{ 15 - 18 } { فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }
أي : لما ذهب إخوة يوسف بيوسف بعد ما أذن له أبوه ، وعزموا على أن يجعلوه في غيابة الجب ، كما قال قائلهم السابق ذكره ، وكانوا قادرين على ما أجمعوا عليه ، فنفذوا فيه قدرتهم ، وألقوه في الجب ، ثم إن الله لطف به بأن أوحى إليه وهو في تلك الحال الحرجة ، { لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } أي : سيكون منك معاتبة لهم ، وإخبار عن أمرهم هذا ، وهم لا يشعرون بذلك الأمر ، ففيه بشارة له ، بأنه سينجو مما وقع فيه ، وأن الله سيجمعه بأهله وإخوته على وجه العز والتمكين له في الأرض .
وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابت الجب وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } .
أى : فلما أقنعوا أباهم بإرسال يوسف معهم ، وذهبوا به في الغد إلى حيث يريدون ، وأجمعوا أمرهم على أن يلقوا به في قعر الجب ، فعلوا به ما فعلوا من الأذى ، ونفذوا ما يريدون تنفيذه بدون رحمة أو شفقة .
فالفاء في قوله فلما : للتفريع على كلام مقدر ، وجواب " لما " محذوف ، دل عليه السياق . وفعل " أجمع " يتعدى إلى المفعول بنفسه ، ومعناه العزم والتصميم على الشئ ، تقول : أجمعت المسير أى : عزمت عزما قويا عليه .
وقوله " أن يجعلوه " مفعول أجمعوا .
قال الآلوسى : " والروايات في كيفية إلقائه في الجب ، وما قاله لإِخوته عند إلقائه وما قالوه له كثيرة ، وقد تضمنت ما يلين له الصخر ، لكن ليس فها ماله سند يعول عليه " .
والضمير في قوله ، وأوحينا إليه يعود على يوسف - عليه السلام - .
أى : وأوحينا إليه عند إلقائه في الجب عن طريق الإِلهام القلبى ، أو عن طريق جبريل - عليه السلام - أو عن طريق الرؤيا الصالحة . { لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا } أى : لتخبرنهم في الوقت الذي يشاؤه الله - تعالى - في مستقبل الأيام ، بما فعلوه معك في صغرك من إلقائك في الجب ، ومن إنجاء الله - لك ، فالمراد بأمرهم هذا : إيذاؤهم له وإلقاؤهم إياه في قعر الجب ، ولم يصرح - سبحانه - به ، لشدة شناعته .
وجملة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حالية ، أى : والحال أنهم لا يحسون ولا يشعرون في ذلك الوقت الذي تخبرهم فيه بأمرهم هذا ، بأنك أنت يوسف . لاعتقادهم أنك قد هلكت ولطول المدة التي حصل فيها الفراق بينك وبينهم ، ولتباين حالك وحالهم في ذلك الوقت ، فأنت ستكون الأمين على خزائن الأرض ، وهم سيقدمون عليك فقراء يطلبون عونك ورفدك .
وقد تحقق كل ذلك - كما سيأتى - عند تفسير قوله تعالى - : { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر . . . } وكان هذ الإِيحاء - على الراجح - قبل أن يبلغ سن الحلم ، وقبل أن يكون نبيا .
وكان المقصود منه ، إدخال الطمأنينة على قلبه ، وتبشيره بما سيصير إليه أمره من عز وغنى وسلطان .
قالوا : وكان هذا الجب الذي ألقى فيه يوسف على بعد ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب - عليه السلام - بفلسطين .
{ فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجبّ } وعزموا على إلقائه فيها ، والبئر بئر بيت المقدس أو بئر بأرض الأردن أو بين مصر و مدين ، أو على ثلاثة فراسخ من مقام يعقوب وجواب لما محذوف مثل فعلوا به ما فعلوا من الأذى . فقد روي ( أنهم لما بروزا به إلى الصحراء أخذوا يؤذونه ويضربونه حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح ويستغيث فقال يهوذا : أما عاهدتموني أن لا تقتلوه فأتوا به إلى البئر ، فدلوه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به إلى أبيهم ، فقال : يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به فقالوا : ادع الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر يلبسوك ويؤنسوك فلما ، بلغ نصفها ألقوه وكان فيها ماء فسقط فيه ، ثم آوى إلى صخرة كانت فيها فقام عليها يبكي فجاءه جبريل بالوحي ) كما قال : { وأوحينا إليه } وكان ابن سبع عشرة سنة . وقيل كان مراهقا أوحي إليه في صغره كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام . وفي القصص : أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب فجعله في تميمة علقها بيوسف فأخرجه جبريل عليه السلام وألبسه إياه { ولتنبئنّهم بأمره هذا } لتحدثنهم بما فعلوا بك { وهم لا يشعرون } إنك يوسف لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم وطول العهد المغير لحلى والهيئات ، وذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر حيين دخلوا عليه ممتارين { فعرفهم وهم له منكرون } . بشره بما يؤول إليه أمره إيناسا له وتطييبا لقلبه . وقيل { وهم لا يشعرون } متصل ب { أوحينا } أي آنسناه بالوحي وهم لا يشعرون ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما ذهبوا به}، بيوسف، {وأجمعوا} أمرهم {أن يجعلوه في غيابت الجب}... فألقوه في الجب... {وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون}، وذلك أن الله أوحى إلى يوسف، عليه السلام، بعدما انصرف إخوته: إنك ستخبر إخوتك بأمرهم هذا الذي ركبوا منك، ثم قال: {وهم لا يشعرون} أنك يوسف حين تخبرهم، فأنبأهم يوسف بعد ذلك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وفي الكلام متروك حذف ذكره اكتفاء بما ظهر عما ترك، وهو: فأرسله معهم، {فلما ذهبوا به}، {وأجمَعُوا}، يقول: وأجمع رأيهم وعزموا على {أنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الجُبّ}...
وقوله: {وأوْحَيْنا إلَيْهِ لَتُنَبّئَنّهُمْ بأمْرِهِمْ}، يقول: وأوحينا إلى يوسف لتخبرنّ إخوتك بأمرهم هذا، يقول: بفعلهم هذا الذي فعلوه بك. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، يقول: وهم لا يعلمون، ولا يدرون.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله عزّ وجلّ بقوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}؛ فقال بعضهم: عُني بذلك: أن الله أوحى إلى يوسف أن يوسف سينبئ إخوته بفعلهم به ما فعلوه من إلقائه في الجبّ، وبيعهم إياه، وسائر ما صنعوا به من صنيعهم، وإخوته لا يشعرون بوحي الله إليه بذلك.
وقال آخرون: معنى ذلك: وأوحينا إلى يوسف بما إخوته صانعون به، وإخوته لا يشعرون بإعلام الله إياه بذلك... وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن يوسف سينبئهم بصنيعهم به وهم لا يشعرون أنه يوسف.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وأوحينا إليه) وحي نبوة أو وحي بشارة النجاة من ذلك الجب أو بشارة الملك له والعز...
(لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) هو قول يوسف حين قال لهم: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ...) [الآية: 89] (قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي) [يوسف: الآية] هذا الذي نبأهم يوسف (وهم لا يشعرون) بذلك...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
حكى الله تعالى أنه لما أذن يعقوب ليوسف في المضي معهم، وذهبوا به "وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب "أي عزموا على فعل ذلك، ولا يقال: أجمع إلا إذا قويت الدواعي إلى الفعل من غير صارف، وأما من دعاه داع واحد فلا يقال فيه أنه أجمع، فكأنه مأخوذ من اجتماع الدواعي، ويجوز أن يكون المراد أنهم اتفقوا على إلقائه في غيابة الجب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا} وإنما أُوحي إليه ليؤنس في الظلمة والوحشة، ويبشر بما يؤول إليه أمره. ومعناه: لتتخلصن مما أنت فيه، ولتحدّثن إخوتك بما فعلوا بك {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنك يوسف لعلوّ شأنك وكبرياء سلطانك، وبعد حالك عن أوهامهم، ولطول العهد المبدّل للهيئات والأشكال...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: إن هذا لكيد عظيم وخطب جسيم، فما فعل أبوهم؟ فقيل: أجابهم إلى سؤلهم فأرسله معهم {فلما ذهبوا} ملصقين ذهابهم {به وأجمعوا} أي كلهم، و أجمع كل واحد منهم بأن عزم عزماً صادقاً؛ والإجماع على الفعل: العزم عليه باجتماع الدواعي كلها {أن يجعلوه} والجعل: إيجاد ما به يصير الشيء على خلاف ما كان عليه، ونظيره التصيير والعمل {في غيابت الجب} فعلوا ذلك من غير مانع، ولكن لما كان هذا الجواب في غاية الوضوح لدلالة الحال عليه ترك لأنهم إذا أجمعوا عليه علم أنهم لا مانع لهم منه؛ ثم عطف على هذا الجواب المحذوف لكونه في قوة الملفوظ قوله: {وأوحينا} أي بما لنا من العظمة {إليه} أي إلى يوسف عليه الصلاة والسلام. ولما كان في حال النجاة منها بعيدة جداً، أكد له قوله: {لتنبئنهم} أي لتخبرنهم إخباراً عظيماً على وجه يقل وجود مثله في الجلالة {بأمرهم هذا} أي الذي فعلوه بك {وهم لا يشعرون} -لعلو شأنك وكبر سلطانك وبعد حالك عن أوهامهم، ولطول العهد المبدل للهيئات المغير للصور والأشكال- أنك يوسف...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلما ذهبوا به} في الغد من ليلتهم التي استنزلوا فيها أباه عن إمساكه عنده {وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب} أي أزمعوه وعزموا عليه عزما إجماعيا لا تردد فيه بعد ما كان من اختلافهم قبل في قتله أو تغريبه، وجواب "لما "محذوف للعلم به مما قبله ومما بعده وتقديره نفذوه بأن ألقوه في غيابة ذلك الجب بالفعل {وأوحينا إليه} عند إلقائه فيه وحيا إلهاميا علم أن منا مضمونه: وربك {لتنبئنهم بأمرهم هذا} معك إذ يظهرك الله عليهم ويذلهم لك ويجعل رؤياك حقا {وهم لا يشعرون} يومئذ بما آتاك الله، أو الآن بما يؤتيك في عاقبة هذه الفعلة التي فعلوها بك، أو بهذا الوحي في الجب وهو المرتبة الأولى من مراتب التكليم الإلهي للأنبياء بعد التمهيد له بالرؤيا الصادقة. وقد هون الله تعالى على يوسف مصيبته به فعلم أنها مصيبة في الظاهر نعمة في الباطن.