ثم ذكر جزاء الذين أورثهم كتابه فقال : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } أي : جنات مشتملات على الأشجار ، والظل ، والظليل ، والحدائق الحسنة ، والأنهار المتدفقة ، والقصور العالية ، والمنازل المزخرفة ، في أبد لا يزول ، وعيش لا ينفد .
والعدن " الإقامة " فجنات عدن أي : جنات إقامة ، أضافها للإقامة ، لأن الإقامة والخلود وصفها ووصف أهلها .
{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ } وهو الحلي الذي يجعل في اليدين ، على ما يحبون ، ويرون أنه أحسن من غيره ، الرجال والنساء في الحلية في الجنة سواء .
{ و } يحلون فيها { لُؤْلُؤًا } ينظم في ثيابهم وأجسادهم . { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } من سندس ، ومن إستبرق أخضر .
ثم بين - سبحانه - مظاهر هذا الفضل فقال : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } والضمير للأنواع الثلاثة .
أى : هؤلاء الظالمون لأنفسهم والمقتصدون والسابقون بالخيرات ، ندخلهم بفضلنا ورحمتنا ، الجنات الدائمة التى يخلدون فيها خلوداً أبدياً .
يقال : عدن فلان بالمكان ، إذا أقام به إقامة دائمة .
{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } أى أنهم يدخلون الجنات دخولاً دائماً ، وهم فى تلك الجنات يتزينون بأجمل الزينات ، وبأفخر الملابس ، حيث يلبسون فى أيديهم أساور من ذهب ولؤلؤا ، أما ثيابهم فهى من الحرير الخالص .
يخبر تعالى أن مأوى هؤلاء المصطفين من عباده ، الذين أورثوا الكتاب المنزل من رب العالمين يوم القيامة { جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي : جنات الإقامة يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على ربهم ، عز وجل ، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا } ، كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تبلغ الحلية{[24569]} من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " . {[24570]}
{ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } ولهذا كان محظورا عليهم في الدنيا ، فأباحه الله لهم في الدار الآخرة ، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " . وقال : " [ لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ]{[24571]} هي لهم في الدنيا ولكم{[24572]} في الآخرة " .
وقال{[24573]} ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن سواد السَّرْحي ، أخبرنا ابن وهب ، عن ابن لَهِيعَة ، عن عقيل بن خالد ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ؛ أن أبا أمامة حدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم ، وذكر حلي أهل الجنة فقال : " مسورون بالذهب والفضة ، مُكَلَّلة بالدّر ، وعليهم أكاليل من دُرّ وياقوت متواصلة ، وعليهم تاج كتاج الملوك ، شباب جُرْدٌ مُردٌ مكحَّلُون " . {[24574]}
{ جنات عدن يدخلونها } مبتدأ وخبر والضمير للثلاثة أو ل { الذين } أو لل { مقتصد } وال { سابق } ، فإن المراد بهما الجنس وقرئ " جنة عدن " و { جنات عدن } منصوب بفعل يفسره الظاهر ، وقرأ أبو عمرو " يدخلونها " على البناء للمفعول . { يحلون فيها } خبر ثان أو حال مقدرة ، وقرئ " يحلون " من حليت المرأة فهي حالية . { من أساور من ذهب } { من } الأولى للتبعيض والثانية للتبيين . { ولؤلؤا } عطف على { ذهب } أي { من ذهب } مرصع باللؤلؤ ، أو { من ذهب } في صفاء اللؤلؤ ونصبه نافع وعاصم رحمهما الله تعالى عطفا على محل { من أساور } { ولباسهم فيها حرير } .
والضمير في { يدخلونها } عائد على الأصناف الثلاثة ، قالت عائشة : دخلوا الجنة كلهم ، وقال كعب الأحبار : استوت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم ، وفي رواية تحاكت مناكبهم ، وقال أبو إسحاق السبيعي{[9727]} : أما الذي سمعت مذ ستين سنة فكلهم ناج ، وقال عبد الله بن مسعود : هذه الأمة يوم القيامة أثلاث ، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ، ثم يدخلون الجنة ، وثلث يجيئون بذنوب عظام فيقول الله ما هؤلاء وهو أعلم بهم فتقول الملائكة : هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا فيقول الله عز وجل : أدخلوهم في سعة رحمتي ، وقالت عائشة في كتاب الثعلبي : «السابق » من أسلم قبل الهجرة ، و «المقتصد » من أسلم بعدها ، و «الظالم » نحن ، وقال الحسن : «السابق » من رجحت حسناته ، و «المقتصد » من استوت سيئاته و «الظالم » من خفت موازينه ، وقال سهل بن عبد الله{[9728]} : «السابق » العالم ، و «المقتصد » المتعلم ، و «الظالم » الجاهل ، وقال ذو النون{[9729]} المصري ، «الظالم » الذاكر لله بلسانه فقط و «المقتصد » الذاكر بقلبه و «السابق » الذي لا ينساه ، وقال الأنطاكي : «الظالم » صاحب الأقوال ، و «المقتصد » صاحب الأفعال ، و «السابق » صاحب الأحوال ، وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال :
«كلهم في الجنة »{[9730]} ، وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له{[9731]} » ، وقال صلى الله عليه وسلم : «أنا سابق العرب وسلمان سابق فارس وصهيب سابق الروم وبلال سابق الحبشة{[9732]} » .
قال القاضي أبو محمد : أراد صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء رؤوس السابقين ، وقال عثمان بن عفان : سابقنا أهل جهادنا ومقتصدنا أهل حضرنا وظالمنا أهل بدونا ، لا يشهدون جماعة ولا جمعة{[9733]} ، وقال عكرمة والحسن وقتادة ما مقتضاه أن الضمير في { منهم } عائد على العباد و «الظالم لنفسه » الكافر والمنافق و «المقتصد » المؤمن العاصي و «السابق » التقي على الإطلاق ، وقالوا وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة { وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم }{[9734]} [ الواقعة : 12 ] والضمير في قوله { يدخلونها } على هذا القول خاص على الفريقين المقتصد والسابق الفرقة الظالمة في النار قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفى ظالم كما يقتضي التأويل الأول ، وروي هذا القول عن ابن عباس ، وقال بعض العلماء قدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله والمقتصد هو المعتدل في أموره لا يسرف في جهة من الجهات بل يلزم الوسط ، وقال صلى الله عليه وسلم : «خير الأمور أوساطها »{[9735]} ، وقالت فرقة -لا معنى لقولها- إن قوله تعالى : { الذين اصطفيناهم } الأنبياء والظالم منهم لنفسه من وقع في صغيرة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مردود من غير ما وجه ، وقرأ جمهور الناس «سابق بالخيرات » ، وقرأ أبو عمرو الجوني «سباق بالخيرات » ، و { بإذن الله } معناه بأمره ومشيئته فيمن أحب من عباده ، وقوله تعالى : { ذلك هو الفضل الكبير } إشارة إلى الاصطفاء وما يكون عنه من الرحمة ، وقال الطبري : السبق بالخيرات هو { الفضل الكبير } ، قال في كتاب الثعلبي جمعهم في دخول الجنة لأنه ميراث ، والبار والعاق سواء في الميراث مع صحة النسب ، فكذلك هؤلاء مع صحة الإيمان ، وقرأ جمهور الناس «جناتُ » بالرفع على البدل من { الفضل } وقرأ الجحدري «جناتِ » بالنصب بفعل مضمر يفسره { يدخلونها } وقرأ زر بن حبيش «جنة عدن » على الإفراد ، وقرأ أبو عمرو وحده «يُدخَلونها » بضم الياء وفتح الخاء ، ورويت عن ابن كثير ، وقرأ الباقون «يَدخُلونها » بفتح الياء وضم الخاء ، و { أساور } جمع أسورة ، وأسورة جمع سوار ، ويقال سُوار بضم السين ، وفي حرف أبي أساوير ، وهو جمع أسوار وقد يقال ذلك في الحلي ، ومشهور أسوار أنه الجيد الرمي من جند الفرس ، ويحلون معناه رجلاً ونساء ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر{[9736]} ونافع «ولؤلؤاً » بالنصب عطفاً على { أساور } ، وكان عاصم في رواية أبي بكر يقرأ و «لوْلؤاً » بسكون الواو الأولى دون همز ، وبهمز الثانية ، وروي عنه ضد هذا همز الأولى ، ولا يهمز الثانية ، وقرأ الباقون «لؤلؤٍ » بالهمز وبالخفض عطفاً على { أساور } .
الأظهر أنه بدل اشتمال من قوله : { ذلك هو الفضل الكبير } [ فاطر : 32 ] فإن مما يشتمل عليه الفضل دخولهم الجنة كما علمت وتخصيص هذا الفضل من بين أصنافه لأنه أعظم الفضل لأنه أمارة على رضوان الله عنهم حين إدخالهم الجنة ، { ورضوانٌ من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] .
ويجوز أن يكون استئنافاً بيانياً لبيان الفضل الكبير وقد بيّن بأعظم أصنافه . والمعنى واحد .
وضمير الجماعة في { يدخلونها } راجع إلى { الذين اصطفينا } [ فاطر : 32 ] المقسم إلى ثلاثة أقسام : ظالممٍ ، ومقتصدٍ ، وسابققٍ ، أي هؤلاء كلهم يدخلون الجنة لأن المؤمنين كلهم مآلهم الجنة كما دلت عليه الأخبار التي تكاثرت . وقد روى الترمذي بسند فيه مجهولان عن أبي سعيد الخدري « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } [ فاطر : 32 ] قال : " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة " . قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . قال أبو بكر بن العربي في « العارضة » : من الناس من قال : إن هذه الأصناف الثلاثة هم الذين في سورة الواقعة ( 8 10 ) : { أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون } وهذا فاسد لأن أصحاب المشأمة في النار الحامية ، وأصحاب سورة فاطر في جنة عالية لأن الله ذكرهم بين فاتحة وخاتمة فأما الفاتحة فهي قوله : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } [ فاطر : 32 ] فجعلهم مصطفَيْن . ثم قال في آخرهم { جنات عدن يدخلونها } [ فاطر : 33 ] ولا يصطفَى إلا من يدخل الجنة ، ولكن أهل الجنة ظالم لنفسه فقال : { فمنهم ظالم لنفسه } [ فاطر : 32 ] وهو العاصي والظالم المطلق هو الكافر ، وقيل عنه : الظالم لنفسه رفقاً به ، وقيل للآخر : السابق بإذن الله إنباء أن ذلك بنعمة الله وفضله لا من حال العبد ا ه .
وفي الإِخبار بالمسند الفعلي عن المسنْد إليه إفادة تقوي الحكم وصوَغ الفعل بصيغة المضارع لأنه مستقبل ، وكذلك صوغ { يحلون } وهو خبر ثانٍ عن { جنات عدن } . وتقدم نظيرها في سورة الحج فانظره .
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر { ولؤلؤاً } بالنصب عطفاً على محل { أساور } لأنه لما جر بحرف الجر الزائد كان في موضع نصب على المفعول الثاني لفعل { يحلون } فجاز في المعطوف أن ينصب على مراعاة محل المعطوف عليه . وقرأه الباقون بالجر على مراعاة اللفظ ، وهما وجهان .