وقيل : إن المقسم عليه قوله { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ } وهذا دعاء عليهم بالهلاك .
و { الأخدود } الحفر التي تحفر في الأرض .
وكان أصحاب الأخدود هؤلاء قومًا كافرين ، ولديهم قوم مؤمنون ، فراودوهم للدخول{[1394]} في دينهم ، فامتنع المؤمنون من ذلك ، فشق الكافرون أخدودًا [ في الأرض ] ، وقذفوا فيها النار ، وقعدوا حولها ، وفتنوا المؤمنين ، وعرضوهم عليها ، فمن استجاب لهم أطلقوه ، ومن استمر على الإيمان قذفوه في النار ، وهذا في غاية المحاربة لله ولحزبه المؤمنين ، ولهذا لعنهم الله وأهلكهم وتوعدهم فقال : { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ }
وقوله - تعالى - { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } جواب القسم بتقدير اللام وقد .
أى : وحق السماء ذات البروج ، وحق اليوم الموعود ، وحق الشاهد والمشهود ، لقد قتل ولعن أصحاب الأخدود ، وطردوا من رحمة الله بسبب كفرهم وبغيهم .
والأخدود : وهو الحفرة العظيمة المستطيلة فى الأرض ، كالخندق ، وجمعه أخاديد ، ومنه الخد لمجارى الدمع ، والمخدة : لأن الخد يوضع عليها .
ويقال : تخدد وجه الرجل ، إذا صارت فيه التجاعيد . . ومنه قول الشاعر :
ووجه كأن الشمس ألقت رداءها . . . عليه ، نقى اللون لم يتخدد
وقيل : إن جواب القسم محذوف ، دل عليه قوله - تعالى - : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء إن كفار مكة لملعونون كما لعن أصحاب الأخدود .
وأصحاب الأخدود : هم قوم من الكفار السابقين ، حفروا حفرا مستطيلة فى الأرض ، ثم أضرموها بالنار ، ثم ألقوا فيها المؤمنين ، الذين خالفوهم فى كفرهم ، وأبوا إلا إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده .
وقوله : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ } أي : لعن أصحاب الأخدود ، وجمعه : أخاديد ، وهي الحفر في الأرض ، وهذا خبر عن قوم من الكفار عَمَدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله ، عز وجل ، فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم ، فأبوا عليهم ، فحفروا لهم في الأرض أخدُودًا وأججوا فيه نار ، وأعدوا لها وقودًا يسعرونها به ، ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم ، فقذفوهم فيها ؛
ولهذا قال تعالى : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } أي : مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين .
وقوله : قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ يقول : لعن أصحاب الأخدود . وكان بعضهم يقول : معنى قوله : قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ خبر من الله عن النار أنها قتلتهم .
وقد اختلف أهل العلم في أصحاب الأخدود من هم ؟ فقال بعضهم : قوم كانوا أهل كتاب من بقايا المجوس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر عن ابن أبْزَى ، قال : لما رجع المهاجرون من بعض غزواتهم ، بلغهم نعي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال بعضهم لبعض : أيّ الأحكام تجري في المجوس ، وإنهم ليسوا بأهل كتاب ، وليسوا من مشركي العرب ، فقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : قد كانوا أهل كتاب ، وقد كانت الخمر أُحلّت لهم ، فشربها ملك من ملوكهم ، حتى ثمل منها ، فتناول أخته فوقع عليها ، فلما ذهب عنه السكر قال لها : ويحك فما المخرج مما ابتليتُ به ؟ فقالت : اخطب الناس ، فقل : يا أيها الناس إن الله قد أحلّ نكاح الأخوات ، فقام خطيبا ، فقال : يا أيها الناس إن الله قد أحلّ نكاح الأخوات ، فقال الناس : إنا نبرأ إلى الله من هذا القول ، ما أتانا به نبيّ ، ولا وجدناه في كتاب الله ، فرجع إليها نادما ، فقال لها : ويحك إن الناس قد أبَوا عليّ أن يقرّوا بذلك ، فقالت : ابسط عليهم السّياط ، ففعل ، فبسط عليهم السياط ، فأبَوا أن يقرّوا ، فرجع إليها نادما ، فقال : إنهم أبَوا أن يقرّوا ، فقالت : اخطبهم فإن أبوا فجرّد فيهم السيف ، ففعل ، فأبى عليه الناس ، فقال لها : قد أبى عليّ الناس ، فقالت : خدّ لهم الأخدود ، ثم اعرض عليها أهل مملكتك ، فمن أقرّ ، وإلاّ فاقذفه في النار ، ففعل ، ثم عرض عليها أهل مملكته ، فمن لم يقرّ منهم قذفه في النار ، فأنزل الله فيهم : قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ النّارِ ذَاتِ الوَقُودِ إلى أنْ يُؤْمِنُوا باللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ إنّ الّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ حرّقوهم ثُمّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنّمَ ولَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ فلم يزالوا منذ ذلك يستحلون نكاح الأخوات والبنات والأمهات .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ قال : حدثنا أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقول : هم ناس بمذارع اليمن ، اقتتل مؤمنوها وكفارها ، فظهر مؤمنوها على كفارها ، ثم اقتتلوا الثانية ، فظهر مؤمنوها على كفارها ، ثم أخذ بعضهم على بعض عهدا ومواثيق أن لا يغدر بعضهم ببعض ، فغدر بهم الكفار فأخذوهم أخذا ثم إن رجلاً من المؤمنين قال لهم : هل لكم إلى خير ، توقدون نارا ثم تعرضوننا عليها ، فمن تابعكم على دينكم فذلك الذي تشتهون ، ومن لا ، اقتحم النار فاسترحتم منه قال : فأجّجوا نارا وعرضوا عليها ، فجعلوا يقتحمونها صناديدهم ، ثم بقيت منهم عجوز كأنها نكصت ، فقال لها طفل في حجرها : يا أماه ، امضي ولا تنافقي ، قصّ الله عليكم نبأهم وحديثهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ قال : يعني القاتلين الذين قتلوهم يوم قتلوا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ النّارِ ذَاتِ الوَقُودِ قال : هم ناس من بني إسرائيل ، خدّوا أخدودا في الأرض ، ثم أوقدوا فيها نارا ، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء ، فعرضوا عليها ، وزعموا أنه دانيال وأصحابه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ قال : كان شقوق في الأرض بنَجْران ، كانوا يعذّبون فيها الناس .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ يزعمون أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل ، أخذوا رجالاً ونساء ، فخدّوا لهم أخدودا ، ثم أوقدوا فيها النيران ، فأقاموا المؤمنين عليها ، فقالوا : تكفرون أو نقذفكم في النار .
حدثني محمد بن معمر ، قال : ثني حرمي بن عمارة ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا ثابت البُنانيّ ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلَى ، عن صهيب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كان فِيمَنْ كانَ قَبْلَكُمْ مَلِكٌ ، وكانَ لَهُ ساحِرٌ ، فأَتى السّاحِرُ المَلِكَ ، فَقالَ : قَدْ كَبِرَتْ سِنّي ، وَدَنا أجَلِي ، فادْفَعْ لي غُلاما أُعَلّمْهُ السّحْرَ قالَ : فَدَفَعَ إلَيْهِ غُلاما يُعَلّمَهُ السّحْرَ ، قالَ : فَكانَ الغُلامُ يَخْتَلِفُ إلى السّاحِرِ ، وكانَ بَينَ السّاحِرِ وَبَينَ المَلِكِ رَاهِبٌ قال : فَكانَ الغُلامُ إذَا مَرّ بالرّاهِبِ قَعَدَ إلَيْهِ ، فَسَمِعَ مِنْ كَلامِهِ ، فأُعْجِبَ بكَلامِهِ ، فَكان الغُلامُ إذَا أَتى السّاحِرُ ضَرَبَهُ وَقالَ : ما حَبَسَكَ ؟ وَإذَا أَتى أهْلَه قَعَدَ عِنْدَ الرّاهِبِ يَسْمَعُ كَلامَهُ ، فإذَا رَجَعَ إلى أهْلِهِ ضَرَبُوهُ وَقالُوا : ما حَبَسَكَ ؟ فَشَكا ذلك إلى الرّاهِبِ ، فَقالَ لَهُ الرّاهِبُ : إذَا قالَ لكَ السّاحِر : ما حَبَسَكَ ؟ قُلْ حَبَسَنِي أهْلِي ، وَإذَا قالَ أهْلُكَ : ما حَبَسَكَ ؟ فَقُلْ حَبَسَنِي السّاحِرُ . فَبَيْنَما هُو كَذلكَ إذْ مَرّ في طَرِيقٍ وَإذَا دَابّةٌ عَظِيمَةٌ فِي الطّرِيقِ قَدْ حَبَسَتِ النّاسَ لا تَدَعْهُمْ يَجُوزُونَ فَقالَ الغُلامُ : الاَنَ أعْلَمُ أمْرُ السّاحِرِ أرْضَى عِنْدَ اللّهِ أمْ أمْرُ الرّاهِبِ ؟ قال : فأخَذَ حَجَرا ، قال : فَقالَ : اللّهُمّ إنْ كانَ أمْرُ الرّاهِبِ أحَبّ إلَيْكَ مِنْ أمْرِ الساحِرِ فإنّي أرْمي بِحَجَرِي هَذَا فَيَقْتُلَهُ ويَمُرّ النّاسُ . قالَ : فَرَماها فَقَتَلَها ، وَجازَ النّاسُ فَبَلَغَ ذلكَ الرّاهِبَ قال : وأتاهُ الغُلام فَقالَ الرّاهِبُ للْغُلامِ : إنّكَ خَيْرٌ مِنّي ، وَإن ابْتُلِيتَ فَلا تَدُلّنّ عَليّ قال : وكانَ الغُلامُ ، يُبْرِىء الأكْمَهَ والأبْرَصَ ، وَسائِرَ الأدْوَاءِ وكان للْمَلِكِ جَلِيسٌ ، قال : فَعَمِيَ قال : فَقِيلَ له : إنّ هاهُنا غُلاما يُبْرِىءُ الأكمَهَ والأبْرَص ، وَسائِرَ الأدْوَاءِ ، فَلَوْ أتَيْتَهُ ؟ قال : فاتّخَذَ لَهُ هَدَايا قال : ثُمّ أتاهُ فَقالَ : يا غُلامُ إنْ أبْرأتَنِي فَهَذه الهَدَايا كُلّها لَكَ ، فَقال : ما أنا بطَبِيبٍ يَشْفِيكَ ، وَلَكِنّ اللّهَ يَشْفِي ، فإذَا آمَنْتَ دَعَوْتُ اللّهَ أنْ يَشْفِيَكَ قال : فآمَنَ الأعْمَى ، فَدَعا اللّهَ فَشَفاهُ ، فَقَعَدَ الأعْمَى إلى المَلِكِ كمَا كانَ يَقْعُدُ ، فَقالَ لَهُ المَلِكُ : ألَيْسَ كُنْتَ أعْمَى ؟ قالَ : نَعَمْ قال : فَمَنْ شَفاكَ ؟ قال : رَبّي قال : ولَكَ رَبّ غَيرِي ؟ قال : نَعَمْ ، رَبّي وَرَبّكَ اللّهُ قال : فأخَذَهُ بالْعَذَابِ فَقالَ : لَتَدُلّنّنِي عَلى مَنْ عَلّمَكَ هَذا ، قال : فَدَلّ عَلى الغُلامِ ، فَدَعا الغُلامَ فقالَ : ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ ، قال : فأَبى الغُلامُ قال : فأخَذَهُ بالعَذَابِ قال : فَدَلّ عَلى الرّاهِبِ ، فأخَذَ الرّاهِبَ ، فَقالَ : ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فأَبى قال : فَوَضَعَ المِنْشارَ عَلى هامَتِهِ فَشَقّهُ حتى بَلَغَ الأرْضَ ، قال : وأخَذَ الأعْمَى فَقال : لَترْجِعَنّ أوْ لأَقْتُلَنّكَ قال : فأَبى الأعْمَى ، فَوَضَعَ المِنْشارَ عَلى هامَتِهِ ، فَشَقّهُ حتى بَلَغَ الأرْضَ ، ثُمّ قالَ للْغُلامِ : لَترْجِعَنّ أوْ لأَقْتُلَنّكَ قال : فأَبى قال : فقال : اذْهَبُوا بِهِ حتى تَبْلُغُوا بِهِ ذِرْوَةَ الجَبَلِ ، فإنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ ، وَإلاّ فَدَهْدِهُوهُ ، فَلَمّا بَلَغُوا به ذِرْوَةَ الجَبَلِ فَوَقَعُوا فَمَاتُوا كُلّهُمْ . وَجاءَ الغُلامُ يَتَلَمّسُ حتى دَخَلَ عَلى المَلِكِ ، فَقال : أيْنَ أصحَابُكَ ؟ قال : كَفانِيهُمُ اللّهُ قال : فاذْهَبُوا بِهِ فاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ ، فَتَوَسّطُوا بِهِ الْبَحْرَ ، فإنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإلاّ فَغَرّقُوهُ قال : فَذَهَبُوا بِهِ ، فَلَمّا تَوَسّطُوا بِهِ البَحْرَ قالَ الغُلامُ : اللّهُمّ اكْفِنِيهِمْ ، فانْكَفأَتْ بِهِمُ السّفِينَةُ . وَجاءَ الغُلامُ يَتَلَمّسُ حتى دَخَلَ على المَلِكِ فَقالَ المَلِكُ : أيْنَ أصحَابُكَ ؟ فقال : دَعَوْتُ اللّهَ فَكَفانِيهِمْ ، قال : لأَقْتُلَنّكَ ، قال : ما أنْتَ بقاتِلي حتى تَصْنَعَ ما آمُرُكَ ، قال : فَقال الغُلامُ للْمَلِكِ : اجْمَعِ النّاسَ فِي صَعِيدٍ واحِدٍ ، ثُمّ اصْلُبْنِي ، ثُمّ خُذْ سَهْما مِنْ كِنانَتي فارْمِني وَقُلْ : باسْمِ رَبّ الغُلامِ ، فإِنّكَ سَتَقْتُلُنِي قال : فَجَمَعَ النّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ قال : وَصَلَبَهُ وأخَذَ سَهْما مِنْ كِنانَتهِ ، فَوَضَعَهُ فِي كَبِدِ القَوْسِ ، ثُمّ رَمى ، فَقال : باسْمِ رَبّ الغُلامِ ، فَوَقَعَ السّهْمُ فِي صُدْغِ الغُلامِ ، فَوَضَعَ يَدَهُ هَكَذَا عَلى صُدْغِهِ ، وَماتَ الغُلامُ ، فَقالَ النّاسُ : آمَنّا بِرَبّ الغُلامِ ، فَقالُوا للْمَلِكِ : ما صَنَعْتَ ، الّذِي كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَقَعَ ، قَدْ آمَنَ النّاسُ ، فأمَرَ بأفْوَاهِ السّكَكِ فأُخِذَتْ ، وخَدّ الأُخْدُودَ وضَرّمَ فِيهِ النّيرَانَ ، وأخَذَهُمْ وَقالَ : إنْ رَجَعُوا وَإلاّ فألْقُوهُمْ فِي النّارِ قال : فَكانُوا يُلْقُونَهُمْ فِي النّارِ قال : فَجاءَتِ امْرأةٌ مَعَها صَبِيّ لَهَا ، قالَ : فَلَمّا ذَهَبَتْ تَقْتَحِمُ وَجَدَتْ حَرّ النّارِ ، فَنَكَصَتْ ، قال : فَقالَ لَهَا صَبِيّها يا أُمّاهُ ، امْضِي فإنّكِ عَلى الحَقّ ، فاقْتَحَمَتْ فِي النارِ » .
وقال آخرون : بل الذين أحرقتهم النار هم الكفار الذين فَتَنوا المؤمنين . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن عمار ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : كان أصحاب الأخدود قوما مؤمنين ، اعتزلوا الناس في الفترة ، وإنّ جَبّارا ، من عَبدة الأوثان أرسل إليهم ، فعرض عليهم الدخول في دينه ، فأبوا ، فخدّ أخدودا ، وأوقد فيه نارا ، ثم خيرهم بين الدخول في دينه ، وبين إلقائهم في النار ، فاختاروا إلقاءهم في النار ، على الرجوع عن دينهم ، فألقوا في النار ، فنجّى الله المؤمنين الذين أُلْقُوا في النار من الحريق ، بأن قبض أرواحهم ، قبل أن تمسهم النار ، وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم ، فذلك قول الله : فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنّمَ في الاَخرة ولَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ في الدنيا .
واختُلف في موضع جواب القسم بقوله : والسّماءِ ذَاتِ البُرُوجِ فقال بعضهم : جوابه : إنّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : وقع القسم هاهنا إنّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ .
وقال بعض نحويّي البصرة : موضع قسمها والله أعلم ، على قتل أصحاب الأخدود ، أضمر اللام كما قال : والشّمْسِ وضُحاها قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها يريد : إن شاء الله : لقد أفلح من زكّاها ، فألقى اللام ، وإن شئت قلت على التقديم ، كأنه قال : قتل أصحاب الأخدود ، والسماء ذات البروج .
وقال بعض نحويي الكوفة : يقال في التفسير : إن جواب القسم في قوله : قُتِلَ كما كان قسم والشّمْسِ وَضُحاها في قوله : قَدْ أفْلَحَ هذا في التفسير قالوا : ولم نجد العرب تدع القسم بغير لام يستقبل بها أو «لا » أو «إن » أو «ما » ، فإن يكن ذلك كذلك ، فكأنه مما ترك فيه الجواب ، ثم استؤنف موضع الجواب بالخبر ، كما قيل : يا أيها الإنسان ، في كثير من الكلام .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب : قول من قال : جواب القسم في ذلك متروك ، والخبر مستأنف لأن علامة جواب القسم لا تحذفها العرب من الكلام إذا أجابته .
وأولى التأويلين بقوله : قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ : لُعِن أصحاب الأخدود الذين ألقوا المؤمنين والمؤمنات في الأخدود .
وإنما قلت : ذلك أولى التأويلين بالصواب للذي ذكرنا عن الربيع من العلة ، وهو أن الله أخبر أن لهم عذاب الحريق مع عذاب جهنم ، ولو لم يكونوا أحرقوا في الدنيا لم يكن لقوله ولَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ معنى مفهوم ، مع إخباره أن لهم عذاب جهنم ، لأن عذابَ جهنم هو عذاب الحريق مع سائر أنواع عذابها في الاَخرة والأخدود : الحفرة تحفر في الأرض .
قتل أصحاب الأخدود قيل إنه جواب القسم على تقدير لقد قتل والأظهر أنه دليل جواب محذوف كأنه قيل إنهم ملعونون يعني كفار مكة لعن أصحاب الأخدود فإن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على أذاهم وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم والأخدود الخد وهو الشق في الأرض ونحوهما بناء ومعنى الحق والأحقوق روي مرفوعا أن ملكا كان له ساحرا فلما كبر ضم إليه غلاما ليعلمه وكان في طريقه راهب فمال قلبه إليه فرأى في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجرا وقال اللهم إن كان الراهب أحب إليه من الساحر فاقتلها فقتلها وكان الغلام بعد يبرىء الأكمه والأبرص ويشفي من الأدواء وعمي جليس الملك فأبرأه فسأله الملك عمن أبرأه فقال ربي فغضب فعذبه فدل على الغلام فعذبه فدل على الراهب فقده بالمنشار وأرسل الغلام إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا فرجف بالقوم فهلكوا ونجا وأجلسه في سفينة ليغرق فدعا فانكفأت السفينة بمن معه فغرقوا ونجا فقال للملك لست بقاتلي حتى تجمع الناس وتصلبني وتأخذ سهما من كنانتي وتقول بسم الله رب هذا الغلام ثم ترميني به فرماه فوقع في صدغه فمات فآمن الناس برب الغلام فأمر بأخاديد وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست فقال الصبي يا أماه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت وعن علي رضي الله تعالى عنه كان بعض ملوك المجوس خطب الناس وقال إن الله أحل نكاح الأخوات فلم يقبلوه فأمر بأخاديد النار فطرح فيها من أبى وقيل لما تنصر نجران غزاهم ذو نواس اليهودي من حمير فأحرق في الأخاديد من لم يرتد .
واختلف الناس في { أصحاب الأخدود } ، فقيل : هو قوم كانوا على دين كان لهم ملك فزنى بأخته ، ثم حمله بعض نسائه على أن يسن في الناس نكاح البنات والأخوات ، فحمل الناس على ذلك فأطاعه كثير وعصيته فرقة فخَدَّ لهم أخاديد ، وهي حفائر طويلة كالخنادق ، وأضرم لهم ناراً وطرحهم فيها ، ثم استمرت المجوسية في مطيعيه ، وقال علي بن أبي طالب : { الأخدود } ، وملك حمير ، كان بمزارع{[11728]} من اليمن ، اقتتل هو والكفار مع المؤمنين ثم غلب في آخر الأمر فحرقهم على دينهم إذا أبوا دينه ، وفيهم كانت المرأة ذات الطفل التي تلكأت ، فقال لها الطفل : امضي في النار فإنك على الحق ، وحكى النقاش عن علي رضي الله عنه ، أن نبيّ { أصحاب الأخدود } كان حبشياً ، وأن الحبشة بقية { أصحاب الأخدود } وقيل : { أصحاب الأخدود } ذو نواس في قصة عبد الله بن التامر التي وقعت في السير ، وقيل : كان { أصحاب الأخدود } في بني إسرائيل .
قال القاضي أبو محمد : ورأيت في بعض الكتب أن صاحب الأخدود هو محرق وأنه الذي حرق من بني تميم المائة ، ويعترض هذا القول بقوله تعالى : { وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } ، فينفصل عن هذا الاعتراض بأن هذا الكلام من قصة { أصحاب الأخدود } ، وأن المراد بقوله : { وهم } قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات ، واختلف الناس في جواب القسم ، فقال بعض النحاة : هو محذوف لعلم السامع به ، وقال آخرون : هو في قوله تعالى : { قتل } ، والتقدير لقتل ، وقال قتادة : هو في قوله : إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ .
وجواب القسم قيل محذوف لدلالة قوله : { قتل أصحاب الأخدود } عليه والتقدير أنهم ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود . وقيل : تقديره : أن الأمر لحق في الجزاء على الأعمال : أو لتبعثن .
وقيل : الجواب مذكور فيما يلي فقال الزجاج : هو { إن بطش ربك لشديد } [ البروج : 12 ] ( أي والكلام الذي بينهما اعتراض قصد به التوطئة للمقسم عليه وتوكيد التحقيق الذي أفاده القسم بتحقيق ذكر النظير ) . وقال الفراء : الجواب : { قُتل أصحاب الأخدود } ( أي فيكون قُتِلَ خَبَراً لادعاء وَلا شتماً ولا يلزم ذكر ( قد ) في الجواب مع كون الجواب ماضياً لأن ( قد ) تحذف بناء على أن حذفها ليس مشروطاً بالضرورة ) .
ويتعين على قول الفراء أن يكون الخبر مستعملاً في لازم معناه من الإِنذار للذين يَفتنون المؤمنين بأن يحلّ بهم ما حلّ بفاتني أصحاب الأخدود ، وإلا فإن الخبر عن أصحاب الأخدود لا يحتاج إلى التوكيد بالقسم إذ لا ينكره أحد فهو قصة معلومة للعرب .
وانتساق ضمائر جمع الغائب المرفوعة من قوله : { إذ هم عليها قعود } إلى قوله : { وما نقموا } يقتضي أن يكون أصحاب الأخدود وَاضعيه لتعذيب المؤمنين .
وقيل : الجواب هو جملة : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] فيكون الكلام الذي بينهما اعتراضاً وتوطئة على نحو ما قررناه في كلام الزجاج .
وقوله : { قتل أصحاب الأخدود } صيغته تشعر بأنه إنشاء شتم لهم شتم خزي وغضب وهؤلاء لم يُقتلوا ففعل قُتِل ليس بخبر بل شتم نحو قوله تعالى : { قُتل الخرّاصون } [ الذاريات : 10 ] . وقولهم قاتله الله ، وصدوره من الله يفيد معنى اللعن ويدل على الوعيد لأن الغضب واللعن يستلزمان العقاب على الفعل الملعون لأجله .
وقيل : هو دعاء على أصحاب الأخدود بالقتل كقوله تعالى : { قتل الإنسان ما أكفره } [ عبس : 17 ] والقَتل مستعار لأشد العذاب كما يقال : أهلكه الله ، أي أوقعه في أشد العناء ، وأيَّاً مَّا كان فجملة { قتل أصحاب الأخدود } على هذا معترضة بين القسم وما بعده .
ومَن جَعل { قتل أصحاب الأخدود } جواب القسم جعل الكلام خبراً وقدَّره لقد قتل أصحاب الأخدود ، فيكون المراد من أصحاب الأخدود الذين أُلقوا فيه وعُذبوا به ويكون لفظ أصحاب مستعملاً في معنى مجرد المقارنة والملازمة كقوله تعالى : { يا صاحبي السجن } [ يوسف : 39 ] وقد علمتَ آنفاً تَعيُّن تأويل هذا القول بأن الخبر مستعمل في لازم معناه .
ولفظ { أصحاب } يُعمّ الآمرين بجعل الأخدود والمباشرين لِحفره وتسعيره ، والقائمين على إلقاء المؤمنين فيه .
وهذه قصة اختلف الرواة في تعيينها وفي تعيين المراد منها في هذه الآية .
والروايات كلها تقتضي أن المفتونين بالأخدود قوم اتبَعوا النصرانية في بلاد اليمن على أكثر الروايات ، أو في بلاد الحبشة على بعض الروايات ، وذُكرتْ فيها روايات متقاربة تختلف بالإِجمال والتفصيل ، والترتيب ، والزيادة ، والتعيين وأصحّها ما رواه مسلم والترمذي عن صُهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قصَّ هذه القصة على أصحابه . وليس فيما رُوي تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقها تفسيراً لهذه الآية والترمذي ساق حديثها في تفسير سورة البروج .
وعن مقاتل كان الذين اتخذوا الأخاديد في ثلاث من البلاد بنجران ، وبالشام ، وبفارس ، أما الذي بالشام ف ( انطانيوس ) الرومي وأما الذي بفارس فهو ( بختنصر ) والذي بنجران فيوسف ذو نواس ولنذكر القصة التي أشار إليها القرآن تؤخذ من « سيرة ابن إسحاق » على أنها جرت في نجران من بلاد اليمن ، وأنه كان مَلِكٌ وهو ذو نواس له كاهن أو ساحر . وكان للساحر تلميذ اسمه عبد الله بن الثامر وكان يَجِد في طريقه إذا مشى إلى الكاهن صومعة فيها راهب كان يعبد الله على دين عيسى عليه السّلام ويقرأ الإنجيل اسمه ( فَيْمِيُون ) بفاء ، فتحتية ، فميم ، فتحتية ( وضبط في الطبعة الأوروبية من « سيرة ابن إسحاق » التي يلوح أن أصلها المطبوعة عليه أصل صحيح ، بفتح فسكون فكسر فضم ) قال السهيلي : ووقع للطبري بقاف عوض الفاء .
وقد يحرف فيقال ميمون بميم في أوله وبتحتية واحدة ، أصله من غسان من الشام ثم سَاح فاستقر بنجران ، وكان منعزلاً عن الناس مختفياً في صومعته وظهرت لعبد الله في قومه كرامات . وكان كلما ظهرت له كرامة دعا من ظهرتْ لهم إلى أن يتبعوا النصرانية ، فكثر المتنصرون في نجران وبلغ ذلك المَلكَ ذا نُواس وكان يهودياً وكان أهل نجران مشركين يعبدون نخلة طويلة ، فقتل الملك الغلامَ وقَتَل الراهب وأمر بأخاديد وجُمع فيها حَطب وأُشعلت ، وعُرض أهل نجران عليها فمن رجع عن التوحيد تركه ومن ثبت على الدين الحق قذفه في النار .
فكان أصحاب الأخدود ممن عُذِّب من أهلِ دين المسيحية في بلاد العرب . وقِصص الأخاديد كثيرة في التاريخ ، والتعذيب بالحرق طريقة قديمة ، ومنها : نار إبراهيم عليه السلام . وأما تحريق عَمرو بن هند مائةً من بني تميم وتلقيبُه بالمحرق فلا أعرف أن ذلك كان باتخاذ أخدود . وقال ابن عطية : رأيت في بعض الكتب أن أصحاب الأخدود هو مُحرق وآله الذي حَرق من بني تميم مائةً .
و{ الأخدود } : بوزن أُفعول وهو صيغة قليلة الدوران غيرُ مقيسة ، ومنها قولهم : أفحوص مشتق من فحصت القطاة والدجاجةُ إذا بحثت في التراب موضعاً تَبيض فيه ، وقولُهم أسلوب اسم لطريقة ، ولسطر النّخل ، وأقنوم اسم لأصل الشيء . وقد يكون هذا الوزن مع هاء تأنيث مثل أكرومة ، وأعجوبة ، وأُطروحة وأضحوكة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ "يقول: لعن أصحاب الأخدود. وكان بعضهم يقول: معنى قوله: "قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ" خبر من الله عن النار أنها قتلتهم.
وقد اختلف أهل العلم في أصحاب الأخدود من هم؟
فقال بعضهم: قوم كانوا أهل كتاب من بقايا المجوس...
عن قتادة، في قوله: قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ قال: يعني القاتلين الذين قتلوهم يوم قتلوا...
عن ابن عباس: "قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ النّارِ ذَاتِ الوَقُودِ" قال: هم ناس من بني إسرائيل، خدّوا أخدودا في الأرض، ثم أوقدوا فيها نارا، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء، فعرضوا عليها...
عن مجاهد، قوله: "قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ" قال: كان شقوق في الأرض بنَجْران، كانوا يعذّبون فيها الناس.
[عن] الضحاك يقول في قوله: "قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ" يزعمون أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل، أخذوا رجالاً ونساء، فخدّوا لهم أخدودا، ثم أوقدوا فيها النيران، فأقاموا المؤمنين عليها، فقالوا: تكفرون أو نقذفكم في النار.
حدثني محمد بن معمر، قال: ثني حرمي بن عمارة، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا ثابت البُنانيّ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلَى، عن صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فِيمَنْ كانَ قَبْلَكُمْ مَلِكٌ، وكانَ لَهُ ساحِرٌ، فأَتى السّاحِرُ المَلِكَ، فَقالَ: قَدْ كَبِرَتْ سِنّي، وَدَنا أجَلِي، فادْفَعْ لي غُلاما أُعَلّمْهُ السّحْرَ قالَ: فَدَفَعَ إلَيْهِ غُلاما يُعَلّمَهُ السّحْرَ، قالَ: فَكانَ الغُلامُ يَخْتَلِفُ إلى السّاحِرِ، وكانَ بَينَ السّاحِرِ وَبَينَ المَلِكِ رَاهِبٌ قال: فَكانَ الغُلامُ إذَا مَرّ بالرّاهِبِ قَعَدَ إلَيْهِ، فَسَمِعَ مِنْ كَلامِهِ، فأُعْجِبَ بكَلامِهِ، فَكان الغُلامُ إذَا أَتى السّاحِرُ ضَرَبَهُ وَقالَ: ما حَبَسَكَ؟ وَإذَا أَتى أهْلَه قَعَدَ عِنْدَ الرّاهِبِ يَسْمَعُ كَلامَهُ، فإذَا رَجَعَ إلى أهْلِهِ ضَرَبُوهُ وَقالُوا: ما حَبَسَكَ؟ فَشَكا ذلك إلى الرّاهِبِ، فَقالَ لَهُ الرّاهِبُ: إذَا قالَ لكَ السّاحِر: ما حَبَسَكَ؟ قُلْ حَبَسَنِي أهْلِي، وَإذَا قالَ أهْلُكَ: ما حَبَسَكَ؟ فَقُلْ حَبَسَنِي السّاحِرُ. فَبَيْنَما هُو كَذلكَ إذْ مَرّ في طَرِيقٍ وَإذَا دَابّةٌ عَظِيمَةٌ فِي الطّرِيقِ قَدْ حَبَسَتِ النّاسَ لا تَدَعْهُمْ يَجُوزُونَ فَقالَ الغُلامُ: الاَنَ أعْلَمُ أمْرُ السّاحِرِ أرْضَى عِنْدَ اللّهِ أمْ أمْرُ الرّاهِبِ؟ قال: فأخَذَ حَجَرا، قال: فَقالَ: اللّهُمّ إنْ كانَ أمْرُ الرّاهِبِ أحَبّ إلَيْكَ مِنْ أمْرِ الساحِرِ فإنّي أرْمي بِحَجَرِي هَذَا فَيَقْتُلَهُ ويَمُرّ النّاسُ. قالَ: فَرَماها فَقَتَلَها، وَجازَ النّاسُ فَبَلَغَ ذلكَ الرّاهِبَ قال: وأتاهُ الغُلام فَقالَ الرّاهِبُ للْغُلامِ: إنّكَ خَيْرٌ مِنّي، وَإن ابْتُلِيتَ فَلا تَدُلّنّ عَليّ قال: وكانَ الغُلامُ، يُبْرِىء الأكْمَهَ والأبْرَصَ، وَسائِرَ الأدْوَاءِ وكان للْمَلِكِ جَلِيسٌ، قال: فَعَمِيَ قال: فَقِيلَ له: إنّ هاهُنا غُلاما يُبْرِئ الأكمَهَ والأبْرَص، وَسائِرَ الأدْوَاءِ، فَلَوْ أتَيْتَهُ؟ قال: فاتّخَذَ لَهُ هَدَايا قال: ثُمّ أتاهُ فَقالَ: يا غُلامُ إنْ أبْرأتَنِي فَهَذه الهَدَايا كُلّها لَكَ، فَقال: ما أنا بطَبِيبٍ يَشْفِيكَ، وَلَكِنّ اللّهَ يَشْفِي، فإذَا آمَنْتَ دَعَوْتُ اللّهَ أنْ يَشْفِيَكَ قال: فآمَنَ الأعْمَى، فَدَعا اللّهَ فَشَفاهُ، فَقَعَدَ الأعْمَى إلى المَلِكِ كمَا كانَ يَقْعُدُ، فَقالَ لَهُ المَلِكُ: ألَيْسَ كُنْتَ أعْمَى؟ قالَ: نَعَمْ قال: فَمَنْ شَفاكَ؟ قال: رَبّي قال: ولَكَ رَبّ غَيرِي؟ قال: نَعَمْ، رَبّي وَرَبّكَ اللّهُ قال: فأخَذَهُ بالْعَذَابِ فَقالَ: لَتَدُلّنّنِي عَلى مَنْ عَلّمَكَ هَذا، قال: فَدَلّ عَلى الغُلامِ، فَدَعا الغُلامَ فقالَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، قال: فأَبى الغُلامُ قال: فأخَذَهُ بالعَذَابِ قال: فَدَلّ عَلى الرّاهِبِ، فأخَذَ الرّاهِبَ، فَقالَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فأَبى قال: فَوَضَعَ المِنْشارَ عَلى هامَتِهِ فَشَقّهُ حتى بَلَغَ الأرْضَ، قال: وأخَذَ الأعْمَى فَقال: لَترْجِعَنّ أوْ لأَقْتُلَنّكَ قال: فأَبى الأعْمَى، فَوَضَعَ المِنْشارَ عَلى هامَتِهِ، فَشَقّهُ حتى بَلَغَ الأرْضَ، ثُمّ قالَ للْغُلامِ: لَترْجِعَنّ أوْ لأَقْتُلَنّكَ قال: فأَبى قال: فقال: اذْهَبُوا بِهِ حتى تَبْلُغُوا بِهِ ذِرْوَةَ الجَبَلِ، فإنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإلاّ فَدَهْدِهُوهُ، فَلَمّا بَلَغُوا به ذِرْوَةَ الجَبَلِ فَوَقَعُوا فَمَاتُوا كُلّهُمْ. وَجاءَ الغُلامُ يَتَلَمّسُ حتى دَخَلَ عَلى المَلِكِ، فَقال: أيْنَ أصحَابُكَ؟ قال: كَفانِيهُمُ اللّهُ قال: فاذْهَبُوا بِهِ فاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فإنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإلاّ فَغَرّقُوهُ قال: فَذَهَبُوا بِهِ، فَلَمّا تَوَسّطُوا بِهِ البَحْرَ قالَ الغُلامُ: اللّهُمّ اكْفِنِيهِمْ، فانْكَفأَتْ بِهِمُ السّفِينَةُ. وَجاءَ الغُلامُ يَتَلَمّسُ حتى دَخَلَ على المَلِكِ فَقالَ المَلِكُ: أيْنَ أصحَابُكَ؟ فقال: دَعَوْتُ اللّهَ فَكَفانِيهِمْ، قال: لأَقْتُلَنّكَ، قال: ما أنْتَ بقاتِلي حتى تَصْنَعَ ما آمُرُكَ، قال: فَقال الغُلامُ للْمَلِكِ: اجْمَعِ النّاسَ فِي صَعِيدٍ واحِدٍ، ثُمّ اصْلُبْنِي، ثُمّ خُذْ سَهْما مِنْ كِنانَتي فارْمِني وَقُلْ: باسْمِ رَبّ الغُلامِ، فإِنّكَ سَتَقْتُلُنِي قال: فَجَمَعَ النّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ قال: وَصَلَبَهُ وأخَذَ سَهْما مِنْ كِنانَتهِ، فَوَضَعَهُ فِي كَبِدِ القَوْسِ، ثُمّ رَمى، فَقال: باسْمِ رَبّ الغُلامِ، فَوَقَعَ السّهْمُ فِي صُدْغِ الغُلامِ، فَوَضَعَ يَدَهُ هَكَذَا عَلى صُدْغِهِ، وَماتَ الغُلامُ، فَقالَ النّاسُ: آمَنّا بِرَبّ الغُلامِ، فَقالُوا للْمَلِكِ: ما صَنَعْتَ، الّذِي كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَقَعَ، قَدْ آمَنَ النّاسُ، فأمَرَ بأفْوَاهِ السّكَكِ فأُخِذَتْ، وخَدّ الأُخْدُودَ وضَرّمَ فِيهِ النّيرَانَ، وأخَذَهُمْ وَقالَ: إنْ رَجَعُوا وَإلاّ فألْقُوهُمْ فِي النّارِ، قال: فَكانُوا يُلْقُونَهُمْ فِي النّارِ، قال: فَجاءَتِ امْرأةٌ مَعَها صَبِيّ لَهَا، قالَ: فَلَمّا ذَهَبَتْ تَقْتَحِمُ وَجَدَتْ حَرّ النّارِ، فَنَكَصَتْ، قال: فَقالَ لَهَا صَبِيّها يا أُمّاهُ، امْضِي فإنّكِ عَلى الحَقّ، فاقْتَحَمَتْ فِي النارِ».
وقال آخرون: بل الذين أحرقتهم النار هم الكفار الذين فَتَنوا المؤمنين... واختُلف في موضع جواب القسم بقوله: "والسّماءِ ذَاتِ البُرُوجِ"؛ فقال بعضهم: جوابه: "إنّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ"... وقال بعض نحويّي البصرة: موضع قسمها والله أعلم، على قتل أصحاب الأخدود...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب: قول من قال: جواب القسم في ذلك متروك، والخبر مستأنف لأن علامة جواب القسم لا تحذفها العرب من الكلام إذا أجابته.
وأولى التأويلين بقوله: "قُتِلَ أصحَابُ الأُخْدُودِ": لُعِن أصحاب الأخدود الذين ألقوا المؤمنين والمؤمنات في الأخدود.
وإنما قلت: ذلك أولى التأويلين بالصواب للذي ذكرنا... وهو أن الله أخبر أن لهم عذاب الحريق مع عذاب جهنم، ولو لم يكونوا أحرقوا في الدنيا لم يكن لقوله "ولَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ" معنى مفهوم، مع إخباره أن لهم عذاب جهنم، لأن عذابَ جهنم هو عذاب الحريق مع سائر أنواع عذابها في الآخرة، والأخدود: الحفرة تحفر في الأرض.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
والأخدودُ: الحُفْرةُ في الأرض إِذا كانت مستطيلةً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: أين جواب القسم؟ قلت: محذوف يدل عليه قوله: {قُتِلَ أصحاب الأخدود} كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون، يعني كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود؛ وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدّمهم: من التعذيب على الإيمان. وإلحاق أنواع الأذى، وصبرهم وثباتهم، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرّقين بالنار، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم: قتلت قريش، كما قيل: قتل أصحاب الأخدود وقتل: دعاء عليهم، كقوله: {قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قتل أصحاب الأخدود).. وهي كلمة تدل على الغضب. غضب الله على الفعلة وفاعليها. كما تدل على شناعة الذنب الذي يثير غضب الحليم، ونقمته، ووعيده بالقتل لفاعليه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجواب القسم قيل محذوف لدلالة قوله: {قتل أصحاب الأخدود} عليه والتقدير أنهم ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود. وقيل: تقديره: أن الأمر لحق في الجزاء على الأعمال: أو لتبعثن. وقيل: الجواب مذكور فيما يلي فقال الزجاج: هو {إن بطش ربك لشديد} [البروج: 12] (أي والكلام الذي بينهما اعتراض قصد به التوطئة للمقسم عليه وتوكيد التحقيق الذي أفاده القسم بتحقيق ذكر النظير). وقال الفراء: الجواب: {قُتل أصحاب الأخدود} (أي فيكون قُتِلَ خَبَراً لا دعاء وَلا شتماً ولا يلزم ذكر (قد) في الجواب مع كون الجواب ماضياً لأن (قد) تحذف بناء على أن حذفها ليس مشروطاً بالضرورة). ويتعين على قول الفراء أن يكون الخبر مستعملاً في لازم معناه من الإِنذار للذين يَفتنون المؤمنين بأن يحلّ بهم ما حلّ بفاتني أصحاب الأخدود، وإلا فإن الخبر عن أصحاب الأخدود لا يحتاج إلى التوكيد بالقسم إذ لا ينكره أحد فهو قصة معلومة للعرب. واتساق ضمائر جمع الغائب المرفوعة من قوله: {إذ هم عليها قعود} إلى قوله: {وما نقموا} يقتضي أن يكون أصحاب الأخدود وَاضعيه لتعذيب المؤمنين. وقيل: الجواب هو جملة: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] فيكون الكلام الذي بينهما اعتراضاً وتوطئة على نحو ما قررناه في كلام الزجاج. وقوله: {قتل أصحاب الأخدود} صيغته تشعر بأنه إنشاء شتم لهم شتم خزي وغضب وهؤلاء لم يُقتلوا ففعل قُتِل ليس بخبر بل شتم نحو قوله تعالى: {قُتل الخرّاصون} [الذاريات: 10]. وقولهم قاتله الله، وصدوره من الله يفيد معنى اللعن ويدل على الوعيد لأن الغضب واللعن يستلزمان العقاب على الفعل الملعون لأجله. وقيل: هو دعاء على أصحاب الأخدود بالقتل كقوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره} [عبس: 17] والقَتل مستعار لأشد العذاب كما يقال: أهلكه الله، أي أوقعه في أشد العناء، وأيَّاً مَّا كان فجملة {قتل أصحاب الأخدود} على هذا معترضة بين القسم وما بعده. ومَن جَعل {قتل أصحاب الأخدود} جواب القسم جعل الكلام خبراً وقدَّره لقد قتل أصحاب الأخدود، فيكون المراد من أصحاب الأخدود الذين أُلقوا فيه وعُذبوا به ويكون لفظ أصحاب مستعملاً في معنى مجرد المقارنة والملازمة كقوله تعالى: {يا صاحبي السجن} [يوسف: 39] وقد علمتَ آنفاً تَعيُّن تأويل هذا القول بأن الخبر مستعمل في لازم معناه. ولفظ {أصحاب} يعمّ الآمرين بجعل الأخدود والمباشرين لِحفره وتسعيره، والقائمين على إلقاء المؤمنين فيه. وهذه قصة اختلف الرواة في تعيينها وفي تعيين المراد منها في هذه الآية. والروايات كلها تقتضي أن المفتونين بالأخدود قوم اتبَعوا النصرانية في بلاد اليمن على أكثر الروايات، أو في بلاد الحبشة على بعض الروايات، وذُكرتْ فيها روايات متقاربة تختلف بالإِجمال والتفصيل، والترتيب، والزيادة، والتعيين وأصحّها ما رواه مسلم والترمذي عن صُهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قصَّ هذه القصة على أصحابه. وليس فيما رُوي تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقها تفسيراً لهذه الآية والترمذي ساق حديثها في تفسير سورة البروج...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ولعل السر في الإتيان بهذه القصة هو مواساة المؤمنين المستضعفين الذين كان سفهاء المشركين يعذبونهم أشد العذاب بمكة في فجر الإسلام، وتعريفهم بما سبق للمؤمنين قبلهم في عصور قديمة، من التعرض لأنواع الإذاية والتنكيل، وبما آل إليه أمر الكافرين الذين عذبوهم، من سوء العاقبة والعذاب الوبيل، ولذلك جاء التعقيب هنا مباشرة بقوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق10}، وقوله تعالى: {إن بطش ربك لشديد12 إنه هو يبدئ ويعيد13}، أي: سيعذبون عذابا أليما من جنس ما عذبوا به المؤمنين: حريقا بحريق، وبطشا ببطش. وهذه الآية كما يندرج تحتها قدماء الكفار الذين حفروا الأخدود لإحراق المؤمنين قبل الإسلام، تشمل أيضا مشركي قريش الذين يعذبون المستضعفين من المؤمنين في فجر الإسلام...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هل هو حديثٌ عن حادثة القتل التي حدثت لأولئك المؤمنين ليكونوا المراد من أصحاب الأخدود، أو هو دعاء بالهلاك ليكون المراد منهم الطغاة الذين قاموا بالتعذيب والإحراق؟ والظاهر هو الوجه الثاني، لأنّ السياق مسوقٌ لإعلان الغضب على الفاعلين، كما أن الضمير في الآيات الأخرى يوحي بذلك. والأخدود، هو الشّقّ في الأرض الذي شقّوه بما يشبه الحفيرة وملأوه ناراً وألقوا فيه أولئك المؤمنين. ولما كانت النار هي العنصر البارز في هذه العملية الوحشية بحيث لا دور للأخدود إلا من حيث كونه ظرفاً للنار، فسره بها...