{ 19 - 22 ْ } { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
لما اختلف بعض المسلمين ، أو بعض المسلمين وبعض المشركين ، في تفضيل عمارة المسجد الحرام ، بالبناء والصلاة والعبادة فيه وسقاية الحاج ، على الإيمان باللّه والجهاد في سبيله ، أخبر اللّه تعالى بالتفاوت بينهما ، فقال : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ } أي : سقيهم الماء من زمزم كما هو المعروف إذا أطلق هذا الاسم ، أنه المراد { وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ }
فالجهاد والإيمان باللّه أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بدرجات كثيرة ، لأن الإيمان أصل الدين ، وبه تقبل الأعمال ، وتزكو الخصال .
وأما الجهاد في سبيل اللّه فهو ذروة سنام الدين ، الذي به يحفظ الدين الإسلامي ويتسع ، وينصر الحق ويخذل الباطل .
وأما عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج ، فهي وإن كانت أعمالا صالحة ، فهي متوقفة على الإيمان ، وليس فيها من المصالح ما في الإيمان والجهاد ، فلذلك قال : { لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : الذين وصفهم الظلم ، الذين لا يصلحون لقبول شيء من الخير ، بل لا يليق بهم إلا الشر .
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها : ما رواه مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر النبى - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه فقال رجل : ما أبالى لا أعمل عملا بعد الإِسلام إلا أن أسقى الحاج . وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبى - صلى الله عليه وسلم - وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستنفيته فيما اختلفتم فيه . فأنزل الله . تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج . . . . } الآية .
وأخرج ابن جرير عن عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج } : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك . فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام . ونفك العانى ، ونحجب البيت ، ونسقى الحاج فأنزل الله . تعالى . : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج . . } .
وقال صاحب المنار ، بعد أن ساق عدداً من الروايات في سبب نزول هذه الآيات . والمعتمد في هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده ، وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجابه . من أعمال البر الهينة المسلتذلة . وبين الإِيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة وهى أشق العبادات البدنية والمالية .
والسقاية والعمارة : مصدران من سقى وعمر . يتخفيف الميم .
والمراد بسقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء ، وكان العباس . رضى الله عنه . هو الذي يتولى إدارة هذا العمل .
قال الجمل : السقاية هي المحل الذي يتخذ فيه الشراب في الموسم . كان يشترى الزبيب فينبذ في ماء زمزم ويسقى للناس ، وكان يليها العباس جاهلية وإسلاماً ، وأقرها النبى - صلى الله عليه وسلم - له . . ويظهر أن المراد بها هنا المصدر . أى إسقاء الحجاج وإعطاء الماء لهم .
والمراد بعمارة المسجد الحرام : ما يشمل العبادة فيه ، وإصلاح بنائه ، وخدمته ، وتنظيفه . . . كما سبق أن بينا .
والهمزة في قوله . { أَجَعَلْتُمْ } للاستفهام الإِنكارى المتضمن معنى النهى .
والكلام على حذف مضاف ، لأن العمارة والسقاية مصدران ولا يتصور تشبيههما بالأعيان ، فلا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين حتى يتأتى التشبيه والمعنى : أجلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ، وجاهد في سبيل الله ؟ ويؤديه قراءة { أَجَعَلْتُمْ سُقَايَةَ الحاج } بضم السين . جمع ساق . { وعمرة المسجد الحرام } بفتح العين والميم جمع عامر .
وعلى هذا المعنى يكون التقدير في جانب الصفة ، ويجوز أن يكون التقدير في جانب الذات فيكون المعنى .
أجعلتموهما ، أى السقاية والعمارة . كإيمان من آمن وجهاد من جاهد ؟ والخطاب يشمل بعض المؤمنين الذين آثروا السقاية والعمارة على الجهاد كما جاء في حديث النعمان . كما يشمل المشركين الذين كانوا يتفاخرون بأنهم سقاة الحجيج ، وعمارة المسجد الحرام .
والمقصود من الجملة الكريمة إنكار التسوية بين العملين وبين الفريقين . وقد جاء هذا الانكار صريحاً في قوله تعالى . { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله } .
أى : لا يساوى الفريق الأول الثانى في حكم الله ، إذ أن الفريق الثانى له بفضل إيمانه الصادق . وجهاده الخالص الأجر الجزيل عند الله .
فالجملة الكريمة مستأنفة لتقرير الانكار المذكور وتأكيده ثم ختم - سبحانه . الآية الكريمة بقوله . { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } .
أى . والله تعالى . لا يوفق القوم الظالمين إلى معرفة الحق ، وتمييزه من الباطل ، لأنهم قد آثروا الشر على الخير والضلالة على الهداية .
{ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله } السقاية والعمارة مصدر أسقى وعمر فلا يشبهان بالجثث بل لا بد من إضمار تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن ، أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن . ويؤيد الأول قراءة من قرأ " سقاة الحاج وعمرة المسجد " والمعنى إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة ثم قرر ذلك بقوله : { لا يستوُون عند الله } وبين عدم تساويهم بقوله : { والله لا يهدي الظالمين } أي الكفرة ظلمة بالشرك ومعاداة الرسول عليه الصلاة والسلام منهمكون في الضلالة فكيف يساوون الذين هداهم الله ووفقهم للحق والصواب ، وقيل المراد بالظالمين الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين .
وقرأ الجمهور «أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام » وقرأ ابن الزبير{[5560]} وأبو وجزة{[5561]} ومحمد بن علي وأبو جعفر القاري{[5562]} «أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام »{[5563]} ، وقرأها كذلك ابن جبير إلا أنه نصب «المسجدَ » على إرادة التنوين في «عمرة » وقرأ الضحاك وأبو وجزة وأبو جعفر القاري «سُقاية الحاج » بضم السين{[5564]} «وعمرة » ، فأما من قرأ «سقاية وعمارة » ففي الكلام عنده محذوف إما في أوله وإما في آخره فإما أن يقدر «أجعلتم أهل سقاية » وإما أن يقدر كفعل من آمن بالله . وأما من قرأ «سقاة » و «عمرة » فنمط قراءته مستو ، وأما قراءة الضحاك فجمع ساق إلا أنه ضم أوله كما قالوا عرف وعُراف وظئر وظُؤار{[5565]} ، وكان قياسه أن يقال سقاء وإن أنث كما أنث من الجموع حجارة وغيره . فكان القياس سقية من أول مرة على التأنيث قاله ابن جني ، و { سقاية الحاج } كانت في بني هاشم وكان العباس يتولاها ، قال الحسن : ولما نزلت هذه الآية قال العباس : ما أراني إلا أترك السقاية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أقيموا عليها فإنها لكم خير »{[5566]} ، { وعمارة المسجد } قيل هي حفظه من الظلم فيه ويقال هجراً ، وكان ذلك إلى العباس ، وقيل هي السدانة خدمة البيت خاصة ، وكانت في بني عبد الدار وكان يتولاها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الدار ، وشيبة بن عثمان بن أبي طلحة المذكور هذان هما اللذان دفع إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة في ثاني يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعلي رضي الله عنهما ، وقال صلى الله عليه وسلم لعثمان وشيبة :
«يوم وفاء وبر خذوها خالدة تالدة لا ينازعكموها إلا ظالم »{[5567]} .
قال القاضي أبو محمد : يعني السدانة واختلف الناس في سبب نزول هذه الآية فقيل إن كفار قريش قالوا لليهود إنَّا نسقي الحجيج ونعمر البيت ، أفنحن أفضل أم محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ؟ فقالت لهم أحبار اليهود بل أنتم ، فنزلت الآية في ذلك ، وقيل إن الكفار افتخروا بهذه الأشياء فنزلت الآية في ذلك ، وأسند الطبري إلى النعمان بن بشير أنه قال : كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، فقال أحدهم ما أتمنى بعد الإسلام إلا أن أكون ساقي الحاج ، وقال الآخر إلا أن أكون خادم البيت وعامره ، وقال الثالث إلا أن أكون مجاهداً في سبيل الله ، فسمعهم عمر بن الخطاب فقال : اسكتوا حتى أدخل على النبي صلى الله ليه وسلم فأستفتيه فدخل عليه فاستفتاه فنزلت الآية في ذلك{[5568]} ، وقال ابن عباس والضحاك : إن المسلمين عيروا أسرى بدر بالكفر فقال العباس بل نحن سقاة الحاج وعمرة البيت فنزلت الآية في ذلك{[5569]} ، وقال مجاهد : أمروا بالهجرة فقال العباس أنا أسقي الحاج وقال عثمان بن طلحة أنا حاجب للكعبة فلا نهاجر فنزلت { أجعلتم سقاية الحاج } إلى قوله { حتى يأتي الله بأمره } ، {[5570]} وقال مجاهد وهذا كله قبل فتح مكة ، وقال محمد بن كعب : إن العباس وعلياً وعثمان بن طلحة تفاخروا فقال العباس أنا ساقي الحاج وقال عثمان أنا عامر البيت ولو شئت بت فيه وقال علي أنا صاحب جهاد الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم والذي آمنت وهاجرت قديما ، فنزلت الآية في ذلك{[5571]} .