراث وغيرهما . والقوم : قيل هو الثوم ، وقيل هو الحنطة . والقثاء : نوع من المأكولات أكبر حجماً من ( الخيار ) .
قال ابن جرير : ( وكان سبب مسألتهم موسى - عليه السلام - ذلك فيما بلغنا عن قتادة أنه قال : كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى : فملوا ذلك وذكروا عيشاً كان لهم بمصر ، فسألوه موسى ، فقال الله تعالى : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } .
ثم ساق ابن جرير رواية ، فيها تصريح بأن سؤالهم لم يكن في البرية بل كان في التيه فقال : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : أنبأنا . ابن زيد قال :
" كان طعام بني إسرائيل في التيه واحداً ، وشرابهم واحداً . كان شرابهم عسلاً ينزل لهم من السماء يقال له المن ، وطعامهم طير يقال له السلوى ، يأكلون الطير ويشربون العسل ، لم يكونوا يعرفون خبزاً ولا غيره ، فقالوا يا موسى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } : " لما سئموا من الإِقامة في التيه . والمواظبة على مأكول واحد لبعدهم عن الأرض التي ألفوها ، وعن العوائد التي عهدوها ، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك ، وتشوقهم إلى ما كانوا يألفون ، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم " .
وقال صاحب الكشاف : " كانوا أهل فلاحة فنزعوا إلى عكرهم - فأجموا - أي ملوا وكرهوا - ما كانوا فيه من النعمى وطلبت أنفسهم عدم البقاء { على طَعَامٍ وَاحِدٍ } أرادوا ما رزقوه في التيه من المن والسلوى " .
ومعنى الآية الكريمة إجمالاً : وذاكروا يا بني إسرائيل بعد أن أسبغنا عليكم نعمنا ما كان من سوء اختيار أسلافكم ، وفساد أذواقكم ، وإعناتكم لنبيهم موسى - عليه السلام - حيث قالوا له ببطر وسوء أدب : لن نصبر على طعام المن والسلوى في كل وقت ، فسل ربك أن يخرج لنا مما تنبته الأرض من خضرها وفاكهتها وحنطتها وعدسها وبصلها ، لأن نفوسنا قد عافت المن والسلوى ، فوبخهم نبيهم موسى - عليه السلام - بقوله : أتختارون الذي هو أقل فائدة وأدنى لذة ، وتتركون المن والسلوى وهو خير مما تطلبون لذة وفائدة ؟ انزلوا إلى مصر من الأمصار فإنكم تجدون به ما طلبتموه من البقول وأشباهها .
وأحاطت ببني إسرائيل المهانة والاستكانة كما تحيط القبة بمن ضربت عليه ، وحق عليهم غضب الله .
ثم بين الله - تعالى - السبب في جحودهم للنعم وفي أنه ضرب عليهم الذلة والمسكنة وأنزل عليهم غضبه بقوله :
{ ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } إلخ أي : إن الكفر بآيات الله قد تأصل فيهم ، وقتل أنبيائهم بغير الحق قد تكرر منهم حتى صار كالطبيعة الثانية والسجية الثابتة ، فليس غريباً على هؤلاء أن يقولوا لن نصبر على المن والسلوى وأن ينزل بهم غضب الله ونقمته من أجل جحودهم وكفرهم .
وقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } تذكير لهم برغبة من رغباتهم الناشئة عن ذوق سقيم . لا يقدر النعمى قدرها ، وفيه انتقال من تعداد النعم عليهم إلى بيان موفقهم الجحودي منها ، وانسياقهم وراء شهواتهم وأهوائهم وحماقاتهم ، وفيه إشعار بسوء أدبهم في مخاطبتهم لنبيهم موسى - عليه السلام - إذ عبروا عن عدم رغبتهم في تناول المن والسلوى بحرف { لَن } المفيد تأكيد النفي فقالوا : { لَن نَّصْبِرَ } . . إلخ فكأنهم يقولن له مهددين ، ليلجئوه إلى دعاء ربه سريعاً : إننا ابتداء من هذا الوقت الذي نخاطبك فيه إلى أن نموت ، لن نحبس أنفسنا عن كراهية على تناول طعام واحد ، لأننا قد سئمناه ومللناه ، ولن نعود إليه : فالتعبير " بلن " يشعر بشدة ضجرهم ، وبلوغ الكراهية لهذا الطعام منهم منتهاها .
قال الحسن البصري - رضي الله عنه - : " بطروا طعم المن والسلوى فلم يصبروا عليه ، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه ، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقل وثوم " .
ووصفوه بالوحدة مع أن المن والسلوى نوعان ، لأنهم أرادوا من الوحدة أنه طعام متكرر في كل يوم لا يختلف بحسب الأوقات ، والعرب تقول لمن يفعل على مائدته في كل يوم من الطعام أنواعاً لا تتغير ، إنه يأكل من طعام واحد .
وسألوا موسى - عليه السلام - أن يدعو لهم ، لأن دعاء الأنبياء أقرب إلى الإجابة من دعاء غيرهم ، وكذلك دعاء الصالحين ، حيث يصدر من قلوب عامرة بتقوى الله وجلاله ، فيلاقى من الإِجابة ما لا يلاقيه دعاء نفوس تستهويها الشهوات ، وتستولي عليها السيئات .
وقولهم : { فادع لَنَا رَبَّكَ } ولم يقولوا ربنا ، لعدم رسوخ الإِيمان في قلوبهم ، ولأنه سبحانه - قد اختصه بما لم يعط مثله من مناجاته وتكميله وإيتائه التوراة .
وقولهم : { يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } هو مضمون ما طلبوه من موسى - عليه السلام - وهو في معنى مقول قول محذوف والتقدير : أي قل لربك يخرج لنا .
وجاء التعبير بالفعل { يُخْرِجْ } مجزوماً - مع أن مقتضى الظاهر أن يقال : " أن يخرج - للإِيماء إلى أنهم واثقون بأنه إن دعا ربه أجابه ، حتى لكأن إخراج ما تنبت الأرض متوقف على مجرد دعاء موسى ربه ، وأنه لو لم يدع لهم ، لكان شحيحاً عليهم بما فيه نفعهم .
والجملة الكريمة : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ } من مقول موسى - عليه السلام - لهم ، وفيها توبيخ شديد لهم على سوء اختيارهم ، وضعف عقولهم . لإِيثارهم الأدنى وهو البقل وما عطف عليه ، على ما هور خير منه وهو المن والسلوى .
قال ابن جرير عند تفسيره للآية الكريمة : " أي قال لهم موسى : أتاخذون الذي هو أخس خطراً وقيمة وقدراً من العيش ، بدلا بالذي هو خير منه خطراًٍ وقيمة وقدراً ، وذلك كان استبدالهم ، وأصل الاستبدال : هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك ، ومعنى قوله : { أدنى } أخس وأضع وأصغر قدراً وخطراً ، وأصله من قولهم : هذا رجل دنى بين الدناءة ، وإنه ليدنى في الأمور - بغير همز - إذ كان يتتبع خسيسها . ثم قال : ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى : البقول والقثاء والعدس والبصل والثوم ، فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه " .
ثم أضاف موسى - عليه السلام - إلى توبيخهم السابق على بطرهم وجحودهم توبيخاً آخر فقال لهم : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } أي إذا كان هذا هو مرغوبكم ، فاتركوا هذا المكان ، وأنزلوا إلى مصر من الأمصار ، لكي تجدوا ما سألتموني إياه من البقل والثوم وأشباههما ، لأن ما اخترتموه لا يوجد في المكان الذي حللتم به ، وإنما يوجد في الأمصار والقرى .
قال ابن كثير : " هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف " .
وقال ابن جرير : " فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين { اهبطوا مِصْراً } وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها ، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين واتفاق قراءة القراء على ذلك . . " اه .
وقال أبو حيان في البحر : " وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان ابن تغلب ( مصر ) بغير تنوين ، وقد وردت كذلك في مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود ، وبعض مصاحف عثمان - رضي الله عنه " اه .
والمعنى على القراءة الأولى : اهبطوا مصر من الأمصار لأنكم في البدو ، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي وإنما يكون في القرى والأمصار ، فإن لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش .
والمعنى على القراءة الثانية : اتركوا المكان الذي أنتم فيه ، واهبطوا مصر التي كنتم تسامون فيها سوء العذاب فإنكم تجدون فيها ما تبغونه ، لأنكم قوم لا تقدرون نعمة الحرية ، ولا ترتاحوا للفضائل النفسية ، بل شأنكم - دائماً - أن تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .
ومن حجة الذين قالوا إن الله أراد بالمصر في الآية الكريمة ، مصر فرعون ، قوله تعالى في سورة الشعراء { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } وقوله تعالى في سورة الدخان :
{ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } قالوا : فأخبر الله - تعالى - أنه قد ورثهم ذلك ، وجعلها لهم ، فلم يكونوا يرثونها ، ثم لا ينتفعون بها ، ولا يكونون منتفعين إلا بمصر بعضهم إليها .
قال ابن جرير : " ومن حجة من قال إن الله - إنما عني بقوله : { اهبطوا مِصْراً } أي : مصراً من الأمصار دون مصر فرعون بعينها ، أن الله - تعالى - جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر ، وإنما ابتلاهم بالتيه . فامتناعهم عن موسى في حرب الجبابرة ، إذ قال لهم { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } إلى قوله تعالى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } فحرم الله - تعالى - على قائل ذلك - فيما ذكر لنا - دخولها حتى هلكوا في التيه وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة . ثم أهبط ذريتهم الشام ، فأسكنهم الأرض المقدسة ، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع " يوشع بن نون " بعد وفاة موسى بن عمران . فرأينا أن الله - تعالى - قد اخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة ، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها ، فيجوز لنا أن نقرأ { اهبطوا مِصْراً } ونتأوله أنه ردهم إليها . قالوا : فإن احتج محتج بقوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } قيل لهم : فإن الله - تعالى - إنما أورثهم ذلك فملكهم إياها . ولم يردهم إليها وجعل مساكنهم الشام " اه .
قال أبو حيان في البحر : ( ولم يصرح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى مصر ) اه .
ومع أن ابن جرير - رحمه الله - قد رد على من قال ، إن المراد بالمصر مصر فرعون : استناداً إلى قراءة غير الجمهور ، إلا أنه لم يرجح أحد الرأيين فقد قال : ( والذي نقول به في ذلك ، أنه لا دلالة في كتاب الله - تعالى - على الصواب من هذين التأويلين ، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر ، وأهلا لتأويل متنازعون تأويله ، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بينه الله - تعالى - في كتابه وهم في الأرض تائهون فاستجاب الله لموسى دعاءه وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قراراً من الأرض التي تنبت ما سأل لهم من ذلك ، إذا صاروا إليه ، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر ، وجائز أن يكون الشام . . . "
ومن هذا النص الذي نقلناه عن ابن جرير ، نرى أنه لم يقطع برأى في المكان الذي أمر بنو إسرائيل بالهبوط فيه وأنه يرى أن الله - تعالى - قد استجاب لموسى - عليه السلام - دعاءه ، وأن موسى وقومه قد هبطوا - فعلا - إلى قرار من الأرض التي تنبت البقول وأشباهها .
وقد عارض الإِمام ابن كثير في تفسيره رأى ابن جرير فقال :
وهذا الذي قاله - أي ابنُ جرير - فيه نظر ، والحق أن المراد مصر من الأمصار ، كما روى عن ابن عباس وغيره والمعنى على ذلك ، لأن موسى - عليه السلام - يقول لهم : هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها ، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه ، ولهذا قال : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } أي ما طلبتم ، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم .
وبذلك يظهر لنا أن ابن كثير - رحمه الله - يرى أن المراد بالمصر مكان غير معين وأن موسى - عليه السلام - لم يسأل ربه إجابة طلبهم لأنهم كانوا متعنتين . بطرين ، والله - تعالى - يكره من كان كذلك ، وأن قول موسى - عليه السلام - لهم " اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم " من باب التوبيخ والتجهيل لهم ، إذ ليس حينئذ بلد قريب يستطيعون الوصول إليه .
هذا ، والذي نرجحه في هذا المقام هو ما ذهب إليه الإِمام ابن كثير لما يأتي :
أولا : أن القراءة بالتنوين متواترة ، وابن جرير نفسه لم يجاوز القراءة بغيرها ، وهذه القراءة المتواترة ، نص في أن المراد من مصر ، أي بلد كان ، لا مصر فرعون ، ثم إذا كان المراد به ذلك فليس لنا أن نقول إنه يصدق على مصر فرعون ، وذلك لأن الأمصار التي تنبت ما طلبوا من البقول والخضر أقرب إليهم من مصر ، فليس من المعقول أن يؤمروا بالذهاب إلى مصر فرعون وهي بعيدة عن مكانهم بعداً شاسعاً ، ويتركوا الأمصار الأقرب إليهم وفيها ما يريدون .
ثانياً : لم ينقل أحد من المؤرخين أنهم رجعوا إلى مصر بعد خروجهم منها كما قال أبو حيان وغيره ، بل الثابت أن بني إسرائيل خرجوا من مصر ، وأمروا بعد خروجهم بدخول الأرض المقدسة لقتال الجبارين ، ولعصيانهم أمر نبيهم وماتوا جميعاً في التيه ، وبقي أبناؤهم فامتثلوا أمر الله - تعالى - وهبطوا إلى الشام . وقاتلوا الجبارين ودخلوا الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون .
ثالثاً : ليس في الآية ما يشعر بأن موسى - عليه السلام - طلب من ربه أن يجيبهم إلى رغبتهم فكيف نقول بما لم يدل عليه القرآن الكريم ولو من طريق الإِشارة ؟
رأبعاً : دخولهم في التيه كان عقوبة لهم على نكوصهم عن قتال الجبارين ، ليدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم .
فالتيه والحالة هذه كان بمثابة سجن لهم يعاقبون فيه ، كما يشعر بذلك قوله تعالى : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } فكيف يخرج السجين من سجنه تلبية لبعض رغباته المنكرة . وبناء على ذلك يكون الأمر في قول موسى لهم : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } للتهديد والتوبيخ والتجهيل .
ثم بين - سبحانه - العقوبات التي حلت بهم جزاء ظلمهم وفجورهم فقال تعالى :
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } :
ضرب الذلة والمسكنة عليهم كنية عن لزومهما لهم ، وإحاطتهما بهم ، كما يحيط السرادق بمن بداخله .
قال صاحب الكشاف : ( جعلت الذلة محيطة بهم ، مشتملة عليهم ، فهم فيها كمن يكون في القبة من ضربت عليهم ، أو ألصقت به حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه ، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة ) .
وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم ، بظاهر جسم آخر بشدة ، يقال : ضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها ، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة اللصوق .
والذلة : على وزن فعلة من قول القائل : ذل فلان يذل ذلة وذلة ، والمراد بها الصغار والهوان والحقارة .
والمسكنة ، مفعلة من السكون ، ومنها أخذ لفظ المسكين ، لأن الهم قد أثقلة فجعله قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفاقه والفقر ، والمراد بها في الآية : الضعف النفسي ، والفقر القلبي الذي يستولي على الشخص ، فيجعله يحس بالهوان ، مهما يكن لديه من أسباب القوة .
والفرق بينها وبين الذلة . أن الذلة هوان تجيء أسبابه من الخارج ، كأن يغلب المرء على أمره نتيجة انتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو .
أما المسكنة فهي هوان ينشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق واستيلاء المطامع والشهوات عليها ، وتوارث الذلة قروناً طويلة يورث هذه المسكنة ، ويجعلها كالطبيعة الثابتة في الشخص المستذل . ولقد عاش اليهود قروناً وأحقاباً مستعبدين لمختلف الأمم ، فأكسبهم هذا الاستعباد ضعفاً نفسياً جعلهم لا يفرقون بين الحياة الذليلة والكريمة ، بل إنهم ليفضلوا الأولى على الثانية ما دامت تجلب لهم غرضاً من أغراض الدنيا ، ومهما كثر المال في أيديهم ، فإنهم لا يتحولون عن فقرهم النفسي وظهورهم أمام الناس بمظهر البائس الفقير .
وقوله تعالى : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } بيان لسوء عاقبتهم في الآخرة ومبالغة في إهانتهم وتحقيرهم ، فهم في الدنيا أذلاء حقراء ، وفي الآخرة سيرجعون بغضب من الله بسبب أفعالهم القبيحة .
قال ابن جرير - رحمه الله - يعني بقوله تعالى { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } : انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال باءوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر يقال منه باء فلان بذنبه يبوء بوأ وبواء ، ومنه قوله تعالى :
{ إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يعني تنصرف متحملهما ، وترجع بهما قد صارا عليك دوني ، فمعنى الكلام إذا . ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم منه سخط .
وقال صاحب الكشاف : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } من قولك باء فلان بفلان ، إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته ، أي صاروا أحقاء بغضبه .
ثم صرح - سبحانه - بعد ذلك بسبب ما أحاط بهم من الذلة والمسكنة واستحقاقهم غضب الله وسخطه ، فقال تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } . والجملة الكريمة استئناف بيان جواب عن سؤال تقديره : لم فعل بهم كل ذلك ؟ فكان الجواب ، فعلنا بهم بسبب جحودهم لآيات الله ، وبسبب قتلهم لأنبيائه ، وخروجهم عن طاعته ؛ ومجاوزتهم حدودهم والآيات تطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على وحدانية الله تعالى وربوبيته ، وتطلق ويراد بها النصوص التي تشتمل عليها الكتب السماوية ، وتطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على صدق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما يبلغون عن الله - تعالى - وهي التي يسميها علماء التوحيد المعجزات ، وقد كفر اليهود بكل هذه الضروب من الآيات ، ومردوا على ذلك كما يفيده التعبير بالفعل المضارع { يَكْفُرُونَ } .
وقوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } أي ويقتلون أنبياء الله الذين بعثهم مبشرين ومنذرين ، ولقد قتل اليهود - فيمن قتلوا من الأنبياء - زكريا وابنه يحيى - عليهما السلام - لأنهما أبيا الانقياد وراء شهواتهم وأهوائهم .
وقال - سبحانه - { بِغَيْرِ الحق } مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبداً ، لإِفادة أن قتلهم لهم كان بغير وجه معتبر في شريعتهم لأنها تحرمه ، { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } فهذا القيد المقصود به الاحتجاج عليهم بأصول دينهم وتخليد مذمتهم ، وتقبيح إجرامهم ، حيث إنهم قتلوا أنبياءهم بدون خطأ في الفهم ، أو تأول في الحكم ، أو شبهة في الأمر ، وإنما فعلوا ما فعلوا وهم عالمون بقبح ما ارتكبوا ، وخالفوا شرع الله عن تعمد وإصرار .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره ؟
قلت : معناه أنهم قتلوهم بغيرا لحق عندهم ، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا ، وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم ، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقون به للقتل عندهم " .
وقال الإِمام الرازي : " فإن قيل : قال هنا { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } وقال في آل عمران { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } فما الفرق ؟ قلت . إن الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل يتجلى في حديث : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : " كفر بعد إيمان ، وزناً بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق " فالحق المذكور هنا بحرف التعريف إشارة إلى هذا وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أي لم يكن هناك أي حق يستندون إليه ، لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره البتة " .
ثم قال تعالى : { ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
العصيان : الخروج عن طاعة الله . والاعتداء : تجاوز الحد الذي حده الله - تعالى - لعباده إلى غيره وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه . وللمفسرين في مرجع الإِشارة " ذلك " رأيان :
أحدهما : أنه يعود إلى كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ، وعليه يكون المعنى :
إن هؤلاء اليهود قد مروا على عصيانهم لخالقهم ، وتعديهم حدوده بجرأة وعدم مبالاة فنشأ عن هذا التمرد والطغيان أن كفروا بآيات الله - تعالى - وامتدت أيديهم الأثيمة إلى قتل الأنبياء بقلوب كالحجارة أو أشد قسوة .
والجملة الكريمة على هذا الرأي تفيد أن التردي في المعاصي وارتكاب المناهي ، وتجاوز الحدود المشروعة ، يؤدي إلى الانتقال من غصير الذنوب إلى كبيرها ، ومن حقيرها إلى عظيمها ، لأن هؤلاء اليهود لما استمروا المعاصي وداوموا على تعدي الحدود ، هانت على نفوسهم الفضائل ، وانكسرت أمام شهواتهم كل المثل العليا ، فكذبوا بآيات الله تكذيباً وقتلوا من جاءهم بالهدى ودين الحق .
والثاني : يرى أصحابه أن اسم الإشارة الثاني يعود إلى نفس المشار إليه باسم الإِشارة الأول ، وتكون الحكمة في تكرار الإِشارة هو تمييز المشار إليه حرصاً على معرفته ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة عليهم ، واستحقاقهم لغضب الله - تعالى - كما بينا ، والإِشارة حينئذ من قبيل التكرير المغنى عن العطف كما في قوله تعالى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } والمعنى أن هؤلاء اليهود قد لزمتهم الذلة والمسكنة ، وصاروا أحقاء بسخط الله بسبب كفرهم بآياتنا . وقتلهم أنبياءنا ، وخروجهم عن طاعتنا وتعديهم لحدودنا .
وعلى هذا الرأي يكون ذكر أسباب العقوبة التي حلت بهم في الدرجة العليا من حسن الترتيب ، فقد بدأ - سبحانه - بما فعلوه في حقه وهو كفرهم بآياته ، ثم ثنى بما يتلوه في العظم وهو قتلهم لأنبيائهم ، ثم وصمهم بعد ذلك بالعصيان والخروج عن طاعته ثم ختم أسباب العقوبة بدمغهم بالاعتداء ، وتخطى الحدود ، وعدم المبالاة بالعهود ، وهذا الترتيب من لطائف أسلوب القرآن الكريم في سوق الأحكام ، مشفوعة بعللها وأسبابها .
وبهذا تكون الآية الكريمة قد وصفت بني إسرائيل بجحود النعم ، وسوء الأدب وحمق التفكير ، وهوان النفس ، وبلادة الطبع ، وبطر الحق ، والبغي على أنفسهم وعلى غيرهم ، وما وصفتهم به أيدته الأيام وصدقته الأحداث في كل زمان ومكان .
{ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد } يريدون به ما رزقوا في التيه من المن والسلوى . وبوحدته أنه لا يختلف ولا يتبدل ، كقولهم طعام مائدة الأمير واحد يريدون أنه لا تتغير ألوانه وبذلك أجمعوا أو ضرب واحد ، لأنهما طعام أهل التلذذ وهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم واشتهوا ما ألفوه .
{ فادع لنا ربك } سله لنا بدعائك إياه { يخرج لنا } يظهر ويوجد ، وجزمه بأنه جواب فادع فإن دعوته سبب الإجابة .
{ مما تنبت الأرض } من الإسناد المجازي ، وإقامة القابل مقام الفاعل ، ومن للتبعيض .
{ من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها } تفسير وبيان وقع موقع الحال ، وقيل بدل بإعادة الجار . والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطايبه التي تؤكل ، والفوم الحنطة ويقال للخبز ومنه فوموا لنا ، وقيل الثوم وقرئ قثائها بالضم ، وهو لغة فيه .
{ قال } أي الله ، أو موسى عليه السلام . { أتستبدلون الذي هو أدنى } أقرب منزلة وأدون قدرا . وأصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة ، فقيل بعيد المحل بعيد الهمة ، وقرئ " أدنأ " من الدناءة . { بالذي هو خير } يريد به المن والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي .
{ اهبطوا مصرا } انحدروا إليه من التيه ، يقال هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه إذا خرج منه ، وقرئ بالضم والمصر البلد العظيم وأصله الحد بين الشيئين ، وقيل أراد به العلم ، وإنما صرفه لسكون وسطه أو على تأويل البلد ، ويؤيده أنه غير منون في مصحف ابن مسعود . وقيل أصله مصراتم فعرب .
{ فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة } أحيطت بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه ، أو ألصقت بهم ، من ضرب الطين على الحائط ، مجازاة لهم على كفران النعمة . واليهود في غالب الأمر أذلاء مساكين ، إما على الحقيقة أو على التكلف مخافة أن تضاعف جزيتهم .
{ وباؤوا بغضب من الله } رجعوا به ، أو صاروا أحقاء بغضبه ، من باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقتل به ، وأصل البوء المساواة .
{ ذلك } إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب .
{ بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق } بسبب كفرهم بالمعجزات ، التي من جملتها ما عد عليهم من فلق البحر ، وإظلال الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، وانفجار العيون من الحجر . أو بالكتب المنزلة : كالإنجيل والفرقان ، وآية الرجم والتي فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة ، وقتلهم الأنبياء فإنهم قتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق عندهم ، إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم ، وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحب الدنيا كما أشار إليه بقوله : { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } أي : جرهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات ، وقتل النبيين . فإن صغار الذنوب سبب يؤدي إلى ارتكاب كبارها ، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها . وقيل كرر الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما هو بسبب الكفر ، والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله تعالى . وقيل الإشارة إلى الكفر والقتل ، والباء بمعنى مع وإنما جوزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين فصاعدا على تأويل ما ذكر ، أو تقدم للاختصار ، ونظيره في الضمير قول رؤبة يصف بقرة :
فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجلد توليع البهق
والذي حسن ذلك أن تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة ، ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع .
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ( 61 )
كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى ، وتذكروا عيشهم الأول بمصر ، وكنى عن المن والسلوى { بطعام واحد } ، وهما طعامان ، لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد ، ولتكرارهما سواء أبداً( {[667]} ) قيل لهما { طعام واحد } ، ولغة( {[668]} ) بني عامر «فادعِ » بكسر العين .
و { يخرج } : جزم بما تضمنه الأمر من معنى الجزاء( {[669]} ) ، وبنفس الأمر على مذهب أبي عمر الجرمي والمفعول على مذهب سيبويه مضمر تقديره مأكولاً مما تنبت الأرض ، وقال الأخفش : «من » في قوله : { مما } زائدة «وما » مفعولة ، وأبى سيبويه أن تكون «من » ملغاة في غير النفي ، كقولهم : ما رأيت من أحد ، و { من } في قوله : { من بقلها } لبيان الجنس ، و { بقلها } بدل بإعادة الحرف ، والبقل كل ما تنبته الأرض من النجم( {[670]} ) ، والقثاء جمع قثأة( {[671]} ) .
وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب : «قُثائها » ، بضم القاف .
وقال ابن عباس وأكثر المفسرين : «الفوم الحنطة » .
وقال عطاء وقتادة : «الفوم جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز كالحنطة والفول والعدس ونحوه » .
وقال الضحاك : «الفوم الثوم » ، وهي قراءة عبد الله بن مسعود بالثاء ، وروي ذلك عن ابن عباس( {[672]} ) ، والثاء تبدل من الفاء ، كما قالوا ، مغاثير ومغافير( {[673]} ) ، وجدث وجدف ، ووقعوا في عاثور شر ، وعافور شر ، على أن البدل لا يقاس عليه ، والأول أصح : أنها الحنطة ، وأنشد ابن عباس قول أحيحة بن الجلاح : [ الطويل ]
قد كنت أغنى الناس شخصاً واجداً . . . ورد المدينة عن زراعة فوم
قال ابن دريد( {[674]} ) : «الفوم الزرع أو الحنطة » ، وأزد السراة( {[675]} ) يسمون السنبل فوماً « ، والاستبدال طلب وضع الشيء موضع الآخر( {[676]} ) ، و { أدنى } مأخوذ عند أبي إسحاق الزجاج من الدنو أي القرب( {[677]} ) في القيمة .
وقال علي بن سليمان : هو مهموز من الدنيء البين الدناءة ، بمعنى الأخس ، إلا أنه خففت همزته .
وقال غيره : هو مأخوذ من الدون أي الأحط ، فأصله أدون أفعل ، قلب( {[678]} ) فجاء أفلع ، وقلبت الواو ألفاً لتطرفها .
وقرأ زهير للكسائي( {[679]} ) : » أدنأ ، ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل التي هي أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير ؟ والوجه الذي يوجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه ، يحتمل أن يكون تفاضلها في القيمة ، لأن هذه البقول لا خطر لها ، وهذا قول الزجاج ، ويحتمل أن يفضل المن والسلوى لأنه الطعام الذي من الله به وأمرهم بأكله ، وفي استدامة أمر الله تعالى وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوا عارٍ من هذه الخصال ، فكان أدنى من هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في الطيب واللذة به ، فالبقول لا محالة أدنى من هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في حسن الغذاء ونفعه ، فالمن والسلوى خير لا محالة في هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل من جهة أنه لا كلفة فيه ولا تعب ، والذي طلبوا لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب ، فهو { أدنى } في هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في أنه لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخللها البيوع( {[680]} ) والغصوب وتدخلها الشبه ، فهي { أدنى } في هذا الوجه .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : ويترتب الفضل للمن والسلوى بهذه الوجوه كلها ، وفي الكلام حذف ، تقديره : فدعا موسى ربه فأجابه( {[681]} ) ، فقال لهم : { اهبطوا } ، وتقدم ذكر معنى( {[682]} ) الهبوط ، وكأن القادم على قطر منصب( {[683]} ) عليه ، فهو من نحو الهبوط ، وجمهور الناس يقرؤون «مصراً » بالتنوين وهو خط المصحف ، إلا ما حكي عن بعض مصاحف عثمان رضي الله عنه( {[684]} ) .
وقال مجاهد وغيره ممن صرفها : «أراد مصراً من الأمصار غير معين » ، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية ، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه .
وقالت طائفة ممن صرفها( {[685]} ) : أراد مصر فرعون بعينها ، واستدلوا بما في القرآن من أن الله تعالى أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم ، وأجازوا صرفها .
وقال الأخفش : «لخفتها وشبهها بهند ودعد » وسيبويه لا يجيز هذا( {[686]} ) .
وقال غير الأخفش : «أراد المكان فصرف » .
وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وغيرهما : «اهبطوا مصر » بترك الصرف ، وكذلك هي في مصحف أبيّ بن كعب وقالوا : «هي مصر فرعون » .
قال الأعمش : «هي مصر التي عليها صالح بن علي » .
وقال أشهب : «قال لي مالك : هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون » .
وقوله تعالى : { فإن لكم ما سألتم } يقتضي أنه وكلهم إلى أنفسهم .
وقرأ النخغي وابن وثاب «سِألتم » بكسر السين( {[687]} ) وهي لغة ، { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } معناه ألزموها وقضي عليهم بها ، كما يقال ضرب الأمير البعث( {[688]} ) ، وكما قالت العرب ضربة لازب ، أي إلزام ملزوم أو لازم ، فينضاف المصدر إلى المفعول بالمعنى ، وكما يقال ضرب الحاكم على اليد ، أي حجر وألزم ؛ ومنه ضرب الدهر ضرباته ، أي ألزم إلزاماته ، و { الذلة } فعلة من الذل كأنها الهيئة والحال ، { والمسكنة } من المسكين ، قال الزجاج : «هي مأخوذة من السكون وهي هنا : زي الفقر وخضوعه( {[689]} ) ، وإن وجد يهودي غني فلا يخلو من زي الفقر ومهانته » .
قال الحسن وقتادة : «المسكنة الخراج أي الجزية » .
وقال أبو العالية : «المسكنة الفاقة والحاجة » .
{ وباؤوا بغضب من الله } معناه : مروا متحملين له( {[690]} ) ، تقول : بؤت بكذا إذا تحملته ، ومنه قول مهلهل ليحيى بن الحارث بن عباد : «بؤ( {[691]} ) بشسع نعل كليب » .
والغضب بمعنى الإرادة صفة ذات ، وبمعنى إظهاره على العبد بالمعاقبة صفة فعل ، والإشارة بذلك إلى ضرب الذلة وما بعده ، والباء في { بأنهم } باء السبب .
وقال المهدوي : «إن الباء بمعنى اللام » والمعنى : لأنهم ، والآيات هنا تحتمل أن يراد بها التسع( {[692]} ) وغيرها مما يخرق العادة ، وهو علامة لصدق الآية به ، ويحتمل أن يراد آيات التوراة التي هي كآيات القرآن .
وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «وتقتلون » بالتاء على الرجوع إلى خطابهم( {[693]} ) ، وروي عنه أيضاً بالياء .
وقرأ نافع : بهمز «النبيئين » ، وكذلك حيث وقع في القرآن ، إلا في موضعين( {[694]} ) : في سورة الأحزاب : { أن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي } [ الأحزاب : 50 ] بلا مد ولا همز ، { ولا تدخلوا بيوت النبي إلا } [ الأحزاب : 53 ] ، وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد ، وترك الهمز في جميع ذلك الباقون ، فأما من همز فهو عنده من «أنبأ » إذا أخبر ، واسم فاعله منبىء فقيل نبيء ، بمعنى منبىء ، كما قيل : سميع بمعنى مسمع ، واستدلوا بما جاء من جمعه على نبآء . قال الشاعر( {[695]} ) : [ الطويل ]
يا خاتم النبآء إنك مرسل . . . بالحقّ كلّ هدى الإله هداكا
فهذا كما يجمع فعيل في الصحيح «كظريف » وظرفاء وشبهه .
قال أبو علي : «زعم سيبويه أنهم يقولون في تحقير النبوة : كان مسيلمة نبوته نبيئة( {[696]} ) سوء ، وكلهم يقولون تنبأ مسيلمة ، فاتفاقهم على ذلك دليل على أن اللام همزة » ، واختلف القائلون بترك الهمز في نبيء ، فمنهم من اشتق النبي من همز ثم سهل الهمز ، ومنهم من قال : هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر ، فالنبي الطريق الظاهر ، وكان النبي من عند الله طريق الهدى والنجاة ، وقال الشاعر( {[697]} ) : [ البيسط ] .
لما وردنا نبياً واستتبّ بنا . . . مسحنفر كخطوط السيح منسحل( {[698]} )
واستدلوا بأن الأغلب في جمع أنبياء كفعيل في المعتل ، نحو ولي وأولياء وصفي وأصفياء ، وحكى الزهراوي أنه يقول نبوء إذا ظهر فهو نبيء ، والطريق الظاهر نبيء بالهمز ، وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : السلام عليك يا نبيء الله ، وهمز ، فقال له النبي صلى عليه السلام : لست بنبيء الله ، وهمز ، ولكني نبيّ الله ، ولم يهمز .
قال أبو علي : «ضعف سند هذا الحديث ، ومما يقوي ضعفه أنه صلى الله عليه وسلم ، قد أنشده المادح يا خاتم النبآء ولم يؤثر في ذلك إنكار ، والجمع كالواحد » .
وقوله تعالى : { بغير الحق } تعظيم( {[699]} ) للشنعة والذنب الذي أتوه ، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق ، ولكن من حيث قد يتخيل متخيل لذلك وجهاً ، فصرح قوله : { بغير الحق } عن شنعة الذنب ووضوحه ، ولم يجترم( {[700]} ) قط نبي ما يوجب قتله ، وإنما أتاح الله تعالى من أتاح منهم . وسلط عليه ، كرامة لهم ، وزيادة في منازلهم ، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين( {[701]} ) ، قال ابن عباس وغيره : «لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر »( {[702]} ) .
وقوله تعالى : { ذلك } رد على الأول وتاكيد للإشارة إليه( {[703]} ) ، والباء في { بما } باء السبب ، و { يعتدون } معناه : يتجاوزون الحدود ، والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء ، وعرفه في الظلم والمعاصي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فلما طال عليهم المن والسلوى، سألوا موسى نبات الأرض، فذلك قوله عز وجل: {وإذ قلتم يا موسى} في التيه.
{لن نصبر على طعام واحد}، يعني المن والسلوى.
{فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها} يعني الثوم،
{وعدسها وبصلها}، فغضب موسى، عليه السلام،
{قال أتستبدلون الذي هو أدنى}، يقول: الذي هو دون المن والسلوى من نبات الأرض {بالذي هو خير}، يعني المن والسلوى، فقال موسى:
{فإن لكم ما سألتم} من نبات الأرض.
{وضربت عليهم الذلة}، يعني على اليهود الذلة، وهي الجزية.
{وباءو بغضب من الله}، يعني استوجبوا غضب الله عز وجل.
{ذلك} الذل والمسكنة الذي نزل بهم.
{بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله}.
{ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} في أديانهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
واذكروا إذ قلتم يا معشر بني إسرائيل: لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد، وذلك الطعام الواحد هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم، وهو السلوى في قول بعض أهل التأويل، وفي قول وهب بن منبه هو الخبز النّقيّ مع اللحم. فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من البقل والقثاء. وما سمى الله مع ذلك وذكر أنهم سألوه موسى. وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فيما بلغنا عن قتادة...قال: كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشا كان لهم بمصر، فسألوه موسى، فقال الله تعالى:"اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ"...
فتأويل الكلام إذا على ما وصفنا من أمر من ذكرنا: فادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها. والبقل والقثاء والعدس والبصل، هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الأرض وحبها. وأما الفوم، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه. فقال بعضهم: هو الحنطة والخبز.
وهو في بعض القراءات «وثومها». وقد ذكر أن تسمية الحنطة والخبز جميعا فوما من اللغة القديمة، حكي سماعا من أهل هذه اللغة: فوّموا لنا، بمعنى اختبزوا لنا وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود «وثومها» بالثاء. فإن كان ذلك صحيحا فإنه من الحروف المبدلة، كقولهم: وقعوا في عاثور شرّ وعافور شرّ، وكقولهم للأثافي أثاثي، وللمغافير مغاثير، وما أشبه ذلك مما تقلب الثاء فاء والفاء ثاء لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء...
"أتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أدْنَى بالّذِي هُوَ خَيْرٌ": قال لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخسّ خطرا وقيمة وقدرا من العيش، بدلاً بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا، وذلك كان استبدالهم. وأصل الاستبدال: هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك.
ومعنى قوله: "أدْنى": أخسّ وأوضع وأصغر قدرا وخطرا، وأصله من قولهم: هذا رجل دنيّ بيّن الدناءة، وإنه ليدني في الأمور -بغير همز- إذا كان يتتبع خسيسها... ولا شكّ أن من استبدل بالمنّ والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم، فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه.
وقد تأول بعضهم قوله: "الّذي هُوَ أدْنَى "بمعنى الذي هو أقرب، ووجه قوله: "أدنى" إلى أنه أفعل من الدنوّ الذي هو بمعنى القرب...
" اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ": فدعا موسى فاستجبنا له، فقلنا لهم: اهبطوا مصر. وهو من المحذوف الذي اجتزئ بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه. وقد دللنا فيما مضى على أن معنى الهبوط إلى المكان إنما هو النزول إليه والحلول به.
فتأويل الآية إذا: "وَإذْ قُلْتُمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ على طَعامٍ وَاحِدٍ فادْعُ لَنا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثائها وفُومِها وعَدَسِها وبَصَلِها" قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخسّ وأردأ من العيش بالذي هو خير منه؟ فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه، فاستجاب الله له دعاءه، فأعطاهم ما طلبوا، وقال الله لهم: "اهْبطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ".
ثم اختلف القرّاء في قراءة قوله: مِصْرا؛ فقرأه عامة القرّاء: «مصرا» بتنوين المصر وإجرائه وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه. فأما الذين نوّنوه وأجروه، فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار لا مصرا بعينه، فتأويله على قراءتهم: اهبطوا مصرا من الأمصار، لأنكم في البدو، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي، وإنما يكون في القرى والأمصار، فإن لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش. وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بالإجراء والتنوين، كان تأويل الكلام عنده: اهبطوا مصرا البلدة التي تعرف بهذا الاسم وهي «مصر» التي خرجوا عنها، غير أنه أجراها ونوّنها اتباعا منه خط المصحف، لأن في المصحف ألفا ثابتة في مصر، فيكون سبيل قراءته ذلك بالإجراء والتنوين سبيل من قرأ: "قَوَارِيرا قَوَارِيرا" مِنْ فِضّةٍ منوّنة اتباعا منه خط المصحف. وأما الذي لم ينوّن مصر فإنه لا شك أنه عنى مصر التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها.
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك نظير اختلاف القرّاء في قراءته:
عن قتادة [وغيره]: "اهْبِطُوا مِصْرا" أي مصرا من الأمصار فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ.
وقال آخرون: هي مصر التي كان فيها فرعون.
ومن حجة من قال: إن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: "اهْبُطُوا مِصْرا" مصرا من الأمصار دون مصر فرعون بعينها، أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر، وإنما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة إذ قال لهم: "يا قَوْمُ ادْخُلُوا الأرْضُ المُقَدّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لكُمْ وَلاَ تَرْتَدّوا على أدْبارِكُم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يا مُوسَى إنّ فِيهَا قَوْما جَبّارِينَ" إلى قوله: "إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدا ما دَامُوا فِيها فاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قَاعِدُونَ". فحرّم الله جل وعز على قائل ذلك فيما ذكر لنا دخولها حتى هلكوا في التيه وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة، ثم أهبط ذرّيتهم الشام، فأسكنهم الأرض المقدسة، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون بعد وفاة موسى بن عمران. فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة، ولم يخبرنا عنهم أنه ردّهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها، فيجوز لنا أن نقرأ اهبطوا مصر، ونتأوّله أنه ردّهم إليها.
قالوا: فإن احتجّ محتجّ بقول الله جل ثناؤه: "فأخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وأوْرَثْناها بَنِي إسْرَائِيلَ". قيل لهم: فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك فملكهم إياها ولم يردّهم إليها، وجعل مساكنهم الشأم.
وأما الذين قالوا: إن الله إنما عنى بقوله جل وعز: "اهْبِطُوا مِصْرا" مِصْرَ، فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها: "فأخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأوْرَثْنَاها بَنِي إسْرَائِيلَ" وقوله: "كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنِعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كذلِكَ وأوْرَثْناها قَوْما آخَرِينَ". قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورّثهم ذلك وجعلها لهم، فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها. قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها، وإلا فلا وجه للانتفاع بها إن لم يصيروا أو يصر بعضهم إليها. قالوا: وأخرى أنها في قراءة أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود: «اهْبِطُوا مِصْرَ» بغير ألف، قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها مصر بعينها.
والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر، وأهل التأويل متنازعون تأويله.
فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بينه الله جل وعز في كتابه وهم في الأرض تائهون، فاستجاب الله لموسى دعاءه، وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر، وجائز أن يكون الشأم. فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين: "اهْبِطُوا مِصْرا" وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين، واتفاق قراءة القراء على ذلك. ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه إلا من لا يجوز الاعتراض به على الحجة فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينها.
" وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ".
يعني بقوله: "وَضُرِبَتْ" أي فُرضت، ووضعت عليهم الذلة وأُلزموها من قول القائل: ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة، وضرب الرجل على عبده الخراج: يعني بذلك وضعه، فألزمه إياه، ومن قولهم: ضرب الأمير على الجيش البعث، يراد به ألزمهموه.
وأما الذلة، فهي الفعلة من قول القائل: ذلّ فلان يذلّ ذلاً وذلة، والذلة: هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم، فقال جل وعز: "قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلاَ بالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقّ مِنَ الّذِين أُوتُوا الكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ"... عن الحسن وقتادة في قوله: "وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ" قالا: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
وأما "المسكنة"، فإنها مصدر المسكين، يقال: ما فيهم أسكن من فلان وما كان مسكينا ولقد تمسكن مسكنة. ومن العرب من يقول: تمسكن تمسكنا. والمسكنة في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة، وهي خشوعها وذلها... [وهي] الفقر.
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: "وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ": قال هؤلاء يهود بني إسرائيل. قلت له: هم قبط مصر، قال: وما لقبط مصر وهذا؟ لا والله ما هم هم، ولكنهم اليهود، يهود بني إسرائيل؛ فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعزّ ذلاّ، وبالنعمة بؤسا، وبالرضا عنهم غضبا، جزاءً منه لهم على كفرهم بآياته وقتلهم أنبياءه ورسله اعتداءً وظلما منهم بغير حقّ، وعصيانهم له، وخلافا عليه.
"وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ": انصرفوا ورجعوا، ولا يقال باءوا إلا موصولاً إما بخير وإما بشرّ، يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به بَوْءا وَبَواءً. ومنه قول الله عزّ وجلّ "إني أرِيد أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ" يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني.
فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم منه سخط...
" ذلكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرون بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الحَقّ".
يعني بقوله جل ثناؤه: «ذلك» ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وإحلاله غضبه بهم. فدل بقوله: «ذلك» وهو يعني به ما وصفنا على أن قول القائل ذلك يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها.
" بِأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرونَ": من أجل أنهم كانوا يكفرون، يقول: فعلنا بهم من إحلال الذلّ والمسكنة والسخط بهم من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحقّ... يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا، وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا. وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى الكفر: تغطية الشيء وستره، وأن آيات الله: حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله.
فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده، وتصديق رسله ويدفعون حقيتها، ويكذبون بها.
ويعني بقوله: "وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الحَقّ": ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم لإنباء ما أرسلهم به عنه لمن أرسلوا إليه. وهم جماع واحدهم نبيّ غير مهموز، وأصله الهمز، لأنه من أنبأ عن الله، فهو ينبئ عنه إنباء، وإنما الاسم منه منبئ ولكنه صرف وهو «مُفعِل» إلى «فَعِيل»، كما صرف سميع إلى فعيل من مفعل، وبصير من مبصر، وأشباه ذلك... وقد قال بعضهم: النبي والنبوّة غير مهموز، لأنهما مأخوذان من النّبْوَة، وهي مثل النجوة، وهو المكان المرتفع. وكان يقول: إن أصل النبي الطريق...يقول: إنما سمي الطريق نبيا، لأنه ظاهر مستبين من النّبوّة.
" وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الحَقّ": أنهم كانوا يقتلون رسل الله بغير إذن الله لهم بقتلهم منكرين رسالتهم جاحدين نبوّتهم.
"ذلكَ بمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ".
وقوله: "ذلكَ": ردّ على «ذلك» الأولى. ومعنى الكلام: وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله، من أجل كفرهم بآيات الله، وقتلهم النبيين بغير الحقّ، من أجل عصيانهم ربهم، واعتدائهم حدوده فقال جل ثناؤه: "ذلك بِمَا عَصَوْا" والمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين. والاعتداء: تجاوز الحدّ الذي حدّه الله لعباده إلى غيره، وكل متجاوز حدّ شيء إلى غيره فقد تعدّاه إلى ما جاوز إليه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك بما عصوا أمري، وتجاوزوا حدّي إلى ما نهيتهم عنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وضربت عليهم الذلة) قيل فيه بوجوه: قيل (الذلة) ذلة احتمال المؤنة والشدائد لما سألوا من الأطعمة المختلفة، وقيل: (الذلة) ذلة الجزية والصغار، بعصيانهم ربهم، وقيل (الذلة) ذلة الكسب والعمل لأن الأول كان يأتيهم من غير كسب ولا مؤنة.
قوله تعالى: (والمسكنة) قيل: قطع رجائهم عن الآخرة لما عصوا ربهم.
وقوله تعالى: (وباءوا بغضب من الله) قيل فيه بوجوه: قيل: باءوا رجعوا، وقيل: باءوا استوجبوا، وقيل: باءوا أقروا، وكله يرجع إلى واحد...
[و] الآيات، هي الحجج التي أعطى الرسل، وأجراها على أيديهم...
(ويقتلون النبيئين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) يحتمل أن يكون هذا في غيرهم لأنه لم يكن في زمن موسى نبي سوى هارون، وهم لم يقتلوه، إلا أن يقال: إن ذلك كان من أولادهم بعد موسى أو كان من غيرهم سوى هؤلاء وأولادهم على أن قتل الأنبياء في بني إسرائيل كان ظاهرا حتى قيل: قتل في يوم كذا كذا نبيا، ولم يذكر قتل رسول من الرسل؛ وذلك، والله أعلم، لقوله: (إنا لننصر رسلنا) [غافر: 51] ولقوله: (إنهم لهم المنصورون) [الصافات: 172]. أخبر أنه ينصرهم وأنهم منصورون؛ ومن كان الله ناصره فهو المنصور أبدا، ولأن الرسل هم الذين أوتوا الآيات التي كانت معهم. وأما الأنبياء فلم يكن معهم تلك الآيات المعجزة، وإنما كانوا يدعون الخلق إلى دين الله بالآيات التي كانت للرسل والحجج التي كانت معهم. لذلك كان ما ذكر، والله أعلم...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{ويقتلون النبيّين بِغَيْرِ الْحَقِّ} مثل أشعيا وزكريا ويحيى وسائر من قتل اليهود من الأنبياء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كانوا فلاحة فنزعوا إلى عَكَرِهم فأَجَموا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء {على طَعَامٍ واحد} أرادوا ما رزقوا في التيه من المنّ والسلوى. فإن قلت: هما طعامان فما لهم قالوا على طعام واحد؟ قلت: أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها، قيل: لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً يراد بالوحدة نفي التبدّل والاختلاف.
ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد، لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والتترف، ونحن قوم فِلاَحَةٍ أهل زراعات، فما نريد إلا ما ألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة كالحبوب والبقول ونحو ذلك.
ومعنى {يُخْرِجْ لَنَا} يظهر لنا و يوجد.
والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر. والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها...
{اهبطوا مِصْرًا} وقرئ «اهبُطوا» بالضم: أي انحدروا إليه من التيه. يقال: هبط الوادي إذا نزل به، وهبط منه، إذا خرج...
{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه. أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب، كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة، إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم، خيفة أن تضاعف عليهم الجزية.
{وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله} من قولك: باء فلان بفلان، إذا كان حقيقاً بأن يقتل به، لمساواته له ومكافأته، أي صاروا أحقاء بغضبه.
فإن قلت: قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق، فما فائدة ذكره؟ قلت: معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا. وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقون به القتل عندهم.
وقرأ عليّ رضي الله عنه «ويقتِّلون» بالتشديد
{بِمَا عَصَواْ} بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي واعتدائهم حدود الله في كل شيء، مع كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء. وقيل: هو اعتداؤهم في السبت. ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم؛ لأنهم انهمكوا فيهما وغلوا حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتل الأنبياء، أو ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا.
واعلم أن سؤال النوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض:
الأول: أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين سنة ملوه فاشتهوا غيره،
الثاني: لعلهم في أصل الخلقة ما تعودوا ذلك النوع وإنما تعودوا سائر الأنواع ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيسا فوق رغبته فيما لم يعتده وإن كان شريفا.
الثالث: لعلهم ملوا من البقاء في التيه فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس تلك الأطعمة.
الرابع: أن المواظبة على الطعام الواحد سبب لنقصان الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة والاستكثار من الأنواع يعين على تقوية الشهوة وكثرة الالتذاذ، فثبت أن تبديل النوع بالنوع يصلح أن يكون مقصود العقلاء...
{ويقتلون النبيين بغير الحق} فالمعنى أنهم يستحقون ما تقدم لأجل هذه الأفعال أيضا وفيه سؤالات.
السؤال الأول: أن قوله تعالى: {يكفرون} دخل تحته قتل الأنبياء فلم أعاد ذكره مرة أخرى؟ الجواب: المذكور ههنا الكفر بآيات الله، وذلك هو الجهل والجحد بآياته فلا يدخل تحته قتل الأنبياء.
السؤال الثاني: لم قال: {بغير الحق} وقتل الأنبياء لا يكون إلا على هذا الوجه؟ الجواب من وجهين:
(الأول): أن الإتيان بالباطل قد يكون حقا لأن الآتي به اعتقده حقا لشبهة وقعت في قلبه. وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلا، ولا شك أن الثاني أقبح فقوله: {ويقتلون النبيين بغير الحق} أي أنهم قتلوهم من غير أن كان ذلك القتل حقا في اعتقادهم وخيالهم بل كانوا عالمين بقبحه ومع ذلك فقد فعلوه.
(وثانيها): أن هذا التكرير لأجل التأكيد كقوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به} ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان.
(وثالثها): أن الله تعالى لو ذمهم على مجرد القتل لقالوا: أن الله يقتلهم ولكنه تعالى قال: القتل الصادر من الله قتل بحق ومن غير الله قتل بغير حق...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا ضرب آخر مما ذكر الله تعالى به بني إسرائيل في سياق دعوتهم إلى الإسلام قال صاحب الكشاف: كانوا قوما فلاحة فنزعوا إلى عكرهم فأجمعوا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء ا ه وقال الأستاذ الإمام في تفسيره ونقده ورده، ما نصه: فلاحة بتشديد اللام جمع فلاح بمعنى الزراع، وعكرهم بكسر العين أصلهم، وأجم الطعام من باب ضرب وعلم كرهه من المداومة عليه. وهو بيان لما بعثهم على أن يسألوا موسى أن يدعو ربه ليخرج لهم تلك الأشياء التي طلبوها والسبب في جهرهم بذلك وثورتهم عليه كأنه يقول: إن الحامل لهم على ذلك هو تمكن العادة من نفوسهم فلما خرجوا منها وجاءهم ما لم يكونوا يألفون نزعوا إلى ما كانوا قد عودوه من قبل. ولو كان الأمر كما قال لكان في ذلك التماس عذر لهم، ولما عد الله هذا القول في خطاياهم، بل إن السآمة من تناول طعام واحد قد يكون من لوازم الطباع البشرية إلا ما شذ منها لعادة أو ضرورة ولا يعد ما هو من منازع الطباع جرما إذا لم يسقط ذلك في محظور. وسياق الآيات قبلها وما يلحق بعد ذلك من قوله تعالى {وإذ أخذنا ميثاقكم} الخ كل ذلك يدل على أن ما عدد من أفاعيلهم مع تضافر الآيات بين أيديهم وتوارد نعم الله عليهم كله من خطاياهم، ومن ذلك قوله تعالى {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبث الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها} ويؤكد ذلك إيراد تلك العقوبة الشديدة من ضرب الذلة والمسكنة واستحقاق غضب الله تعالى عقب مقالهم هذا.
والذي يقع عليه الفهم من الآية أن النزق قد استولى على طباعهم وملك البطر أهواءهم حتى كانوا يستخفون بذلك الأمر العظيم الذي هيأهم الله له من التمكن في الأرض الموعودة والخروج من الخسف الذي كانوا فيه. ومع كثرة ما شاهدوا من آيات الله القائمة على صدق وعده لهم لم تستيقنه أنفسهم، بل كانوا على ريب منه، وكانوا يظنون أن موسى عليه السلام خدعهم بإخراجهم من مصر وجاء بهم في البرية ليهلكهم، فلذلك دأبوا على إعناته والإكثار من الطلب فيما يستطاع وما لا يستطاع حتى ييأس منهم فيرتد بهم إلى مصر حيث ألفوا الذلة ولهم مطمع في العيش وأمل في الخلاص من الهلكة، فما ذكره الله عنهم في هذه الآية على حد قولهم {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} ويرشد إلى ما فيه من الإعنات قولهم: {لن نصبر على طعام واحد}. فقد عبر عن مسألتهم بما فيه حرف النفي الذي يأتي لسلب الفعل في مستقبل الزمان مع تأكيده فكأنهم قالوا: اعلم أنه لم يبق لك أمل في بقائنا معك على هذه الحالة من التزام طعام واحد فإن كانت لك منزلة عند الله كما تزعم فادعه يخرج لنا ما يمكن معه أن نبقى معك إلى أن يتم الوعد الذي وعدك ووعدتنا – وهم يعلمون أنهم كانوا في برية غير منبتة، وربما لم يكن قولهم هذا عن سآمة ولا أجم من وحدة الطعام، ولكنه نزق وبطر كما بينا وطلب للخلاص مما يخشون على أنفسهم. ويؤيد ذلك ما هو معروف في أخباره. ووصفوا الطعام بالواحد مع أنه نوعان – المن والسلوى – لأنهما طعام كل يوم، والعرب تقول لمن يأكل كل يوم عدة ألوان لا تتغير: إنه يأكل من طعام واحد. كأنهم ينظرون إلى أن مجموع الألوان هي غذاؤه الذي لا يتغير فهي غذاء واحد فإذا تغيرت الألوان تغير نوع الغذاء فكان طعاما متعددا.
والبقل من النبات ما ليس بشجر دقّ ولا جل كما ذكره ابن سيده. وقال أبو حنيفة ما ينبت في بزرة ولا ينبت في أرومة ثابتة. وفرق ما بين البقل ودق الشجر أن البقل إذا رعي لم يبق له ساق، والشجر تبقى له سوق وإن دقت.
وأرادوا من البقل ما يطعمه الإنسان من أطايب الخضر... والقثاء هي أخت الخيار...
{قال} موسى عليه السلام تقريعا لهم على أشرهم وإنكارا لتبرمهم {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟} أي أتطلبون هذه الأنواع الخسيسة بدل ما هو خير منها وهو المن والسلوى؟ والمن فيه الحلاوة التي تألفها أغلب الطباع البشرية والسلوى من أطيب لحوم الطير وفي مجموعها غذاء تقوم به البنية وليس فيما طلبوه ما يساويهما لذة وتغذية. أقول: والأدنى في اللغة الأقرب، واستعير للأخس والأدون كما استعير البعد للرفعة. والاستبدال طلب شيء بدل من آخر، والباء تدخل المبدل منه المراد تركه. ثم قال {اهبطوا مصرا} من الأمصار {فإن لكم ما سألتم} أي فإنكم إن هبطتموه ونزلتموه وجدتم فيه ما سألتم. أما هذه الأرض التي قضى الله أن تقيموا فيها إلى أجل محدود فليس من شأنها أن تنبت هذه البقول وإن الله جل شأنه لم يقض عليكم بالتيه في هذه البرية إلا لجبنكم وضعف عزائمكم عن مغالبة من دونكم من أهل الأمصار، فلو صح ما تزعمون من كراهتكم للطعام الواحد فأنتم الذين قضيتم به على أنفسكم بما فرط منكم. فإن أردتم الخلاص مما كرهتم فأقدموا على محاربة من يليكم من سكان الأرض الموعودة، فإن الله كافل لكم النصر عليهم، وعند ذلك تجدون طلبتكم فالتمسوا الخير في أنفسكم وفي أفعالكم فإن الله لا يضيع أجر العاملين.
قال تعالى {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} الذلة والذل خلق خبيث من أخلاق نفس الإنسان يضاد الإباء والعزة، وأصل المادة فيه معنى اللين. فالذل بالكسر اللين وبالضم والكسر ضد الصعوبة، وإذا تتبعت المادة وجدتها لا تخلو من هذا المعنى. صاحب هذا الخلق لين ينفعل لكل فاعل، ولا يأبى ضيم ضائم. غير أن هذا الخلق الذي يهون على النفس قبول كل شيء لا يظهر أثره غالبا على البدن وفي القول إلا عند الاستدلال والقهر، وكثيرا ما ترى الأذلاء تحسبهم أعزاء، يختالون في مشيتهم من الكبرياء، ويباهون بما لهم من سلف وآباء، وربما فاخروا من لا يخشون سطوته من الكبراء.
وإذا ما خلا الجبان بأرض***طلب الطعن وحده والنزالا
ولكن متى شعر الذليل بنية من نفس القاهر أو طاف بذهنه خيال يد تمتد إليه استخذى واستكان، وظهر السكون على بدنه، واشتمل الخشوع على قوله وفعله، وهذا الأثر الذي يسطع من النفس على البدن هو الذي يسمى المسكنة. وإنما سمي الفقر مسكنة لأن العائل المحتاج تضعف حركته ويذهب نشاطه فهو بعدم ما يسد عوزه كأنه يقرب من عالم الجماد، فلا تظهر فيه حاجة الاحياء فيسكن. والمشاهدة ترشدنا إلى تحقيق ما عليه أهل المسكنة في أوضاع أعضائهم، وما يبدو على وجوههم، وما طبع في أقوالهم وأعمالهم. فضرب الذلة والمسكنة على اليهود هو جعل الذل وضعف العزيمة محيطين بهم كما تحيط القبة المضروبة بمن فيها. أو إلصاقهما بطباعهم كما تطبع الطغرى على السكة.
{وباؤوا بغضب من الله} أي رجعوا به كما يقال رجع أو عاد بصفقة المغبون – إذا كان ذلك آخر شوطه ومنتهى سعيه. وكذلك كان آخر أطوار اليهود في بغيهم أيام ملكهم. والمراد به فقد الملك وما يتبعه. وقال شيخنا استحقوا غضبه ومن استحقه فقد أصابه، فقد غضب الله عليهم، وتنكير الغضب دلالة على أنه نوع عظيم من سخطه جل شأنه.
{ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله} (أقول) أي ذلك العقاب بضرب الذلة والمسكنة وبالغضب الإلهي بسبب ما جروا عليه من الكفر بآيات الله الخ فإنهم بإحراجهم لموسى عليه السلام وإعناتهم له في المطالب، مع كثرة ما شاهدوا من العجائب، وما أظهر الله لهم من الغرائب، قد دلوا على أن لا أثر للآيات في نفوسهم، فهم بها كافرون في الحقيقة. ونسيان الآيات وعدها كأن لم تكن يعده الكتاب العزيز كفرا كما قال شيخنا.
{ويقتلون النبيين بغير الحق} مع أن الكتاب يحرم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عنهم إلا بحقه المبين فيه، كل ذلك دل فيهم على طباع بعيدة عن الكرم، وقلوب غلف دون الفهم، ومن كان هذا شأنه فالأجدر به أن يكون ذليلا مقهورا، ثم هو مهبط غضب الله ومحط نقمه، لأنه أشد الناس كفرا لنعمه، وقوله {بغير الحق} مع أن قتل النبيين لا يكون إلا كذلك يزيد في شناعة حالهم، ويصرح بأنهم لم يكونوا مخطئين في الفهم، ولا متأولين للحكم، بل ارتكبوا هذا الجرم العظيم عامدين، وهم يعلمون أنهم بارتكابه مخالفون لما شرع الله تعالى لهم في كتاب دينهم.
{ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} قال الأستاذ: ذلك الذل وتلك الخلاقة بالغضب إنما لزماهم لأنهم عصوا الله فيما أمرهم أن يأخذوا به من الأحكام، ولأنهم اعتدوا تلك الحدود التي حدها الله لهم في شرائع أنبيائهم، وقد كانت تلك الأحكام والحدود هي الوسيلة لإخراجهم من الذل وتمكين العز والسلطان لهم في الأرض الموعودة لأنها كانت الكافلة بنظامهم، الحافظ لبناء جماعتهم، فإذا أهملوها فسدت ألفتهم، وانهدم بناؤهم، وأسرعت إليهم الذلة التي لم تكن فارقتهم، إلا منهزمة من يدي سلطان الشريعة، ولم يكن يصدها عنهم إلا معاقل النظام تحت رعايته، ولزمتهم الذلة والمسكنة بعد هذا لزوم الطابع للمطبوع.
والمتبادر وعده الأستاذ احتمالا أن ترجع الإشارة في (ذلك) إلى الثاني أي الكفر بآيات الله وقتل النبيين. أي إن كفرهم وجراءتهم على النبيين بالقتل إنما منشؤها عصيانهم واعتداؤهم حدود دينهم، لأن الذي يدين بدين أو شريعة أيا كانت يتهيب لأول الأمر مخالفتها، فإذا خالفها لأول مرة تركت المخالفة أثرا في نفسه، وضعفت هيبة الشريعة في نظره، فإذا عاد زاد ضعف سلطة الشريعة على إرادته، ولا يزال كذلك حتى تصير المخالفة طبعا ورينا، وينسى ما قام على الشريعة من دليل وما كان لها من سيطرة، ويضرى بالعدوان، كما يضرى الحيوان بالافتراس وكل عمل يسترسل فيه العامل تقوى ملكته فيه خصوصا ما اتبع فيه الهوى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد كانوا بين الصحراء بجدبها وصخورها، والسماء بشواظها ورجومها. فأما الحجر فقد أنبع الله لهم منه الماء، وأما السماء فأنزل لهم منها المن والسلوى: عسلا وطيرا.. ولكن البنية النفسية المفككة، والجبلة الهابطة المتداعية، أبت على القوم أن يرتفعوا إلى مستوى الغاية التي من أجلها أخرجوا من مصر، ومن أجلها ضربوا في الصحراء.. لقد أخرجهم الله -على يدي نبيهم موسى- عليه السلام -من الذل والهوان ليورثهم الأرض المقدسة، وليرفعهم من المهانة والضعة.. وللحرية ثمن، وللعزة تكاليف، وللأمانة الكبرى التي ناطهم الله بها فدية. ولكنهم لا يريدون أن يؤدوا الثمن، ولا يريدون أن ينهضوا بالتكاليف، ولا يريدون أن يدفعوا الفدية. حتى بأن يتركوا مألوف حياتهم الرتيبة الهينة. حتى بأن يغيروا مألوف طعامهم وشرابهم، وأن يكيفوا أنفسهم بظروف حياتهم الجديدة، في طريقهم إلى العزة والحرية والكرامة. إنهم يريدون الأطعمة المنوعة التي ألفوها في مصر. يريدون العدس والثوم والبصل والقثاء.. وما إليها! وهذا ما يذكرهم القرآن به. وهم يدعون في المدينة دعاواهم العريضة:
(وإذ قلتم: يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. قال: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم.. وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)..
ولقد تلقى موسى- عليه السلام -طلبهم بالاستنكار:
(أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟)..
أتريدون الدنية وقد أراد الله لكم العلية؟
(اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم)..
إما بمعنى أن ما يطلبونه هين زهيد، لا يستحق الدعاء؛ فهو موفور في أي مصر من الأمصار، فاهبطوا أية مدينة فإنكم واجدوه فيها.. وإما بمعنى عودوا إذن إلى مصر التي أخرجتم منها.. عودوا إلى حياتكم الدارجة المألوفة. إلى حياتكم الخانعة الذليلة.. حيث تجدون العدس والبصل والثوم والقثاء! ودعوا الأمور الكبار التي ندبتم لها.. ويكون هذا من موسى- عليه السلام -تأنيبا لهم وتوبيخا.
وأنا أرجح هذا التأويل الذي استبعده بعض المفسرين، أرجحه بسبب ما أعقبه في السياق من قوله تعالى:
(وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله)..
فإن ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وعودتهم بغضب الله، لم يكن- من الناحية التاريخية -في هذه المرحلة من تاريخهم؛ إنما كان فيما بعد، بعد وقوع ما ذكرته الآية في ختامها: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).
وقد وقع هذا منهم متأخرا بعد عهد موسى بأجيال. إنما عجل السياق بذكر الذلة والمسكنة والغضب هنا لمناسبته لموقفهم من طلب العدس والبصل والثوم والقثاء! فناسب أن يكون قول موسى لهم، (اهبطوا مصرا) هو تذكير لهم بالذل في مصر، وبالنجاة منه، ثم هفوة نفوسهم للمطاعم التي ألفوها في دار الذل والهوان!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يؤخذ من كلام المفسرين... أن سؤالهم تعويض المن والسلوى بالبقل ونحوه معصية لما فيه من كراهة النعمة التي أنعم الله بها عليهم، إذ عبروا عن تناولها بالصبر والصبر هو حمل النفس على الأمر المكروه، ويدل لذلك أنه أنكر عليهم بقوله: {أتستبدلون الذي هو أدنى}...
فالذي عندي في تفسير الآية أنها انتقال من تعداد النعم المعقبة بنعم أخرى إلى بيان سوء اختيارهم في شهواتهم، والاختيار دليل عقل اللبيب، وإن كان يختار مباحاً، مع ما في صيغة طلبهم من الجفاء وقلة الأدب مع الرسول ومع المنعم إذ قالوا: {لن نصبر} فعبروا عن تناول المن والسلوى بالصبر المستلزم الكراهية وأتوا بما دل عليه {لن} في حكاية كلامهم من أنهم لا يتناولون المن والسلوى من الآن فإن {لن} تدل على استغراق النفي لأزمنة فعل {نصبر} من أولها إلى آخرها وهو معنى التأبيد وفي ذلك إلجاء لموسى أن يبادر بالسؤال يظنون أنهم أيأسوه من قبول المن والسلوى بعد ذلك الحين، فكان جواب الله لهم في هذه الطلبة أن قطع عنايته بهم وأهملهم ووكلهم إلى نفوسهم ولم يُرهم ما عودهم من إنزال الطعام وتفجير العيون بعد فلق البحر وتظليل الغمام بل قال لهم:
{اهبطوا مصراً} فأمرهم بالسعي لأنفسهم وكفى بذلك تأديباً وتوبيخاً. قال الشيخ ابن عطاء الله رحمه الله: من جهل المريد أن يسيء الأدب فتؤخر العقوبة عنه فيقول لو كان في هذا إساءة لعوقبت فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر ولو لم يكن إلا منع المزيد، وقد يقام مقام البعد من حيث لا يدري، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد. والمقصد من هذا أن ينتقل من تعداد النعم إلى بيان تلقيهم لها بالاستخفاف، لينتقل من ذلك إلى ذكر انقلاب أحوالهم وأسباب خذلانهم، وليس شيء من ذلك بمقتضى كون السؤال معصية؛ فإن العقوبات الدنيوية وحرمان الفضائل ليست من آثار خطاب التكليف، ولكنها من أشباه خطاب الوضع، ترجع إلى ترتب المسببات على أسبابها، وذلك من نواميس نظام العالم، وإنما الذي يدل على كون المجزي عليه معصية، هو العقاب الأخروي.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن بني إسرائيل شأنهم دائما ألا يستقروا، بل هم في تململ مستمر، ولا يهمهم إلا الطعام والشراب؛ ولذا قالوا لموسى عليه السلام الذي ابتلى بهم: {يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.
كان اليهود (لعنهم الله) لا يهمهم إلا ما يطعمون، فسألوا الأكل أولا ثم سألوا الماء ثانيا، ثم سألوا تلون الأطعمة، ولم يفكروا في أمر معنوي، لم يفكروا في العزة بعد الذلة، ولا في النجاة بعد القتل، ولا في المعاني الروحية التي جاء بها موسى عليه السلام، ولا في الإيمان بعد الكفر، ولا في الرفعة بعد الحطة.
لم يفكروا في شيء من هذا إنما فكروا في الطعام وألوانه، لم يطلبوا الهداية، ولكن طلبوا ألوان الطعام، وقال تعالى عنهم: {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد} والمعنى: اذكروا معشر الحاضرين ما قلتم أنتم وأسلافكم، ولا تفكير لكم في جهاد تجاهدونه، ولكن في طعام تأكلونه، نادوا موسى وهو لهم كالأم الرؤوم: {يا موسى لن نصبر على طعام واحد} وهو المن والسلوى... إن الرجل المادي يسأم ما يقدم له كل يوم، ولو كان أشهى، وقالوا يائسين من أن يرضوا: لن نصبر على طعام، فأكدوا النفي ب "لن"، ودلوا على تململهم بقولهم: "لن نصبر"، أي لن نستطيع أن نضبط أنفسنا فنحملها على الرضا بطعام واحد.
ورتبوا على نفيهم الصبر نفيا مؤكدا قولهم: {فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها}، الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر دل عليه قولهم لن نصبر تقديره؛ فإذا كنا لا نصبر، {فادع لنا ربك} ومعناه اضرع إلى ربك الذي خلقك وربك لا إلى أن يهدينا بل إلى أن يخرج لنا مما تنبت الأرض، وقوله "يخرج "في معنى جواب الأمر، أي إن تدع ربك فإنه يخرج لنا، فهم لتلهفهم على ما يأكلون افترضوا أن الدعاء قد وقع، وافترضوا أن إجابة الدعاء قد تمت، فقالوا هذا الكلام الدال على رغبتهم في الإجابة السريعة...
ولكن موسى عليه السلام لم يسارع بالدعوة التي طلبوها، ولم تكن الإجابة التي رغبوها لإشباع نهمتهم، بل ذاكرهم فيما يطلبون، وبين لهم أنهم يطلبون غير الحسن ويتركون الحسن، فقال لهم: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}، أي أتتركون الخير، وتطلبون بدلا منه الذي هو أدنى منه وإن كان من نعمة الله تعالى.
وعبر عن الذي طلبوه بأنه هو الذي أدنى في الرتبة والمنزلة الغذائية وأنه خلق كذلك، وإن كان نعمة في ذاته ولكن رتبته دون ما أنتم فيه، وعبر بقوله تعالى: {الذي هو أدنى} أي أنه في ذاته دان في رتبته ولا يعلو عنها ولا يصل إلى الذي هو خير في ذاته، وثابت على الخيرية؛ لا يزيل صفة الخيرية ما تطلبون.
والأدنى معناه القريب، ولما كان القريب سهل التناول، والبعيد صعب التناول أطلق الأدنى على كل أمر يسهل الحصول عليه وفي العادة لا يكون ذا منزلة.
والسؤال استفهامي تقريري لإنكار الواقع، أي فيه معنى التوبيخ، لأنهم في نعمة بالطعام الطيب الذي يجيء من غير كد ولا لغوب، وهو المن والسلوى، ولأنهم في مكان من العزة والنعمة يحمدون الله تعالى عليهما، ولا يفكرون في شهوة البطن مع هذه العزة إن كانوا أعزة كراما.
ولقد قال موسى كما أخبر ربه: {اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} ويفيد ذلك ضمنا بأن موسى لم يدع ربه كما طلبوا ولكن بين لهم المكان الذي يرون فيه ذلك، وعبر بقوله: {اهبطوا مصرا}؛ لأن فيه إشارة إلى أنهم ينزلون من منزلة مرتفعة العزة والرفعة إلى مكان دون ذلك؛ لأن الهبوط نزول من مرتفع إلى منخفض، وهم ينزلون من العزة، وضيافة الله تعالى إلى حيث يشبعون بطونهم ويرضون أهواءهم، وبذلك استبدلوا الخبيث بالطيب.
وقوله: {اهبطوا مصرا} بالتنكير يجعلنا نفكر أهي مصر التي اضطهدوا فيها، وذبحت أبناءهم، واستحيت نساءهم، أم مصر فيه ريف وأرض طيبة زارعة منتجة ما يريدون من فوم وقثاء وعدس وبصل.
إن التنكير يفيد أي مصر فيها زرع وثمار، ولكن الكثيرين من المفسرين يذكرون أنها مصر التي أخرجوا منها والتي أرهقوا في حياتهم فيها، ومع ذلك لم يذكر أنهم عادوا إلى أرض مصر، وموسى بينهم؛ ولذا نرجح أن موسى عليه السلام طلب إليهم أن ينزلوا من علياء الضيافة الربانية والعزة الإلهية وأن يشبعوا شهواتهم في أي مصر فيه الريف وما تنبت الأرض من زروع وعيون بدل عزة الصحراء.
بعد هذا يئس موسى من إصلاحهم.. أراد أن يربيهم على الوحدانية فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.. وأراد موسى عليه السلام، أن يبعدهم عن فرعون وقومه، وأن يخلصهم من أوهامهم، فانتهزوا غيبته، واتخذوا العجل، وعبدوه.. وطلب إليهم أن يقتلوا منابع الأهواء والشهوات في نفوسهم فتابوا وقبل الله تعالى توبتهم.. ولما أراد الله تعالى أن يختبر نفوسهم فأمرهم أن يدخلوا القرية ساجدين، ويطلبوا ضارعين إليه أن يحط عنهم ذنوبهم، (دخلوا على أستاههم طالبين الحنطة).
طلب الله تعالى إليهم كل ذلك، ولكن نفوسهم طبعت على الأهواء والشهوات والأوهام فتركهم الله تعالى لتؤدي هذه الأخلاق إلى ما تنتهي إليه، وهو الذلة، فما أذل النفوس كالشهوات والأهواء، وإذا هانت النفوس ذلت، وإذا سيطرت عليها الأهواء خنعت، ولا يورث في النفس المذلة إلا المطامع.
ولذا قال تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} أي أحاطت بهم المذلة لا يخرجون من دائرتها، بل يتنقلون في دائرتها؛ ينتقلون فيها من جانب إلى جانب، ولا يخرجون منها، فصارت حالهم في ذلتهم، كحال من ضربت عليهم قبة لا يخرجون منها، ولذلك عبر بضربت عليهم، والمسكنة هي الخضوع والاستسلام للوهن والضعف، وهي لازمة للذلة، فحيث كانت الذلة كانت المسكنة، والخضوع للظالم، ولا يرضون إلا بالذل، ولا يقبلون غيره، فإن النفس إذا ألفت الذل، واستمرأته، ترضى بكل من يذلها وتسكن خاضعة له.
فالمسكنة مصدر ميمي على وزن مفعلة معناه الخضوع المطلق والرضا بالظلم، أو الظهور بمظهر قبوله، وهو السكون ممن لا يجابهون أهل الباطل بقولهم الحق يصك آذانهم صكا.
هذه الأخلاق هي نتيجة لسيطرة الأهواء والشهوات، وهي الداء الذي يصحب من يعيشون في خصيب الأرض ولين العيش، ويفكهون في ملاذ الدنيا، ويستمرئون البقاء فيها.
ولقد قرر الله تعالى عقوبة لذوي الضمائر الفاسدة، وهي أنهم يرجعون بغضب الله تعالى، فهم مطرودون من رحمة الله تعالى، فمعنى {وباءوا بغضب من الله} أي أنهم رجعوا مصاحبين غضب الله تعالى ملازما لهم لا ينفكون عن الغضب، بل إنه يلازمهم في كل أدوار حياتهم.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الغضب الذي لازمهم بعد أن طردهم من رحمته، وأنهم لا يستحقونها، ذكر سبحانه وتعالى السبب في ذلك فقال تعالت كلماته: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق}.
الإشارة إلى ما أنزله الله تعالى عليهم من الذلة والمسكنة وأنهم أبعدوا عن رحمة الله مصحوبين بغضبه وقد لبسهم غضب الله تعالى، ومعه الخزي والعار.
قال سبحانه في سبب ذلك: {بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله} آيات الله تعالى المعجزات الدالة على رسالة موسى، وهي في ذاتها نفع لهم، أنجاهم من فرعون الذي كان يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إذ ضرب البحر بعصاه عليه السلام ففرقت البحر ونجا بنو إسرائيل وأغرق الله تعالى فرعون، وأنه أنزل عليهم المن والسلوى إلى آخر آيات الله التي كانت نعما عليهم ومعجزات دالة على نبوة موسى عليه السلام، والتعبير منه سبحانه وتعالى بقوله: {بأنهم كانوا يكفرون} بيان لاستمرار كفرهم، وتكرره بتكرار آياته، فإن "كانوا" دالة على الاستمرار، والتعبير بالمضارع للدلالة على تكرار الكفر بتكرار الآيات، فما جاءتهم آية إلا كفروا بها، وهي باهرة تتضمن نعمة أنعم بها سبحانه وتعالى بها عليهم، فاجتمع فيهم كفر الإيمان بالكفر بدلائله، وكفر النعمة بعدم شكرها، وشكر المنعم واجب بحكم العقل والشرع، وما جرى عليه الناس، ويجرون عليه إلى يوم القيامة.
وقد ذكر سبحانه وتعالى جريمة ثانية إيجابية فالجرائم السابقة كلها سلبية، الكفر سلب، وعدم شكر الله تعالى حيث يجب الشكر جريمة سلبية أيضا، أما الجريمة الايجابية فهي قتلهم الأنبياء بغير حق، فهم لا يكتفون بعصيان الله تعالى وكفرهم بآياته، بل يزيدون على ذلك لإمعانهم في الضلال بقتلهم النبيين الصديقين الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى لهدايتهم ودعوتهم إلى الحق كما قتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام.
ويظهر أنهم لم يقتلوا واحدا، بل كانوا يقتلون النبيين كلما خالفوهم لا يرعون مقامهم من الله تعالى، ولذلك كان التعبير بالمضارع الدال على التكرار، وكأن قتل النبيين كان عادة لهم وشأنا من شئونهم لتغلغل الكفر والعصيان في نفوسهم، واستمرائهم الباطل والعصيان؛ ولذلك علل تعالى تكرار كفرهم للآيات، وقتلهم للأنبياء بقوله: {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)}.
وقوله تعالى في وصف قتلهم للأنبياء بأنه بغير الحق، وصف لإفادة عتوهم وكفرهم لا لبيان أن القتل للنبيين قد يكون بحق، بل لبيان أن فعلهم إثم وليس له مبرر، وأن كونه بغير الحق للتشنيع على فعلهم، وقبح تصرفاتهم، وقد علل تعالى كما تلونا بأن ذلك كان بعصيانهم واعتدائهم.
{ذلك بما عصوا} أي ذلك الجرم الذي ارتكبوه سببه أنهم عصوا؛ أي أن نفوسهم تمردت واستمرأت العصيان، وأنها أظلمت بتراكم المعاصي حتى استمرأتها، وهل يصدر من النفوس المظلمة إلا ما يكون فسادا وشرا؟! ويصلون إلى أقبح أنواع الشرور، وهو قتل الهداة أحباب الله تعالى وهم الأنبياء.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن ذلك لمجرد الاعتداء، فهم في طبيعتهم العدوان؛ لأن المعصية إذا استمرت ولجوا في العصيان، وسيطرت الأثرة عليها يكون من آثارها لا محالة الاعتداء، الاعتداء في طلب الأشياء، والاعتداء بسيطرة الأهواء والشهوات، والاعتداء بقتل الأنبياء، فالاعتداء والعصيان من شئونهم، وهكذا هم بلاء هذا الوجود.