المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ} (35)

35- في يوم القيامة ، يوقد على هذه الأموال في نار جهنم ، ثم تحرق بتلك الأموال المحماة جباه أصحابها ، وجنوبهم وظهورهم ، ويقال توبيخاً لهم : هذا ما ادخرتموه لأنفسكم ، ولم تؤدوا منه حق الله ، فذوقوا اليوم عذاباً شديداً .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ} (35)

{ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا } أي : على أموالهم ، { فِي نَارِ جَهَنَّمَ } فيحمى كل دينار أو درهم على حدته .

{ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } في يوم القيامة كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، ويقال لهم توبيخا ولوما : { هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } فما ظلمكم ولكنكم ظلمتم أنفسكم وعذبتموها بهذا الكنز .

وذكر اللّه في هاتين الآيتين ، انحراف الإنسان في ماله ، وذلك بأحد أمرين :

إما أن ينفقه في الباطل الذي لا يجدي عليه نفعا ، بل لا يناله منه إلا الضرر المحض ، وذلك كإخراج الأموال في المعاصي والشهوات التي لا تعين على طاعة اللّه ، وإخراجها للصد عن سبيل اللّه .

وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات ، و { النهي عن الشيء ، أمر بضده }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ} (35)

وقوله : { يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ . . } تفصيل لهذا العذاب الأليم ، وبيان لميقاته ، حتى يقلع البخلاء عن بخلهم ، والأشحاء عن شحهم . .

والظرف { يَوْمَ } منصوب بقوله : { عَذَابٍ أَلِيمٍ } ؛ أو بفعل محذوف يدل عليه هذا القول .

أى : يعذبون يوم يحمى عليها ، أو بفعل مقدر ؛ أى : اذكر يوم يحمى عليها .

وقوله : { يحمى } يجوز أن يكون من حميت وأحميت - ثلاثيا ورباعيا - يقال : حميت الحديدة وأحميتها ، أى : أوقدت عليها لتحمى .

وقوله : { عَلَيْهَا } جار مجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل . ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل مضمرا ، أى : يحمى الوقود أو الجمر عليها .

قال الآلوسى : وأصله تحمى بالنار من قولك : حميت الميسم وحميته فجعل الإِحماء للنار مبالغة ؛ لأن النار في ذاتها ذات حمى ، فإذا وصفت بأنها تحمى دل على شدة توقدها . ثم حذفت النار ، وحول الإِسناد إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود بأتم وجه فانتقل من صيغة التأنيث إلى التذكير كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير . فإذا طرحت القصة وأنسد الفعل إلى الجار والمجرور وقتل : رفع إلى الأمير ، وقرأ ابن عامر { تحمي } بالتاء بإسناده إلى النار كأصله . والمعنى : بشر - يا محمد - أولئك الذين يكنزون الأموال في الدنيا ولا ينفوقنها في سبيل الله ، بالعذاب الأليم يوم الحساب يوم تحمى النار المشتعلة على تلك الأموال التي لم يؤدوا حق الله فيها { فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ } أى : فتحرق بها جباههم التي كانوا يستقبلون بها الناس ، والتى طالما ارتفعت غرورا بالمال المكنوز ، وتحرق بها - ايضا - " جنوبهم " التي كثيرا ما انتفتحت من شدة الشبع وغيرها جائع ، وتحرق بها كذلك " ظهورهم " التي نبذت وراءها حقوق الله بجحود وبطر . .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم خصت هذه الأعضاء بالكى ؟

قلت : لأنهم لم يطلبوا بأموالهم - حيث لم ينفقوها في سبيل الله - إلا الأغراض الدنيوية من وجاهة عند الناس ، وتقدم ، وأن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم ، يتلقون بالجميل ويحيون بالإِكرام ، ويجبلون ويحتمشون ، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم ، ومن لبس عامة من الثياب يطرحونها على ظهورهم ، كما ترى أغنياء زمانك ، هذا أغراضهم وطلباتهم من أموالهم ، لا يخطر ببالهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ذهب أهل الدثور بالأجر كله " .

وقيل : لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه ، وتولوا بأركانهم ، وولوه ظهورهم .

وقوله : { هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } مقول لقول محذوف .

والتفسير : تقول لهم ملائكة العذاب على سبيل التبكيت والتوبيخ ، وهى تتولى حرق جباههم وجنوبهم وظهورهم : هذا العذاب الأليم النازل بكم في الآخرة هو جزاء ما كنتم تكنزونه في الدنيا من مال لمنفعة أنفسكم دون أن تؤدوا حق الله فيه .

فذوقوا وحدكم وبال كنزكم . وتجرعوا غصصه ، وتحملوا سوء عاقبته فأنتم الذين جنيتم على أنفسكم ، لأنكم لم تشكروا الله على هذه الأموال ، بل استعملتوها في غير ما خلقت له .

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى .

1- التحذير من الانقياد لدعاة السوء ، ومن تقليدهم في رذائلهم وقبائحهم ووجوب السير على حسب ما جاء به الإِسلام من تعاليم وتشريعات . .

ولذا قال ابن كثير عند تفسيره للآية الأولى : والمقصود التحذير من علماء السوء ، وعباد الضلال ، كما قال سفيان بن عيينه : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من أحبار اليهود ، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من رهبان النصارى .

وفى الحديث الصحيح : " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن " ؟ وفى رواية : فارس والروم ؟ قال : " فمن الناس إلا هؤلاء " والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم .

هذا ، ونص الحديث الصحيح الذي ذكره الإِمام ابن كثير - كما رواه الشيخان - هكذا عن أبى سعيد الخدرى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا يشبر وذارعا بذراع ، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن " .

أما الحديث الذي جاء فيه حذو القذة بالقذة ، فقد أخرجه الإِمام أحمد عن شداد بن أوس ونصه : " ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم . أهل الكتاب ، حذو القذة بالقذة " .

2- يرى جمهور العلماء أن المقصود بالكنز في قوله ، تعالى ، { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا } . . . ألخ المال الذي لم تؤد زكاته ، أما إذا أديت زكاته في يسمى كنزا ، ولا يدخل صاحبه تحت الوعيد الذي اشتملت عليه الآية .

وقد وضح الإِمام القرطبى هذه المسألة فقال : واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أولا ؟ .

فقال قوم : نعم . رواه أبو الضحا عن جعدة بين هبيرة عن على قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته . . ولا يصح .

وقال قوم : ما أديت زكاته مئة أو من غيره عنه فليس بكنز ، قال ابن عمر : ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كانت تحت سبع أرضين ، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض . ومثله عن جابر ، وهو الصحيح .

وروى البخارى عن أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من آتاه الله ما لا فلم يؤد زكاته ، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، ثم يأخذ بلهمزميته - يعنى شدقيه - ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك . . " .

وفيه أيضا عن أبى ذر قال : انتهيت إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " والذى نفسى بيده ، ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم ، لا يؤدى حقها ، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه ، تطؤه بأخفافها ، وتنطحه بقرونها ، كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس " .

فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا . وقد بين ابن عمر في صحيح البخارى هذا المعنى . قال له أعرابى : أخبرنى عن قول الله - تعالى - { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة . . } الآية فقال ابن عمر : من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له ، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال .

وروى أبو داود " عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة . . } كبر ذلك على المسلمين ، فقال عمر : أنا أفرج عنكم ، فانطلق فقال : يا نبى الله ، إنه كبر على أصحابك هذه الآية . فقال - صلى الله عليه وسلم - " إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقى من أموالكم ، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم " قال : فكبر عمر . ثم قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة ، إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته " " .

3- أخذ بعض الصحابة من هذه الآية تحريم اكتناز الأموال التي تفيض عن حاجات الإِنسان الضرورية .

قال ابن كثير : كان من مذهب أبى ذر - رضى الله عنه - تحريم إدخار ما زاد على نفقة العيال ، وكن يفتى بذلك ، ويحثهم عليه ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته ، فخشى أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأزله بالربذة - وهى بلدة قريبة من المدينة - وبها مات - رضى الله عنه - في خلافة عثمان .

وروى البخارى في تفسير هذه الآية عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة ، فإذا بأبى ذر ، فقلت له : ما أنزلك بهذه الأرض ؟ قال : كنا بالشام فقرأت { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . فقال معاوية : ما هذه فينا ما هذه إلا في أهل الكتاب . قال : قلت : إنها لفينا وفيهم .

ثم قال ابن كثير : وفى الصحيح " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبى ذر : " ما يسرنى أن عندى مثل أحد ذهباً يمر على ثلاثة أيام وعندى منه شئ إلا دينار أرصده لدين " فهذا - والله أعلم - هو الذي حدا أباذر على القول بهذا " " .

وقال الشيخ القاسمى : قال ابن عبد البر : وردت عن أبى ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش ، فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك .

وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على ما نعى الزكاة ، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابى حيث قال : هل على غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع .

وحديث طلحة الذي أشار إليه ابن عبد البر ، قد جاء في صحيح البخارى ونصه : " عن طلحة بن عبيد الله قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوى صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإِسلام .

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " خمس صلوات في اليوم والليلة ، فقال : هل على غيرها ؟ .

قال : " لا . . إلا أن تطوع ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وصيام رمضان " قال : هل على غيره ؟ قال : " لا إلا أن تطوع " ، قال . وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة ، قال . هل على غيرها ؟ قال " لا إلا أن تطوع " .

قال ، فأدبر الرجل وهو يقول . والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص . فقال ، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أفلح إن صدق " " .

هذا ؛ ومما استدل به جمهور الصحابة ومن بعدهم من العلماء ، على عدم حرمة اقتناء الأموال التي تفيض عن الحاجة - ما دام قد أدى حق الله فيها - ما يأتى :

( أ ) أن قواعد الشرع لا تحرم ذلك ، وإلا لما شرع الله المواريث لأنه لو وجب إنفاق كل ما زاد عن الحاجة ، لما كان لمشروعية المواريث فائدة .

( ب ) تثبت في الحديث الصحيح " أن سعد بن أبى وقاص عندما كان مريضاً ، وزاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : يا رسول الله : أأوصى بمالى كله ؟ قال : " لا . قال سعد : فالشطر ؟ قال : لا . قال سعد : فالثلث ؟ فقال له - صلى الله عليه وسلم - فالثلث والثلثَ كثير . إنك لإن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس . . " " .

ولو كان جمع المال واقتناؤه محرما ، لأقر النبى - صلى الله عليه وسلم - سعدا على التصدق بجميع ماله ، ولأمر المسلمين أن يحذوا حذو سعد ، ولكنه صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك ، بل قال لسعد :

" إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس . . " .

وقد كان في عهده - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة من يملكون الكثير من الأموال - كعثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما - ومع هذا فلم يأمرهم بإنفاق كل ما زاد عن حاجتهم الضرورية .

قال القرطبى : قرر الشرع ضبط الأموال وأداء حقها ، ولو كان ضبط المال ممنوعا ، لكان حقه أن يخرج كله ، وليس في الأمة من يلزم هذا . وحسبك حال الصحابة وأموالهم - رضوان الله عليهم - وأما ما ذكر عن أبى ذر فهو مذهب له .

( ج ) ما ورد من آثام في ذم الكنز و الكانزين كان قبل أن تفرض الزكاة أو هو في حق من امتنع عن أداء حق الله في ماله .

قال صاحب الكشاف . فإن قلت فما تصنع في قوله - صلى الله عليه وسلم - " من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها " .

قلت : كان هذا قبل أن تفرض الزكاة ، فأما بعد فرضيتها ، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه ، ويؤدى عنه ما أوجب عليه فيه ، ثم يعاقبه .

ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبدي الله يقتنون الأموال ويتصرفون فيها ، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإِعراض اختيار للأفضل ، والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه ، ولك شئ حد .

4- أن الإِسلام وإن كان قد أباح للمسلم اقتناء المال - بعد أداء حق الله فيه - إلا أنه أمر أتباعه أن يكونوا متوسطين في حبهم لهذا الاقتناء ، حتى يشغلهم حب المال عن طاعة الله .

ورحم الله الإِمام الرازى ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآيات ما ملخصه ، اعلم أن الطريق الحق أن يقال ، الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير ، إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع ، فالأول محمول على التقوى والثانى على ظاهر الفتوى .

أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فلوجوه منها :

أن كثرة المال سبب لكثرة الحرص في الطلب ، والحرص متعب للروح والنفس والقلب . . والعاقل هو الذي يحترز عما يتعب روحه ونفسه وقلبه . وأن كسب المال شاق شديد ؛ وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب ، فيبقى الإِنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل ؛ وأخرى في تعب الحفظ وأن كثرة الجاه والمال تورث الطغيان ، كما قال - تعالى - { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى } هذا ، وقد ساق الإِمام ابن كثير جملة من الأحاديث في ذم التكثر من الذهب والفضة ، ومن ذلك ما رواه الإِمام أحمد عن حسان بن عطية قال :

كان شداد بن أوس - رضى الله عنه - في سفر ، فنزل منزلا فقال لغلامه : ائتنا بالسفرة نعبث بها ، فأنكرت عليه ذلك .

فقال ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت لا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتى هذه فلا تحفظوها عنى واحفظوا ما أقول لكم : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا كنز الناس الذهب والفضلة ، فاكنزوا هؤلاء الكلمات : اللهم إنى أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ؛ وأسألك شكر نعمتك ، وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا ، واسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم . إنك أنت علام الغيوب " .

وبعد : فهذه سبع آيات عن أهل الكتاب ، بدأت - بقوله تعالى { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } وانتهت بقوله تعالى : { فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } .

وقد بينت هذه الآيات ما يجب أن يكون عليه موقف المؤمنين منهم ، وكشفت عن أقوالهم الباطلة ، وعن جحود رؤسائهم للحق ، وعن انقياد : عامتهم للضلال ، وعن استحلال كثير من أحبارهم ورهبانهم لمحارم الله . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ} (35)

وقوله تعالى : { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ } أي : يقال لهم هذا الكلام تبكيتا وتقريعا وتهكما ، كما في قوله : { ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ الدخان : 48 ، 49 ] أي : هذا بذاك ، وهو{[13431]} الذي كنتم تكنزون لأنفسكم ؛ ولهذا يقال : من أحب شيئا وقدمه على طاعة الله ، عذب به . وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم ، عذبوا بها ، كما كان أبو لهب ، لعنه الله ، جاهدًا في عداوة الرسول ، صلوات الله [ وسلامه ]{[13432]} عليه{[13433]} وامرأته تعينه في ذلك ، كانت يوم القيامة عونًا على عذابه أيضا { فِي جِيدِهَا } أي : [ في ]{[13434]} عنقها { حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } [ المسد : 5 ] أي : تجمع من الحطب في النار وتلقي عليه ، ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو أشفق عليه - كان - في الدنيا ، كما أن هذه الأموال لما كانت أعز الأشياء على أربابها ، كانت أضر الأشياء عليهم في الدار الآخرة ، فيحمى عليها في نار جهنم ، وناهيك بحرها ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم .

قال سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود : والله الذي لا إله غيره ، لا يكوى عبد بكنز فيمس دينار دينارًا ، ولا درهم درهما ، ولكن يوسَّع جلده ، فيوضع كل دينار ودرهم على حدته{[13435]} {[13436]}

وقد رواه ابن مرْدُويه ، عن أبي هريرة مرفوعا ، ولا يصح رفعه ، والله أعلم .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : بلغني أن الكنز يتحول يوم القيامة شجاعا يتبع صاحبه ، وهو يفر منه ويقول : أنا كنزك ! لا يدرك منه شيئا إلا أخذه .

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجَعْد ، عن مَعْدَان بن أبي طلحة ، عن ثوبان أن نبي{[13437]} الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " من ترك بعده كنزا مَثَل له يوم القيامة شُجاعًا أقرع له زبيبتَان ، يتبعه ، يقول : ويلك ما أنت ؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته{[13438]} بعدك ! ولا يزال يتبعه حتى يُلقمه يده فَيُقَصْقِصَها{[13439]} ثم يتبعها سائر جسده " .

ورواه ابن حبان في صحيحه ، من حديث يزيد ، عن سعيد به{[13440]} وأصل هذا الحديث في الصحيحين من رواية أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه{[13441]}

وفي صحيح مسلم ، من حديث سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل{[13442]} يوم القيامة صفائح من نار يكوى{[13443]} بها جنبه وجبهته وظهره ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس ، ثم يَرَى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " وذكر تمام الحديث{[13444]} وقال البخاري في تفسير هذه الآية : حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن حُصَيْن ، عن زيد بن وهب قال : مررت على أبي ذر بالرَّبَذة ، فقلت : ما أنزلك بهذه الأرض ، قال{[13445]} كنا بالشام ، فقرأت : { وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فقال معاوية : ما هذه فينا{[13446]} ما هذه إلا في أهل الكتاب . قال : قلت : إنها لفينا وفيهم{[13447]} ورواه ابن جرير من حديث عبثر بن القاسم ، عن حصين ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، فذكره وزاد : فارتفع في ذلك بيني وبينه القول ، فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إليَّ عثمان أن أقبل إليه ، قال : فأقبلت ، فلما قدمت المدينة ركبني{[13448]} الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تَنَحَّ قريبا . قلت : والله لن أدع ما كنت أقول{[13449]}

قلت : كان من مذهب أبي ذر ، رضي الله عنه ، تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتي [ الناس ]{[13450]} بذلك ، ويحثهم عليه ، ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته ، فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، وأنزله بالربذة وحده ، وبها مات ، رضي الله عنه ، في خلافة عثمان . وقد اختبره معاوية ، رضي الله عنه{[13451]} وهو عنده ، هل يوافق عمله قوله ؟ فبعث إليه بألف دينار ، ففرقها من يومه ، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال : إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت ، فهات الذهب ! فقال : ويحك ! إنها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك{[13452]} به .

وهكذا روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنها عامة :

وقال السدي : هي في أهل القبلة .

وقال الأحنف بن قيس : قدمت المدينة ، فبينا أنا في حلقة فيها مَلأ من قريش ، إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، فقام عليهم فقال : بشر الكانزين برَضْف يحمى عليه في

نار جهنم ، فيوضع على حَلمة ثَدْي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل - قال : فوضع القوم رءوسهم ، فما رأيت أحدا منهم رَجَع إليه شيئا - قال : وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية ، فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم . فقال : إن هؤلاء لا يعلمون شيئا .

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذَرّ : " ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر عليه ثالثة وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين " {[13453]} فهذا - والله أعلم - هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن عبد الله بن الصامت ، رضي الله عنه ، أنه كان مع أبي ذر ، فخرج عطاؤه ومعه جارية له ، فجعلت تقضي حوائجه ، ففضلت معها سبعة ، فأمرها أن تشتري به فلوسا . قال : قلت : لو ادخرته للحاجة تَنُوبك وللضيف ينزل بك ! قال : إن خليلي عهد إليَّ أنْ أيما ذهب أو فضة أوكِي{[13454]} عليه ، فهو جمر على صاحبه ، حتى يفرغه في سبيل الله ، عز وجل{[13455]} ورواه عن يزيد ، عن همام ، به وزاد : إفراغا{[13456]} وقال الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الشبلي في ترجمته ، عن محمد بن مهدي : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن صدقة بن عبد الله ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي فَرْوَة الرّهاوي ، عن عطاء ، عن أبي سعيد ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الق الله فقيرًا ولا تلقه غنيا " . قال : يا رسول الله ، كيف لي بذلك ؟ قال : " ما سُئِلتَ فلا تَمْنَع ، وما رُزقْت فلا تَخْبَأ " ، قال : يا رسول الله ، كيف لي بذلك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو ذاك وإلا فالنار " {[13457]} إسناده ضعيف .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا عتيبة ، عن بريد بن أصرم{[13458]} قال : سمعت عليًا ، رضي الله عنه ، يقول : مات رجل من أهل الصُّفَّة ، وترك دينارين - أو : درهمين - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيَّتان ، صلوا على صاحبكم " {[13459]}

وقد روي هذا من طرف أخر{[13460]}

وقال قتادة ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أبي أمامة صُدَي بن عَجْلان قال : مات رجل من أهل الصُّفَّة ، فوجد في مئزره دينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيَّة " . ثم تُوفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيتان " {[13461]} وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الفراديسي ، حدثنا معاوية بن يحيى الأطرابلسي ، حدثني أرطاة ، حدثني أبو عامر الهَوْزَني ، سمعت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض ، إلا جعل الله بكل قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه .

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن خداش ، حدثنا سيف بن محمد الثوري ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يوضع الدينار على الدينار ، ولا الدرهم على الدرهم ، ولكن يُوَسَّع جلده فيكوى{[13462]} بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون " {[13463]} سيف - هذا - كذاب ، متروك .


[13431]:- في ت ، د ، ك : "وهذا".
[13432]:- زيادة من أ.
[13433]:- في د ، ك : "صلى الله عليه وسلم".
[13434]:- زيادة من ك.
[13435]:- في أ : "جلده".
[13436]:- رواه الطبري في تفسيره (14/233) من طريق سفيان به.
[13437]:- في د : "رسول".
[13438]:- في أ : "كنزته".
[13439]:- في د ، أ : "فيقضمها".
[13440]:- تفسير الطبري (14/232) وصحيح ابن حبان برقم (803) "موارد" ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2255) من طريق بشر ابن معاذ به.
[13441]:- صحيح البخاري برقم (4659) ولم أعثر عليه في صحيح مسلم من هذا الطريق.
[13442]:- في د : "جعل له".
[13443]:- في ت : "فتكوى" ، وفي د ، أ : "فيكوى".
[13444]:- صحيح مسلم برقم (987).
[13445]:- في ت ، د ، ك ، أ : "فقال".
[13446]:- في ت ، د ، ك : "ما هذا".
[13447]:- صحيح البخاري برقم (4660).
[13448]:- في ت : "ولقيني".
[13449]:- تفسير الطبري (14/227).
[13450]:- زيادة من أ.
[13451]:- زيادة من أ : "عنهما".
[13452]:- في ت ، أ : "حاسبناه".
[13453]:- صحيح البخاري برقم (6444).
[13454]:- في أ : "أيما ذهبا وفضة أولى".
[13455]:- المسند (5/156).
[13456]:- المسند (5/175) وقال الهيثمي في المجمع (10/240) : "رجاله رجال الصحيح".
[13457]:- انظر : مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (28/168) ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (14/390) في ترجمة الشبلي من طريق محمد بن مهدي المصري به.
[13458]:- في جميع النسخ : "عيينة عن يزيد بن الصرم" والتصويب من المسند.
[13459]:- المسند (1/101).
[13460]:- رواه أحمد في مسنده (1/137 ، 138) من طريق قطن بن نسير ومحمد بن عبيد وحبان بن هلال كلهم عن جعفر بن سليمان به نحوه ، وجاء من حديث عبد الله بن مسعود رواه أحمد في مسنده (1/412) ، وجاء من حديث سلمة بن الأكوع رواه أحمد في مسنده (4/47) من حديث طويل ، وجاء من حديث أبي هريرة رواه أحمد في مسنده (2/429).
[13461]:- رواه أحمد في مسنده (5/253) والطبري في تفسيره (14/222) من طريق قتادة به.
[13462]:- في ت : "فتكوى".
[13463]:- ورواه ابن مردويه كما في الدر المنثور للسيوطي (4/179).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ} (35)

وقوله تعالى { يوم يحمى عليها } الآية : { يوم } ظرف والعامل فيه { أليم } وقرأ جمهور الناس «يحمى » بالياء بمعنى يحمى الوقود ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تحمى » بالتاء من فوق بمعنى تحمى النار والضمير في عليها عائد على الكنوز أو الأموال حسبما تقدم ، وقرأ قوم «جباهم » بالإدغام وأشموها الضم حكاه أبو حاتم ، وردت أحاديث كثيرة في معنى هذه الآية من الوعيد لكنها مفسرة في منع الزكاة فقط لا في كسب المال الحلال وحفظه ، ويؤيد ذلك حال أصحابه وأموالهم رضي الله عنهم ، فمن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم : «من ترك بعده كنزاً لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع » الحديث{[5631]} . وأسند الطبري قال كان نعل سيف أبي هريرة من فضة فنهاه أبو ذر ، وقال : قال رسول الله صلة الله عليه وسلم : «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها »{[5632]} ، وأسند إلى أبي أمامة الباهلي قال : مات رجل من أهل الصفة فوجد في برده دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كية ثم مات آخر فوجد له ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيتان »{[5633]} .

قال القاضي أبو محمد : وهذا إما لأنهما كانا يعيشان من الصدقات وعندهما التبر وإما لأن هذا كان في صدر الإسلام ، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه ، ولو كان ضبط المال ممنوعاً لكان حقه أن يخرج كله لا زكاته فقط ، وليس في الأمة من يلزم هذا ، وقوله { هذا ما كنزتم } إشارة إلى المال الذي كوي به ، ويحتمل أن تكون إلى الفعل النازل بهم ، أي هذا جزاء ما كنزتم ، وقال ابن مسعود : والله لا يمس دينار ديناراً بل يمد الجلد حتى يكوى بكل دينار وبكل درهم ، وقال الأحنف بن قيس : دخلت مسجد المدينة وإذا رجل خشن الهيئة رثها يطوف في الحلق وهو يقول : بشر أصحاب الكنوز بكي في جباهم وجنوبهم وظهورهم ، ثم انطلق يتذمر وهو يقول وما عسى تصنع في قريش .


[5631]:- رواه البخاري عن أبي هريرة في كتاب الزكاة –باب إثم مانع الزكاة- ولفظه: (من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له يوم القيامة شُجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه ثم يأخذ بلهزمته –يعني شدقيه- ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا {ولا يحسبن الذين يبخلون} الآية.
[5632]:- أخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، وابن مردويه عن ثوبان رضي الله عنه. (الدر المنثور).
[5633]:- أسنده الطبري إلى أبي أمامة، ذكر ذلك القرطبي كما ذكره ابن عطية، وفي ابن كثير أن الإمام أحمد رواه عن يزيد بن الصّرم قال: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: مات رجل من أهل الصفة وترك دينارين أو درهمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيّتان"، صلوا على صاحبكم، ورواه قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة صدي بن عجلان بمثل إسناد الطبري إلا أنه قال: "بمئزره" بدلا من "بردته".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ} (35)

انتصب { يوم يحمى } على الظرفية لِ { عذاب } [ التوبة : 34 ] ، لما في لفظ عَذاب من معنى يُعذّبون . وضمير { عليها عائد إلى الذهب والفضة } [ التوبة : 34 ] بتأويلهما بالدنانير والدراهم ، أو عائد إلى { أمْوالَ الناس } [ التوبة : 34 ] و { الذهبَ والفضةَ } [ التوبة : 34 ] ، إن كان الضمير في قوله : { فبشرهم } [ التوبة : 34 ] عائداً إلى { الأحبار والرهبان والذين يكنزون } [ التوبة : 34 ] . m

والحَمْيُ شدّة الحرارة . يقال : حَمِيَ الشيء إذا اشتدّ حرّه .

والضمير المجرور بعلَى عائد إلى { الذهب والفضة } [ التوبة : 34 ] باعتبار أنّها دنانير أو دراهم ، وهي متعدّدة وبني الفعل للمجهول لعدم تعلّق الغرض بالفاعل ، فكأنّه قيل : يوم يحمي الحَامون عليها ، وأسند الفعل المبني للمجهول إلى المجرور لعدم تعلّق الغرض بذكر المفعول المحمي لظهوره : إذ هو النار التي تُحمى ، ولذلك لم يقرن بعلامة التأنيث ، عُدّي بعلَى الدالّة على الاستعلاء المجازي لإفادة أنّ الحَمْي تمكّن من الأموال بحيث تكتسب حرارة المحمي كلها ، ثم أكّد معنى التمكّن بمعنى الظرفية التي في قوله : { في نار جهنم } فصارت الأموال محمية عليها النارُ وموضوعة في النار . وبإضافة النار إلى جهنّم علم أنّ المحمي هو نار جهنّم التي هي أشدّ نار في الحرارة فجاء تركيباً بديعاً من البلاغة والمبالغةِ في إيجاز .

والكَيُّ : أن يوضع على الجلد جمرٌ أو شيء مشتعل .

والجِباه : جمع جَبْهَة وهي أعلى الوجه ممّا يلي الرأس .

والجنُوب : جمع جَنْب وهو جانب الجسد من اليمين واليسار .

والظُّهور : جمع ظَهْر وهو ما بين العنفقة إلى منتهى فقار العظم .

والمعنى : تعميم جهات الأجساد بالكَي فإنّ تلك الجهات متفاوتة ومختلفة في الإحساس بألَم الكي ، فيحصل مع تعميم الكي إذاقة لأصنافٍ من الآلام .

وسُلك في التعبير عن التعميم مسلكُ الإطناب بالتعداد لاستحضار حالة ذلك العقاب الأليم ، تهويلاً لشأنه ، فلذلك لم يقل : فتكوى بها أجسادهم .

وكيفيةُ إحضار تلك الدراهم والدنانير لتُحمى من شؤون الآخرة الخارقة للعادات المألوفة فبقدرة الله تحضر تلك الدنانير والدراهم أو أمثالها كما ورد في حديث مانع الزكاة في « الموطأ » و« الصحيحين » أنّه يمثّل له ماله شُجاعاً أقرَع يأخذ بلهزمتيه يقول : « أنا مالك أنا كنزلك » وبقدرة الله يكوى الممتنعون من إنفاقها في سبيل الله ، وإن كانت قد تداول أعيانَها خلقٌ كثير في الدنيا بانتقالها من يد إلى يد ، ومن بلد إلى بلد ، ومن عصَر إلى عصر .

وجملة { هذا ما كنزتم لأنفسكم } مقول قول محذوف ، وحَذْف القول في مثله كثير في القرآن ، والإشارة إلى المحمي ، وزيادة قوله : { لأنفسكم } للتنديم والتغليظ ولام التعليل مؤذنة بقصد الانتفاع لأنّ الفعل الذي علّل بها هو من فعل المخاطب ، وهو لا يفعل شيئاً لأجل نفسه إلاّ لأنّه يريد به راحتها ونفعها ، فلمّا آل بهم الكنز إلى العذاب الأليم كانوا قد خابوا وخسروا فيما انتفعوا به من الذهب والفضة ، بما كان أضعافاً مضاعفة من ألم العذاب وجملة { فذوقوا ما كنتم تكنزون } توبيخ وتنديم .

والفاء في { فذوقوا } لتفريع مضمون جملة التوبيخ على جملة التنديم الأولى .

والذوْق مجاز في الحسّ بعلاقة الإطلاق ، وتقدم عند قوله تعالى : { ليذوق وبال أمره } في سورة العقود ( 95 ) .

{ وما كنتم تكنزون } مفعول لفعل الذوق على تقدير مضاف يعلم من المقام : أي ذوقوا عذابَ ما كنتم تكنزون .

وعُبِّر بالموصولية في قوله : { ما كنتم تكنزون } للتنبيه على غلطهم فيما كنزوا لقصد التنديم .