وقوله : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ } يدخل في هذا ، النفقات الواجبة ، من الزكاة والكفارات{[1109]} ونفقة الزوجات ، والمماليك ، ونحو ذلك ، والنفقات المستحبة ، كبذل المال في جميع المصالح ، وقال : { مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ } ليدل ذلك على أنه تعالى ، لم يكلف العباد من النفقة ، ما يعنتهم ويشق عليهم ، بل أمرهم بإخراج جزء{[1110]} مما رزقهم الله الذي يسره لهم{[1111]} ويسر لهم أسبابه .
فليشكروا الذي أعطاهم ، بمواساة إخوانهم المحتاجين ، وليبادروا بذلك ، الموت الذي إذا جاء ، لم يمكن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير ، ولهذا قال : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ } متحسرًا على ما فرط في وقت الإمكان ، سائلاً الرجعة التي هي محال : { رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي : لأتدارك ما فرطت فيه ، { فَأَصَّدَّقَ } من مالي ، ما به أنجو من العذاب ، وأستحق به جزيل الثواب ، { وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } بأداء المأمورات كلها ، واجتناب المنهيات ، ويدخل في هذا ، الحج وغيره .
ثم حضهم - سبحانه - على الإنفاق فى سبيله فقال : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين } .
والمراد بالإنفاق : إنفاق المال فى وجوه الخير والطاعات ، فيشمل الزكاة المفروضة ، والصدقات المستحبة ، وغير ذلك من وجوه البر والخير .
و " من " فى قوله - تعالى - { مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ } للتبعيض إذ المطلوب إنفاقه بعض المال الذى يملكه الإنسان ، وليس كله ، وهذا من باب التوسعة منه - تعالى - على عباده ، ومن مظاهر سماحة شريعته - عز وجل - .
والمراد بالموت : علاماته وأماراته الدالة على قرب وقوعه .
وقوله { فَيَقُولُ } معطوف على قوله { أَن يَأْتِيَ } ومسبب عنه .
و { لولا } بمعنى هلا فهى حرف تحضيض .
وقوله : { فَأَصَّدَّقَ } منصوب على أنه فى جواب التمنى ، { وَأَكُن } بالجزم ، لأنه معطوف على محل { فَأَصَّدَّقَ } كأنه قيل : إن أخرتنى إلى أجل قريب أتصدق وأكن من الصالحين .
والمعنى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم عن طاعة الله - تعالى - بل داوموا عليها كل المداومة ، وأنفقوا بسخاء وسماحة نفس مما أعطيناكم من أرزاق كثيرة ، ومن نعم لا تحصى ، وليكن إنفاقكم من قبل أن تنزل بأحدكم أمارات الموت وعلاماته .
وحينئذ يقول أحدكم يارب ، هلا أخرت وفاتى إلى وقت قريب من الزمان لكى أتدارك ما فاتنى من تقصير ، ولكى أتصدق بالكثير من مالى ، وأكون من عبادك الصالحين .
وقال - سبحانه - ، { مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ } فأسند الزرق إليه ، لكى يكون أدعى إلى الامتثال والاستجابة ، لأنه - سبحانه - مع أن الأرزاق جميعها منه ، إلا أنه - فضلا منه وكرما - اكتفى منهم بإنفاق جزء من تلك الأزراق .
وقدم - سبحانه - المفعول وهو " أحدكم " على الفاعل وهو " الموت " ، للإهتمام بالمفعول ، وللإشعار بأن الموت نازل بكل إنسان لا محالة .
والتعبير بقوله : { لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } يشعر بأن القائل قد قال ذلك زيادة فى تأميل الاستجابة ، فكأنه يقول : يا رب ألتمس منك أن تؤخر أجلى إلى وقت قريب لا إلى وقت بعيد لكى أتدارك ما فاتنى فى هذا الوقت القريب الذى هو منتهى سؤالى ، وغاية أملى . .
ثم حثهم على الإنفاق في طاعته فقال : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } فكل مُفَرِّط يندم عند الاحتضار ، ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرًا ، يستعتب ويستدرك ما فاته ، وهيهات ! كان ما كان ، وأتى ما هو آت ، وكل بحسب تفريطه ، أما الكفار فكما قال [ الله ]{[28912]} تعالى : { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [ إبراهيم : 44 ] وقال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 99 ، 100 ]
وأنفقوا مما رزقناكم بعض أموالكم ادخارا للآخرة من قبل أن يأتي أحدكم الموت أي يرى دلالته فيقول رب لولا أخرتني هلا أمهلتني إلى أجل قريب أمد غير بعيد فأصدق فأتصدق وأكن من الصالحين بالتدارك وجزم أكن للعطف على موضع الفاء وما بعده وقرأ أبو عمرو وأكون منصوبا عطفا على فأصدق وقرئ بالرفع على وأنا أكون فيكون عدة بالصلاح .
قال جمهور من المتأولين : المراد الزكاة ، وقال آخرون : ذلك عام في مفروض ومندوب . وقوله : { يأتي أحدكم الموت } أي علاماته ، وأوائل أمره وقوله : { لولا أخرتني إلى أجل قريب } ، طلب للكرة والإمهال ، وفي مصحف أبي بن كعب : «آخرتن » بغير ياء ، وسماه قريباً لأنه آت ، وأيضاً فإنما يتمنى ذلك ليقضي فيه العمل الصالح فقط ، وليس يتسع الأمل حينئذ لطلب العيش ونضرته ، وفي مصحف أبي : «فأتصدق » ، وقوله : { وأكن من الصالحين } ظاهره العموم ، فقال ابن عباس هو الحج ، وروي عنه أنه قال في مجلسه يوماً : ما من رجل لا يؤدي الزكاة ولا يحج إلا طلب الكرة عند موته فقال له رجل : أما تتقي الله المؤمن بطلب الكرة ؟ فقال له ابن عباس : نعم ، وقرأ الآية{[11126]} .
وقرأ جمهور السبعة والناس : «وأكنْ » بالجزم عطفاً على الموضع ، لأن التقدير : «إن تؤخرني أصدق ، وأكن » ، هذا مذهب أبي علي ، فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غير هذا وهو جزم «أكن » على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني ، ولا موضع هنا ، لأن الشرط ليس بظاهر ، وإنما يعطف علىلوضع حيث يظهر الشرط كقوله تعالى : { من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم }{[11127]} [ الأعراف : 186 ] ، ونذرهم ، فمن قرأ بالجزم عطف على موضع { فلا هادي له } [ الأعراف : 186 ] ، لأنه وقع هنالك فعل كان مجزوماً ، وكذلك من قرأ : «ونكفر » بالجزم عطفاً على موضع { فهو خير لكم }{[11128]} ، وقرأها أبو عمرو وأبو رجاء والحسن وابن أبي إسحاق ، ومالك بن دينار وابن محيصن والأعمش وابن جبير وعبيد الله بن الحسن العنبري ، قال أبو حاتم ، وكان من العلماء الفصحاء : «وأكون » بالنصب عطفاً على { فأصدق } ، وقال أبو حاتم في كتبها في المصحف بغير واو ، وإنهم حذفوا الواو كما حذفوها من «أبجد » وغيره ، ورجحها أبو علي ، وفي مصحف أبيّ بن كعب وابن مسعود : «فأتصدق وأكن »