وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالا ، وذلك محذور محظور ، لأن المشيئة كلها لله { وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } ولما في ذكر مشيئة الله ، من تيسير الأمر وتسهيله ، وحصول البركة فيه ، والاستعانة من العبد لربه ، ولما كان العبد بشرا ، لا بد أن يسهو{[487]} فيترك ذكر المشيئة ، أمره الله أن يستثني بعد ذلك ، إذا ذكر ، ليحصل المطلوب ، وينفع المحذور ، ويؤخذ من عموم قوله : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } الأمر بذكر الله عند النسيان ، فإنه يزيله ، ويذكر العبد ما سها عنه ، وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله ، أن يذكر ربه ، ولا يكونن من الغافلين ، ولما كان العبد مفتقرا إلى الله في توفيقه للإصابة ، وعدم الخطأ في أقواله وأفعاله ، أمره الله أن يقول : { عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } فأمره أن يدعو الله ويرجوه ، ويثق به أن يهديه لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد . وحري بعبد ، تكون هذه حاله ، ثم يبذل جهده ، ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد ، أن يوفق لذلك ، وأن تأتيه المعونة من ربه ، وأن يسدده في جميع أموره .
قال القرطبى : قال العلماء : عاتب الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذى القرنين : غدا أخبركم بجواب أسئلتكم ، ولم يستثن فى ذلك .
فاحتبس الوحى عنه خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه ، وأرجف الكفار به ، فنزلت عليه هذه السورة مفرِّجة . وأُمِر فى هذه الآية ألا يقول فى أمر من الأمور إنى أفعل غدا كذا وكذا ، إلا أن يعلق ذلك بمشيئة الله - عز وجل - حتى لا يكون محققا لحكم الخبر ، فإنه إذا قال : لأفعلن ذلك ولم يفعل : كان كاذبا ، وإذا قال ، لأفعلن ذلك - إن شاء الله - خرج عن أن يكون محققا للمخبر عنه .
والمراد بالغد : ما يستقبل من الزمان ، ويدخل فيه اليوم الذى يلى اليوم الذى أنت فيه دخولا أوليا . وعبر عما يستقبل من الزمان بالغد للتأكيد .
أى : ولا تقولن - أيها الرسول الكريم - لأجل شئ تعزم على فعله فى المستقبل : إنى فاعل ذلك الشئ غدا ، إلا وأنت مقرن قولك هذا بمشيئة الله - تعالى - وإذنه ، بأن تقول : سأفعل هذا الشئ غدا بإذن الله ومشيئته ، فإن كل حركة من حركاتك - ومن حركات غيرك - مرهونة بمشيئة الله - وإرادته ، وما يتعلق بمستقبلك ومستقبل غيرك من شئون ، هو فى علم الله - تعالى - وحده .
وليس المقصود من الآية الكريمة نهى الإِنسان عن التفكير فى أمر مستقبله ، وإنما المقصود نهيه عن الجزم بما سيقع فى المستقبل ، لأن ما سيقع علمه عند الله - تعالى - وحده .
والعاقل من الناس هو الذى يباشر الأسباب التى شرعها الله - تعالى - سواء أكانت هذه الأسباب تتعلق بالماضى أم بالحاضر أم بالمستقبل ، ثم يقرن كل ذلك بمشيئة الله - تعالى - وإرادته . فلا يقول : سأفعل غدا كذا وكذا لأننى أعددت العدة لذلك ، وإنما يقول : سأفعل غدا كذا وكذا إذا شاء الله - تعالى - ذلك وأراد ، وأن يوقن بأن إرادة الله فوق إرادته ، وتدبيره - سبحانه - فوق كل تدبير .
وكم من أمور أعد الإِنسان لها أسبابها التى تؤدى إلى قضائها . . ثم جاءت إرادة الله - تعالى - فغيرت ما أعده ذلك الإِنسان ، لأنه لم يستشعر عند إعداده للأسباب أن . إرادة الله - تعالى - فوق إرادته ، وأنه - سبحانه - القادر على خرق هذه الأسباب ، وخرق ما تؤدى إليه ، ولأنه لم يقل عندما يريد فعله فى المستقبل ، إن شاء الله .
وقوله : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } تأكيد لما قبله أى : لا تقولن أفعل غدا إلا ملتبسا بقول : إن شاء الله ، واذكر ربك - سبحانه - إذا نسيت تعليق القول بالمشيئة ، أى : عند تذكرك بأنك لم تقرن قولك بمشيئة الله ، فأت بها .
هذا إرشاد من الله لرسوله الله صلوات الله وسلامه عليه ، إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل ، أن يرد ذلك إلى مشيئة الله ، عز وجل ، علام الغيوب ، الذي يعلم ما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه [ قال ]{[18088]} قال سليمان بن داود عليهما السلام : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة - وفي رواية تسعين امرأة . وفي رواية : مائة امرأة - تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله ، فقيل له - وفي رواية : فقال له الملك - قل : إن شاء الله . فلم يقل فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لو قال : " إن شاء الله " لم يحنث ، وكان دركا لحاجته " ، وفي رواية : " ولقاتلوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون{[18089]} {[18090]}
وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى الله عليه وسلم ، لما سئل عن قصة أصحاب الكهف : " غدًا أجيبكم " . فتأخر الوحي خمسة عشر يومًا ، وقد ذكرناه بطوله في أول السورة ، فأغنى عن إعادته .
وقوله : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } قيل : معناه إذا نسيت الاستثناء ، فاستثن عند ذكرك له . قاله أبو العالية ، والحسن البصري .
وقال هشيم ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في الرجل يحلف ؟ قال : له أن يستثني ولو إلى سنة ، وكان يقول : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } في ذلك . قيل للأعمش : سمعته عن مجاهد ؟ قال{[18091]} حدثني به ليث بن أبي سليم ، يرى{[18092]} ذهب كسائي هذا .
ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش ، به{[18093]} .
ومعنى قول ابن عباس : " أنه يستثني ولو بعد سنة " أي : إذا نسي أن يقول في حلفه أو كلامه " إن شاء الله " وذكر ولو بعد سنة ، فالسُّنة له أن يقول ذلك ، ليكون آتيا بسُنَّة الاستثناء ، حتى ولو كان بعد الحنث ، قال ابن جرير ، رحمه الله ، ونص على ذلك ، لا أن يكون [ ذلك ]{[18094]} رافعًا لحنث اليمين ومسقطًا للكفارة . وهذا الذي قاله ابن جرير ، رحمه الله ، هو الصحيح ، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه ، والله أعلم .
وقال عكرمة : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أي : إذا غضبت . وهذا تفسير باللازم .
وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن يحيى الحُلْواني ، حدثنا سعيد بن سليمان ، عن عباد بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس : { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أن تقول : إن شاء الله{[18095]} [ وهذا تفسير باللازم ]{[18096]} .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن الحارث الجُبيلي{[18097]} حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن عبد العزيز بن حُصَيْن ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أن تقول : إن شاء الله .
وروى الطبراني ، أيضًا عن ابن عباس في قوله : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } الاستثناء ، فاستثن إذا ذكرت . وقال : هي خاصة برسول{[18098]} الله صلى الله عليه وسلم ، وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه ثم قال : تَفَرَّد به الوليد ، عن عبد العزيز بن الحصين{[18099]} {[18100]} .
ويحتمل في الآية وجه آخر ، وهو أن يكون الله ، عز وجل ، قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى ؛ لأن النسيان منشؤه من الشيطان ، كما قال فتى موسى : { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] وذكر الله تعالى يطرد الشيطان ، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان ، فذكر الله سبب للذكر{[18101]} ؛ ولهذا قال : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } .
وقوله : { وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } أي : إذا سئُلت عن شيء لا تعلمه ، فاسأل الله فيه ، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد [ في ذلك ]{[18102]} وقيل في تفسيره غير ذلك في تفسيره ، والله أعلم .
قوله : { إلا أن يشاء الله } استثناء حقيقي من الكلام الذي قبله . وفي كيفية نظمه اختلاف للمفسرين ، فمقتضى كلام الزمخشري أنه من بقية جملة النهي ، أي هو استثناء من حكم النهي ، أي لا تقولن : إني فاعل الخ . . . إلا أن يشاء الله أن تقوله . ومشيئة الله تُعلم من إذنه بذلك ، فصار المعنى : إلا أن يأذن الله لك بأن تقوله . وعليه فالمصدر المسبك من { أن يشاء الله } مستثنى من عموم المنهيات وهو من كلام الله تعالى ، ومفعول { يشاء الله } محذوف دل عليْه ما قبله كما هو شأن فِعل المشيئة والتقدير : إلا قولاً شاءه الله فأنت غير منهي عن أن تقوله .
ومقتضى كلام الكسائي والأخفش والفراء أنه مستثنى من جملة { إني فاعل ذلك غداً } ، فيكون مستثنى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم المنهي عنه ، أيْ إلا قولاً مقترناً ب ( إن شاء الله ) فيكون المصدر المنسبك من ( أن ) والفعل في محل نصب على نزع الخافض وهو باء الملابسة . والتقدير : إلا ب ( إن يشاء الله ) أي بما يدل على ذكر مشيئة الله ، لأن ملابسة القول لحقيقة المشيئة محال ، فعلم أن المراد تلبسه بذكر المشيئة بلفظ ( إن شاء الله ) ونحوهِ ، فالمراد بالمشيئة إذن الله له .
وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبيء صلى الله عليه وسلم من ثلاث جهات :
الأولى : أنه أجاب سؤله ، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادة الله مع المكابرين .
الثانية : أنه علمه علماً عظيماً من أدب النبوءة .
الثالثة : أنه ما علمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استئناساً لنفسه أن لا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه ، كيلا يتوهم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله ، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرّم . ومثاله ما في الصحيح : أن حكيم بن حزام قال : " سألت رسول الله فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ، ثم قال : يا حكيم إن هذا المال خَضِرَةٌ حُلوةٌ فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى . قال حكيم : يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأُ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا " . فعلم حكيم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك ليس القصد منه منعه من سُؤْله وإنما قصد منه تخليقه بخلق جميل ، فلذلك أقسم حكيم : أن لا يأخذ عن أحد غير رسول الله شيئاً ، ولم يقل : لا أسألك بعد هذه المرة شيئاً .
فنظم الآية أن اللام في قوله : { لشيء } ليست اللام التي يتعدى بها فعل القول إلى المخاطب بل هي لام العلة ، أي لا تقولن : إني فاعل كذا لأجل شيء تَعِدُ به ، فاللام بمنزلة ( في ) .
و « شيء » اسم متوغل في التنكير يفسره المقام ، أي لشيء تريد أن تفعله .
والإشارة بقوله : { ذلك } عائدة إلى « شيء » . أي أني فاعل الإخبار بأمر يسألونه .
و { غداً } مستعمل في المستقبل مجازاً . وليست كلمة ( غداً ) مراداً بها اليوم الذي يلي يَومه ، ولكنه مستعمل في معنى الزمان المستقبل ، كما يستعمل اليومُ بمعنى زمان الحال ، والأمسُ بمعنى زمن الماضي . وقد جمعها قول زهير :
وأعلمُ عِلم اليوم والأمس قبله *** ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِ
وظاهر الآية اقتصار إعمالها على الإخبار بالعزم على فعل في المستقبل دون ما كان من الكلام إنشاءً مثل الأيمان ، فلذلك اختلف فقهاء الأمصار في شمول هذه الآية لإنشاء الأيمان ونحوها ، فقال جمهورهم : يكون ذكر { إلا أن يشاء الله } حَلاً لعقد اليمين يُسقط وجوب الكفارة . ولعلهم أخذوه من معنى ( شيء ) في قوله : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك } الخ : بحيث إذا أُعقبت اليمينُ بقول ( إلا أن يشاء الله ) ونحوه لم يلزم البر في اليمين . وروى ابن القاسم وأشهب وابنُ عبد الحكم عن مالك أن قوله : { ولا تقولن لشيء إني فاعل } الخ . . إنما قُصد بذلك ذكر الله عند السهو وليس باستثناء . يعني أن حكم الثنيا في الأيمان لا يؤخذ من هذه الآية بل هو مما ثبت بالسنّة . ولذلك لم يخالف مالك في إعمال الثنيا في اليمين ، وهي قول ( إن شاء الله ) . وهذا قول أبي حنيفة والشافعي .
عطف على النهي ، أي لا تَعِدْ بوعد فإن نسيتَ فقلت : إني فاعل ، فاذكر ربك ، أي اذكر ما نهاك عنه .
والمراد بالذكر التدارك وهو هنا مشتق من الذُكر بضم الذال ، وهو كناية عن لازم التذكر ، وهو الامتثال ، كما قال عُمر بن الخطاب رضي الله عنه : « أفْضَلُ من ذكر الله باللسان ذِكْرُ الله عند أمره ونهيه » .
وفي تعريف الجلالة بلفظ الرب مضافاً إلى ضمير المخاطب دون اسم الجلالة العَلَم من كمال الملاطفة ما لا يخفى .
وحُذف مفعول { نسيت } لظهوره من المقام ، أي إذا نسيت النهي فقلت : إني فاعل . وبعض الذين أعْملوا آية { إلا أن يشاء الله } في حل الأيمان بذكر الاستثناء بمشيئة الله جعلوا قوله : { واذكر ربك إذا نسيت } ترخيصاً في تدارك الثنيا عند تذكر ذلك ، فمنهم من لم يحد ذلك بمدة . وعن ابن عباس : لا تحديد بمدة بل ولو طال ما بين اليمين والثنيا . والجمهور على أن قوله : { واذكر ربك إذا نسيت } لا دلالة فيه على جواز تأخير الثنيا ، واستدلوا بأن السنّة وردت بخلافه .
{ وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا }
لما أبر الله وعَد نبيه صلى الله عليه وسلم الذي وعده المشركين أن يبين لهم أمر أهل الكهف فأوحاه إليه وأوقفهم عليْه ، أعقب ذلك بعتابه على التصدي لمجارَاتهم في السؤال عما هو خارج عن غرض الرسالة دون إذن من الله ، وأمَره أن يذكر نهي ربه . ويعزم على تدريب نفسه على إمساك الوعد ببيان ما يُسأل منه بيانُه دون أن يأذنه الله به ، أمره هنا أن يخبر سائليه بأنه ما بُعث للاشتغال بمثل ذلك ، وأنه يرجو أن الله يهديه إلى ما هو أقرب إلى الرشد من بيان أمثال هذه القصة ، وإن كانت هذه القصة تشتمل على موعظة وهدى ولكن الهدى الذي في بيان الشريعة أعظم وأهم . والمعنى : وقل لهم عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً .
فجملة { وقل عسى أن يهدين } الخ . . . معطوفة على جملة { فلا تمار فيهم } [ الكهف : 22 ] . ويجوز أن تكون جملة وقل عسى أن يهدين ربي } عطفاً على جملة { واذكر ربك إذا نسيت } ، أي اذكر أمره ونهيه وقل في نفسك : عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً ، أي ادع الله بهذا .
وانتصب { رشداً } على تمييز نسبة التفضيل من قوله : { لأقرب من هذا } . ويجوز أن يكون منصوباً على أنه مفعول مطلق مبين لنوع فعل { أن يهدين } لأن الرشد نوع من الهداية .
ف { عسى } مستعملة في الرجاء تأدباً ، واسم الإشارة عائد إلى المذكور من قصة أهل الكهف بقرينة وقوع هذا الكلام معترضاً في أثنائها .
ويجوز أن يكون المعنى : وارجُ من الله أن يهديك فيُذكرك أن لا تَعِد وعداً ببيان شيء دون إذن الله .
والرّشَد بفتحتين : الهدى والخير . وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى في هذه السورة { وهيء لنا من أمرنا رشداً } [ الكهف : 10 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 23]
وهذا تأديب من الله عزّ ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عهد إليه أن لا يجزم على ما يحدث من الأمور أنه كائن لا محالة، إلا أن يصله بمشيئة الله، لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله.
وإنما قيل له ذلك فيما بلغنا من أجل أنه وعد سائليه عن المسائل الثلاث اللواتي قد ذكرناها فيما مضى، اللواتي إحداهنّ المسألة عن أمر الفتية من أصحاب الكهف أن يجيبهم عنهنّ غد يومهم، ولم يستثن، فاحتبس الوحي عنه فيما قيل من أجل ذلك خمس عشرة، حتى حزنه إبطاؤه، ثم أنزل الله عليه الجواب عنهنّ، وعرف نبيه سبب احتباس الوحي عنه، وعلّمه ما الذي ينبغي أن يستعمل في عِدَاته وخبره عما يحدث من الأمور التي لم يأته من الله بها تنزيل، فقال:"وَلا تَقُولَنّ" يا محمد "لِشَيْءٍ إنّي فاعِلٌ "ذلك غَدا كما قلت لهؤلاء الذين سألوك عن أمر أصحاب الكهف، والمسائل التي سألوك عنها، سأخبركم عنها غدا "إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ". ومعنى الكلام: إلا أن تقول معه: إن شاء الله، فترك ذكر تقول اكتفاء بما ذكر منه، إذ كان في الكلام دلالة عليه...
وقوله: "وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ" اختلف أهل التأويل في معناه؛
فقال بعضهم: واستثن في يمينك إذا ذكرت أنك نسيت ذلك في حال اليمين...قال: بلغني أن الحسن، قال: إذا ذكر أنه لم يقل: إن شاء الله، فليقل: إن شاء الله.
وقال آخرون: معناه: واذكر ربك إذا عصيت...
وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: واذكر ربك إذا تركت ذكره، لأن أحد معاني النسيان في كلام العرب الترك...
وقوله: "وَقُلْ عَسَى أنْ يَهْدِينِ رَبّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا" يقول عزّ ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل: ولعلّ الله أن يهديني فيسدّدني لأسدّ مما وعدتكم وأخبرتكم أنه سيكون، إن هو شاء.
وقد قيل: إن ذلك مما أُمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقوله إذا نسي الاستثناء في كلامه، الذي هو عنده في أمر مستقبل مع قوله: إن شاء الله، إذا ذكر...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 23]
{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا}... الخطاب... نهيٌ (عن عِدَةٍ لا) يُسْتَثْنَى فيها. وقاس بعض الناس الأيمان على العدات، فيقول: إذا حلف فإنه يلزمه أن يستثني فيها. وذلك فاسد لأن الأيمان تخرج على تعظيم الرب وإجلاله، فلا يجوز أن يؤمر بالثُّنْيَا فيها، لأن الثُّنْيَا نَقْضُ ذلك التعظيم...
وأما العِدَة فإنما هي إضافة الفعل إلى نفسه، وهو لا يملك حقيقته لذلك أمر أن يلحق الثنيا فيه لئلا يلحقه الخُلْفُ في الوعد... وفي قوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا} {إلا أن يشاء الله} دلالة أن لا يكون شيء إلا بمشيئة الله حين ندبه إلى الثُّنْيا. ثم إذا خرج على غير ما وعد، يلحقه الخُلْفُ في الوعد، دلَّ أنه قد شاء ذلك، وأنه إذا لم يشأ شيئا لم يكن... وجائز أن يكون المراد بهذا الخطاب غير النبي، وهو الأشبه، لما لا يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يَعِدُ عِدَةً، ولا يذكر الثنيا لما لا يعرف ألا يكون شيء إلا بمشيئة الله وإرادته. وأما غير النبي فجائز ألا يعرف ذلك. لذلك كان غيره أولى بما يخرج منه على التعريف لهم أو للتعليم...
{واذكر ربك إذا نسيت} هذا يحتمل وجهين:
أحدهما {واذكر ربك إذا نسيت} أي إذا ذكرته بعد ما نسيته فاذكره كقوله {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم لظالمين} (الأنعام: 68) فعلى ذلك هذا.
والثاني {واذكر ربك إذا نسيت} أي: اذكر الثُّنيَا في آخر الكلام {إذا نسيت} في أوله، أعني الثُّنيا. إذ المستحب أن يستثني في أول كلامه على التَّبَرُكِ كقوله {وإنا إن شاء الله لمهتدون} (البقرة: 70) استثنوا أولا ثم وعدوا. فهو المستحب. فكأنه قال: {واذكر ربك} الثنيا في آخر كلامك {إذا نسيت} في أوله... {وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا} قال بعضهم: إن {وقل عسى أن يهدين ربي} الآية هي أوضح على دلالة رسالتي وآخَذُ مما تسألونني من أمر أصحاب الكهف؛ لأنهم كانوا يسألونه عن خبرهم، فيستدلون على رسالته وصدقه، ويقول: {قل إنني هداني ربي} الآية {الأنعام: 161) على دلالة رسالتي التي هي أوضح مما تسألونني وآخذ للقلوب، إذ كانت له آيات حسيات على رسالته. وقال الحسن: قوله {وقل عسى} عسى من الله واجب؛ أي قد هداني ربي الرشد والصواب. وأما غيره من أهل التأويل فيقولون: إنه وعد لأولئك أن يخبرهم إذا عما يسألون، وقال: {عسى أن} يرشدني ربي لأسرع من هذا الميعاد الذي وعدت، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... ويجوز أن يكون المعنى: واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء، تشديداً في البعث على الاهتمام بها. وقيل: واذكر ربك إذا تركت بعض ما أمرك به. وقيل: واذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي... والظاهر أن يكون المعنى: إذا نسيت شيئاً فاذكر ربك. وذكر ربك عند نسيانه أن تقول: عسى ربي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه {رَشَدًا} وأدنى خيراً ومنفعة. ولعل النسيان كان خيرة، كقوله {أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا} [البقرة: 106]...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {إلا أن يشاء الله} في الكلام حذف يقتضيه الظاهر، ويحسنه الإيجاز، تقديره: إلا أن تقول إلا أن يشاء الله، أو إلا أن تقول إن شاء الله، فالمعنى إلا أن تذكر مشيئة الله، فليس {إلا أن يشاء الله} من القول الذي نهي عنه...
وقوله {واذكر ربك إذا نسيت} قال ابن عباس والحسن معناه، والإشارة به إلى الاستثناء أي ولتستثن بعد مدة، إذا نسيت الاستثناء أولاً لتخرج من جملة من لم يعلق فعله بمشيئة الله، وقال عكرمة: المعنى واذكر ربك إذا غضبت، وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، والآية ليست في الأيمان، وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين...
وقوله {وقل عسى...}، قال محمد الكوفي المفسر: إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء، وقال الجمهور هو دعاء مأمور به دون هذا التخصيص... والإشارة بهذا إلى الاستدراك الذي يقع من ناسي الاستثناء. وقال الزجاج المعنى عسى أن ييسر الله من الأدلة على نبوتي أقرب من دليل أصحاب الكهف...
وما قدمته أصوب، أي عسى أن يرشدني فيما أستقبل من أمري. وهذه الآية مخاطبة للنبي عليه السلام، وهي بعد تعم جميع أمته، لأنه حكم يتردد الناس بكثرة وقوعه، والله الموفق.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي} الْآيَة:... فِيهِ... أَقْوَال:
الْأَوَّلُ: أَمْرٌ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَعْنَى التَّبَرُّكِ أَو التَّأْدِيبِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ من مِيعَادِكُمْ. فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ قُرْبٍ، وَقَدْ فَاتَ الْأَجَلُ؟ قُلْنَا: الْقُرْبُ هُوَ مَا أَرَادَ اللَّهُ وَقْتَهُ وَإِنْ بَعُدَ، وَالْبُعْدُ مَا لَمْ يُرِدْ اللَّهُ وَقْتَهُ وَإِنْ قَرُبَ...
قَالَ قَوْمٌ: أَيُّ فَائِدَةٍ لِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ حَقِيقٌ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ، وَكُلُّ أَحَدٍ قَدْ عَلِمَ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ. قُلْنَا: عَنْهُ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَبُّدٌ من اللَّهِ، فَامْتِثَالُهُ وَاجِبٌ، لِالْتِزَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، وَانْقِيَادِهِ إلَيْهِ، وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَرْءَ قَدْ اشْتَمَلَ عَقْدُهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ مَا وَعَدَ بِفِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ وَاتَّصَلَ بِكَلَامِهِ فِي ضَمِيرِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِلَ ذَلِكَ من قَوْلِهِ فِي كَلَامِهِ بِلِسَانِهِ، حَتَّى يَنْتَظِمَ اللِّسَانُ وَالْقَلْبُ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ شِعَارُ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَتَعَيَّنَ الْإِجْهَارُ بِهِ، لِيُمَيَّزَ من أَهْلِ الْبِدْعَةِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ فِيهِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا يَطْرَأُ فِي الْعَوَاقِبِ بِدَفْعٍ أَوْ تَأَتٍّ، وَرَفْعَ الْإِيهَامِ الْمُتَوَقَّعِ بِقَطْعِ الْعَقْلِ الْمُطْلَقِ فِي الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وقل: عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا).. من هذا النهج الذي يصل القلب دائما بالله، في كل ما يهم به وكل ما يتوجه إليه. وتجيء كلمة (عسى) وكلمة (لأقرب) للدلالة على ارتفاع هذا المرتقى، وضرورة المحاولة الدائمة للاستواء عليه في جميع الأحوال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبيء صلى الله عليه وسلم من ثلاث جهات:
الأولى: أنه أجاب سؤله، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادة الله مع المكابرين.
الثانية: أنه علمه علماً عظيماً من أدب النبوءة.
الثالثة: أنه ما علمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استئناساً لنفسه أن لا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه، كيلا يتوهم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرّم. ومثاله ما في الصحيح: أن حكيم بن حزام قال:"سألت رسول الله فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خَضِرَةٌ حُلوةٌ فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأُ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا". فعلم حكيم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك ليس القصد منه منعه من سُؤْله وإنما قصد منه تخليقه بخلق جميل، فلذلك أقسم حكيم: أن لا يأخذ عن أحد غير رسول الله شيئاً، ولم يقل: لا أسألك بعد هذه المرة شيئاً.
فنظم الآية أن اللام في قوله: {لشيء} ليست اللام التي يتعدى بها فعل القول إلى المخاطب بل هي لام العلة، أي لا تقولن: إني فاعل كذا لأجل شيء تَعِدُ به، فاللام بمنزلة (في).
و « شيء» اسم متوغل في التنكير يفسره المقام، أي لشيء تريد أن تفعله.
والإشارة بقوله: {ذلك} عائدة إلى « شيء». أي أني فاعل الإخبار بأمر يسألونه.
و {غداً} مستعمل في المستقبل مجازاً. وليست كلمة (غداً) مراداً بها اليوم الذي يلي يَومه، ولكنه مستعمل في معنى الزمان المستقبل، كما يستعمل اليومُ بمعنى زمان الحال، والأمسُ بمعنى زمن الماضي...
وظاهر الآية اقتصار إعمالها على الإخبار بالعزم على فعل في المستقبل دون ما كان من الكلام إنشاءً مثل الأيمان، فلذلك اختلف فقهاء الأمصار في شمول هذه الآية لإنشاء الأيمان ونحوها...
عطف على النهي، أي لا تَعِدْ بوعد فإن نسيتَ فقلت: إني فاعل، فاذكر ربك، أي اذكر ما نهاك عنه.
والمراد بالذكر التدارك وهو هنا مشتق من الذُكر بضم الذال، وهو كناية عن لازم التذكر، وهو الامتثال، كما قال عُمر بن الخطاب رضي الله عنه: « أفْضَلُ من ذكر الله باللسان ذِكْرُ الله عند أمره ونهيه».
وفي تعريف الجلالة بلفظ الرب مضافاً إلى ضمير المخاطب دون اسم الجلالة العَلَم من كمال الملاطفة ما لا يخفى.
وحُذف مفعول {نسيت} لظهوره من المقام، أي إذا نسيت النهي فقلت: إني فاعل. وبعض الذين أعْملوا آية {إلا أن يشاء الله} في حل الأيمان بذكر الاستثناء بمشيئة الله جعلوا قوله: {واذكر ربك إذا نسيت} ترخيصاً في تدارك الثنيا عند تذكر ذلك، فمنهم من لم يحد ذلك بمدة. وعن ابن عباس: لا تحديد بمدة بل ولو طال ما بين اليمين والثنيا. والجمهور على أن قوله: {واذكر ربك إذا نسيت} لا دلالة فيه على جواز تأخير الثنيا، واستدلوا بأن السنّة وردت بخلافه.
{وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا}
لما أبر الله وعَد نبيه صلى الله عليه وسلم الذي وعده المشركين أن يبين لهم أمر أهل الكهف فأوحاه إليه وأوقفهم عليْه، أعقب ذلك بعتابه على التصدي لمجارَاتهم في السؤال عما هو خارج عن غرض الرسالة دون إذن من الله، وأمَره أن يذكر نهي ربه. ويعزم على تدريب نفسه على إمساك الوعد ببيان ما يُسأل منه بيانُه دون أن يأذنه الله به، أمره هنا أن يخبر سائليه بأنه ما بُعث للاشتغال بمثل ذلك، وأنه يرجو أن الله يهديه إلى ما هو أقرب إلى الرشد من بيان أمثال هذه القصة، وإن كانت هذه القصة تشتمل على موعظة وهدى ولكن الهدى الذي في بيان الشريعة أعظم وأهم. والمعنى: وقل لهم عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً.
فجملة {وقل عسى أن يهدين} الخ... معطوفة على جملة {فلا تمار فيهم} [الكهف: 22]. ويجوز أن تكون جملة وقل عسى أن يهدين ربي} عطفاً على جملة {واذكر ربك إذا نسيت}، أي اذكر أمره ونهيه وقل في نفسك: عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً، أي ادع الله بهذا.
وانتصب {رشداً} على تمييز نسبة التفضيل من قوله: {لأقرب من هذا}. ويجوز أن يكون منصوباً على أنه مفعول مطلق مبين لنوع فعل {أن يهدين} لأن الرشد نوع من الهداية.
ف {عسى} مستعملة في الرجاء تأدباً، واسم الإشارة عائد إلى المذكور من قصة أهل الكهف بقرينة وقوع هذا الكلام معترضاً في أثنائها.
ويجوز أن يكون المعنى: وارجُ من الله أن يهديك فيُذكرك أن لا تَعِد وعداً ببيان شيء دون إذن الله.
والرّشَد بفتحتين: الهدى والخير. وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى في هذه السورة {وهيء لنا من أمرنا رشداً} [الكهف: 10].
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
{وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}. في هذه الآية الكريمة قولان معروفان لعلماء التفسير: الأول أن هذه الآية الكريمة متعلقة بما قبلها، والمعنى: أنك إن قلت سأفعل غداً كذا ونسيت أن تقول إن شاء الله، ثم تذكرت بعد ذلك فقل إن شاء الله؛ أي اذكر ربك معلقاً على مشيئته ما تقول أنك ستفعله غداً إذا تذكرت بعد النسيان. وهذا القول هو الظاهر؛ لأنه يدل عليه قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لشيء إني فَاعِلٌ ذلك غَداً 23 إِلاَّ أَن يشاء اللَّهُ} وهو قول الجمهور. وممن قال به ابن عباس والحسن البصري وأبو العالية وغيرهم.
القول الثاني أن الآية لا تعلق لها بما قبلها. أن المعنى: إذا وقع منك النسيان لشيء فاذكر الله؛ لأن النسيان من الشيطان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنَّ ذكر جُملة (إِن شاء الله) عند اتّخاذ القرارات المرتبطة بالمستقبل ليسَ نوعاً مِن الأدب في محضر الخالق جلَّ وعلا وحسب، بل هُوَ بيان لحقيقة أنّنا لا نملك شيئاً مِن عندنا، بل هُوَ مِن عنده تعالى، وكُلنا نعتمد ونستند إِليه لأنّه هو المستقل بالذات فقط... إِنَّ هذه الحقيقة هي نفسها (توحيد الأفعال) ففي الوقت الذي يملك الإِنسان حريته وإِرادته، فإِنَّ تحقق أي شيء وأي عمل إِنّما يرتبط بمشيئة الخالق جلَّ وعلا...
إِنَّ تعبير (إِن شاء الله) يزيد مِن توجهنا نحو الله تبارك وتعالى، ويمنحنا القوّة والقدرة على الإِنجاز، وهو مَدْعاة إلى تزكية وطهارة وصحة الأعمال أيضاً...