المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا} (49)

49- ووضع في يد كل واحد كتاب أعماله ، فَيبْصره المؤمنون فرحين مما فيه ، ويبصره الجاحدون خائفين مما فيه من الأعمال السيئة ، ويقولون إذا رأوها : يا هلاكنا ، إنا نعجب لهذا الكتاب الذي لم يترك من أعمالنا صغيرة ولا كبيرة إلا سجَّلها علينا ، ووجدوا جزاء ما عملوا حقاً ، ولا يظلم ربك أحداً من عباده .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا} (49)

فحينئذ تحضر كتب الأعمال التي كتبتها الملائكة الكرام{[491]}  فتطير لها القلوب ، وتعظم من وقعها الكروب ، وتكاد لها الصم الصلاب تذوب ، ويشفق منها المجرمون ، فإذا رأوها مسطرة عليهم أعمالهم ، محصى عليهم أقوالهم وأفعالهم ، قالوا : { يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } أي : لا يترك خطيئة صغيرة ولا كبيرة ، إلا وهي مكتوبة فيه ، محفوظة لم ينس منها عمل سر ولا علانية ، ولا ليل ولا نهار ، { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } لا يقدرون على إنكاره { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } فحينئذ يجازون بها ، ويقررون بها ، ويخزون ، ويحق عليهم العذاب ، ذلك بما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد ، بل هم غير خارجين عن عدله وفضله .


[491]:- في ب: الأبرار.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا} (49)

ثم صور - سبحانه - أحوال المجرمين عندما يرون مصيرهم السيئ فقال - تعالى - : { وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } .

والمراد بالكتاب : جنسه ، فيشمل جميع الصحف التى كتبت فيها أعمال المكلفين فى دار الدنيا .

أى : وأحضرت صحائف أعمال العباد ، ووضعت فى ميزانهم { فترى } - أيها المخاطب - { المجرمين } كافة ، مشفقين ، خائفين ، مما فيه من جرائم وذنوب { ويقولون } على سبيل التفجع والتحسر عند معاينتهم لثقل ميزان سيئاتهم ، وخفة ميزان حسناتهم .

{ يا ويلتنا } . والويلة : الهلاك وحلول الشر والقبح والحسرة ، وهو - أى لفظ الويلة - : مصدر لا فعل له من لفظه .

وهذا النداء على التشبيه بشخص يطلب إقباله .

أى : ويقولون بأسف وندامة وحسرة : يا هلاكنا أقبل فهذا أوان إقبالك .

ثم يقولون على سبيل التعجب والدهشة من دقة ما اشتمل عليه هذا الكتاب : { مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } ؟

أى : أى شئ ثبت لهذا الكتاب ، حيث نراه لا يترك معصية صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها علينا ، وسجلها فى صحف أعمالنا .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على شمول علمه . ونفاذ قدرته وكمال عدله ، فقال : { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } .

أى : ووجدوا ما عملوه فى الدنيا حاضرا ومسطورا فى صحائف أعمالهم ، ولا يظلم ربك أحدا من العباد ، وإنما يجازى كل إنسان على حسب ما يستحقه من ثواب أو عقاب كما قال - سبحانه - : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } وكما قال - عز وجل - : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } قال الإِمام ابن كثير وقوله : { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } أى : فيحكم بين عباده فى أعمالهم جميعها ، ولا يظلم أحدا من خلقه ، بل يغفر ويصفح ويرحم ، ويعذب من يشاء ، بقدرته وحكمته وعدله .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا} (49)

وقوله : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } أي : كتاب الأعمال ، الذي فيه الجليل والحقير ، والفتيل والقطمير ، والصغير والكبير { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } أي : من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة ، { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا } أي : يا حسرتنا وويلنا{[18236]} على ما فرطنا في أعمارنا { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا } أي : لا يترك ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا ولا عملا وإن صغر { إِلا أَحْصَاهَا } أي : ضبطها ، وحفظها .

وروى الطبراني ، بإسناده المتقدم في الآية قبلها ، إلى سعد ابن جنادة قال : لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حُنَيْن ، نزلنا قفرًا من الأرض ، ليس فيه شيء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اجمعوا ، من وجد عُودًا فليأت به ، ومن وجد حطبًا أو شيئًا فليأت به . قال : فما كان إلا ساعة حتى جعلناه رُكامًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أترون هذا ؟ فكذلك تُجْمَع الذنوب على الرجل منكم كما جَمَعْتُم هذا . فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، فإنها مُحْصَاة عليه " {[18237]}

وقوله : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } أي : من خير أوشر كما قال تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } [ آل عمران : 30 ] ، وقال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] وقال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] أي : تظهر المخبآت والضمائر .

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل غادر لواء يومَ القيامة [ يعرف به " {[18238]} .

أخرجاه في الصحيحين ، وفي لفظ : " يُرْفَع لكل غادر لواء يومَ القيامة ]{[18239]} عند استه بقدر غَدْرته ، يقال : هذه غَدْرَة فلان بن فلان " {[18240]}

وقوله : { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } أي : فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعًا ، ولا يظلم أحدا من خلقه ، بل يعفر{[18241]} ويصفح ويرحم ويعذب من يشاء ، بقدرته وحكمته وعدله ، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي ، [ ثم ينجي أصحاب المعاصي ]{[18242]} ويُخلَّد فيها الكافرون{[18243]} وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم ، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ] وقال : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] والآيات في هذا{[18244]} كثيرة .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا همام بن يحيى ، عن القاسم بن عبد الواحد المكي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتريت بعيرًا ثم شددت عليه رَحْلي ، فسرت عليه شهرًا ، حتى قدمت عليه الشام ، فإذا عبد الله بن أنيس{[18245]} فقلت للبواب : قل له : جابر على الباب . فقال : ابن عبد الله ؟ فقلت : نعم . فخرج يطأ ثوبه ، فاعتنقني واعتنقته ، فقلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص ، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسَمَعه فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشُر الله ، عز وجل الناس يوم القيامة - أو قال : العبادَ - عُرَاةَ غُرْلا بُهْمًا " قلت : وما بهمًا ؟ قال : " ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد ، كما يسمعه من قَربَ : أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ، وله عند أحد من أهل الجنة حق ، حتى أقصه{[18246]} منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، وله عند رجل من أهل النار حق ، حتى أقصه{[18247]} منه حتى اللطمة " . قال : قلنا : كيف ، وإنما نأتي الله ، عز وجل ، حفاة عُراة غُرْلا بُهْمًا ؟ قال : بالحسنات والسيئات " {[18248]} .

وعن شعبة ، عن العوام بن مُزَاحم ، عن أبي عثمان ، عن عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الجَمَّاء لتقتص من القرناء يوم القيامة " {[18249]} رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أخر ، وقد ذكرناها عند قوله : { وَنَضَعُ{[18250]} الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا } [ الأنبياء : 47 ] وعند قوله تعالى : { إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [ الأنعام : 38 ]


[18236]:في ت، ف، أ: "وويلتنا".
[18237]:المعجم الكبير (6/52).
[18238]:المسند (3/142).
[18239]:زيادة من ف.
[18240]:صحيح البخاري برقم (3186) وصحيح مسلم برقم (1737).
[18241]:في ت، ف: "يعفو".
[18242]:زيادة من ف.
[18243]:في ف: "الكافرين".
[18244]:في ت: "في هذه"، وفي ف: "فيهما".
[18245]:في ت: "أنس".
[18246]:في ت، ف، أ: "أقضيه".
[18247]:في ت، ف، أ: "أقضيه".
[18248]:المسند (3/495).
[18249]:زوائد المسند (1/12).
[18250]:في ت: "ويضع".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا} (49)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَا لِهََذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً } .

يقول عزّ ذكره : ووضع الله يومئذٍ كتاب أعمال عباده في أيديهم ، فأخذ واحد بيمينه وأخذ واحد بشماله فَتَرى المُجْرِمينَ مُشْفقينَ مِمّا فِيهِ يقول عزّ ذكره : فترى المجرمين المشركين بالله مشفقين ، يقول : خائفين وجلين مما فيه مكتوب من أعمالهم السيئة التي عملوها في الدنيا أن يؤاخذوا بها وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لَهَذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَلا كَبِيرةً إلاّ أحْصَاها يعني أنهم يقولون إذا قرأوا كتابهم ، ورأوا ما قد كُتب عليهم فيه من صغائر ذنوبهم وكبائرها ، نادوا بالويل حين أيقنوا بعذاب الله ، وضجوا مما قد عرفوا من أفعالهم الخبيثة التي قد أحصاها كتابهم ، ولم يقدروا أن ينكروا صحتها كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما لِهَذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إلاّ أحْصَاها اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء ، ولم يشتك أحد ظلما ، «فإياكم والمحقّرات من الذنوب ، فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه » . ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب لها مثلاً ، يقول كمثل قوم انطلقوا يسيرون حتى نزلوا بفلاة من الأرض ، وحضر صنيع القوم ، فانطلق كلّ رجل يحتطب ، فجعل الرجل يجيء بالعود ، ويجيء الاَخر بالعود ، حتى جمعوا سوادا كثيرا وأجّجوا نارا ، فإن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه حتى يهلكه . وقيل : إنه عنى بالصغيرة في هذا الموضع : الضحك . ذكر من قال ذلك :

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا عبد الله بن داود ، قال : حدثنا محمد بن موسى ، عن الزيال بن عمرو ، عن ابن عباس لا يُغادِرُ صَغِيرةً وَلا كَبِيرةً قال : الضحك .

17421حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثتني أمي حمادة ابنة محمد ، قال : سمعت أبي محمد بن عبد الرحمن يقول في هذه الاَية في قول الله عزّ وجلّ : ما لِهَذَا الكِتابِ لا يُغَادِرُ صَغيِرةً وَلا كَبِيرةً إلاّ أحْصَاها قال : الصغيرة : الضحك .

ويعني بقوله : ما لِهَذَا الكِتابِ : ما شأن هذا الكتاب لا يُغادِرُ صَغِيرةً وَلا كَبِيرَةً يقول : لا يبقى صغيرة من ذنوبنا وأعمالنا ولا كبيرة منها إلاّ أحْصَاها يقول : إلا حفظها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا في الدنيا من عمل حاضِرا في كتابهم ذلك مكتوبا مثبتا ، فجوّزوا بالسيئة مثلها ، والحسنة ما الله جازيهم بها وَلا يَظْلِمُ رَبّكَ أحَدا يقول : ولا يجازي ربك أحدا يا محمد بغير ما هو أهله ، لا يجازي بالإحسان إلا أهل الإحسان ، ولا بالسيئة إلا أهل السيئة ، وذلك هو العدل .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا} (49)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ووضع الكتاب}، بما كانوا عملوا في الدنيا بأيديهم،

{فترى المجرمين مشفقين مما فيه}، من المعاصي،

{ويقولون يا ويلتنا}، دعوا بالويل،

{مال هذا الكتاب لا يغادر}، يعني: لا يبقي سيئة،

{صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}، يعني: إلا أحصى الكتاب السيئات،

{ووجدوا ما عملوا}، يعني: تعجل له عمله كله،

{حاضرا}، لا يغادر منه شيئا،

{ولا يظلم ربك أحدا}، في عمله الذي عمل حتى يجزيه به.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول عزّ ذكره: ووضع الله يومئذٍ كتاب أعمال عباده في أيديهم، فأخذ واحد بيمينه وأخذ واحد بشماله، "فَتَرى المُجْرِمينَ مُشْفقينَ مِمّا فِيهِ "يقول عزّ ذكره: فترى المجرمين المشركين بالله "مشفقين"، يقول: خائفين وجلين مما فيه مكتوب من أعمالهم السيئة التي عملوها في الدنيا أن يؤاخذوا بها، "وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لَهَذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَلا كَبِيرةً إلاّ أحْصَاها" يعني أنهم يقولون إذا قرأوا كتابهم، ورأوا ما قد كُتب عليهم فيه من صغائر ذنوبهم وكبائرها، نادوا بالويل حين أيقنوا بعذاب الله، وضجوا مما قد عرفوا من أفعالهم الخبيثة التي قد أحصاها كتابهم، ولم يقدروا أن ينكروا صحتها...

ويعني بقوله: "ما لِهَذَا الكِتابِ": ما شأن هذا الكتاب، "لا يُغادِرُ صَغِيرةً وَلا كَبِيرَةً" يقول: لا يبقى صغيرة من ذنوبنا وأعمالنا ولا كبيرة منها "إلاّ أحْصَاها" يقول: إلا حفظها، "وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا" في الدنيا من عمل "حاضِرا" في كتابهم ذلك مكتوبا مثبتا، فجوّزوا بالسيئة مثلها، والحسنة ما الله جازيهم بها، "وَلا يَظْلِمُ رَبّكَ أحَدا" يقول: ولا يجازي ربك أحدا يا محمد بغير ما هو أهله، لا يجازي بالإحسان إلا أهل الإحسان، ولا بالسيئة إلا أهل السيئة، وذلك هو العدل.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... الظلم هو -في الشاهد- وضع الشيء في غير موضعه؛ يقول: {ولا يظلم ربك أحدا} أي لا يكون بما يجزي كلا على عمله ظالما واضعا شيئا في غير موضعه...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

"فترى المجرمين مشفقين مما فيه" أي يخافون من وقوع المكروه بهم. والإشفاق: الخوف من وقوع المكروه مع تجويز ألا يقع، وأصله الرقة،...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{الكِتابُ} للجنس وهو صُحُفُ الأعمالِ... {صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} هَنَةً صغيرةً ولا كبيرةً، وهي عبارة عن الإحاطة...

{إِلاَّ أَحْصَاهَا} إلاّ ضَبَطَها وحَصَرَها.

{وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} في الصُّحف عتيداً...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{الكتاب}... يراد به كتبُ الناس التي أحصاها الحَفَظَةُ لواحدٍ واحدٍ، ويحتمل أن يكون الموضوعُ كتاباً واحداً حاضراً.. وقَدَّم الصغيرةَ اهتماماً بها، لينبه منها، ويدل أن الصغيرة إذا أُحصِيت، فالكبيرة أحْرَى بذلك، والعربُ أبداً تقدم في الذكر الأقل من كل مقترِنَيْن...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{فترى المجرمين مشفقين مما فيه}.. يَحصُل لهم خوفُ العقابِ من الحق وخوفُ الفضيحةِ عند الخَلْق ويقولون "يا وَيْلَتَنا "يُنادُون هَلَكَتَهم التي هَلكوها خاصّةً من بين الهلكات...

{مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}... وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة على تقدير أن المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة.. الحق عندنا أن الطاعات محصورة في نوعين: التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فكل ما كان أقوى في كونه جهلا بالله كان أعظم في كونه كبيرة، وكل ما كان أقوى في كونه إضرارا بالغير كان أكثر في كونه ذنبا أو معصية فهذا هو الضبط...

.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ووضع} بأيسر أمر بعد العرض المستعقب للجمع بأدنى إشارة {الكتاب} المضبوط فيه دقائق الأعمال وجلائلها على وجه بيِّن لا يخفى على قارىء ولا غيره شيء منه {فترى المجرمين} لتقر عينك منهم بشماتة لا خير بعدها {مشفقين مما فيه} من قبائح أعمالهم، وسيئ أفعالهم وأقوالهم أي خائفين دائماً خوفاً عظيماً من عقاب الحق والفضيحة عند الخلق {ويقولون} أي يجددون ويكررون قولهم: {ياويلتنا} كناية عن أنه لا نديم لهم إذ ذاك إلا الهلاك {مال هذا الكتاب} أي: أي شيء له حال كونه على غير حال الكتب في الدنيا، ورسم لام الجر وحده إشارة إلى أنهم صاروا من قوة الرعب وشدة الكرب يقفون على بعض الكتب، وفسروا حال الكتاب التي أفظعتهم وسألوا عنها بقولهم: {لا يغادر} أي يترك أي يقع منه غدر، أي عدم الوفاء وهو من غادر الشيء: تركه كأن كلاًّ منهما يريد غدر الآخر، أي عدم الوفاء به، من الغدير -لقطعة من الماء يتركها السيل كأنه لم يوف لهما بأخذ ما معه، وكذا الغديرة لناقة تركها الراعي {صغيرة} أي من أعمالنا...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والخطاب بقوله: {فتَرَى} لغيرِ مُعَيَّنٍ. وليس للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يومئذٍ في مقاماتٍ عاليةٍ عن ذلك الموضع...

والتعبير بالمضارع في {يقولون} لاستحضار الحالة الفظيعة، أو لإفادة تكرُّرِ قولِهم ذلك وإعادتِه شأنَ الفزِعين الخائفين...

ونداء الويل: نُدْبَةٌ للتوجُّع من الويل. وأصلُه نداءٌ استُعمِل مجازاً بتنزيل ما لا ينادى منزلةَ ما ينادَى لقَصْد حضوره، كأنه يقول: هذا وقتُكِ فاحضُري، ثم شاع ذلك فصار لمجرد الغرض من النداء وهو التوجع ونحوه. والويلة: تأنيث الويل للمبالغة، وهو سوء الحال... والصغيرة والكبيرة:... المرادُ... بالصِّغَر والكِبَر هنا الأفعالُ العظيمة والأفعال الحقيرة. والعِظَم والحَقارة يكونان بحسب الوضوح والخفاء ويكونان بحسب القوة والضعف...

وتقديم ذكر الصغيرة لأنها أهم من حيث يتعلق التعجب من إحصائها. وعطفت عليها الكبيرة لإرادة التعميم في الإحصاء لأن التعميم أيضاً مما يثير التعجب...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

والفاء السببية، أي بسبب وضع الكتاب ترى المجرمين الآثمين قد أدركوا آثامهم،... فكانوا مشفقين خائفين مما اشتملت عليه، وأصابتهم الحسرات، وانتهوا لما فرطوا في جنب الله، ونادوا الهلاك إذ لا مفر منه، وهو نداء الحسرة والألم {ويقولون يا ويلتنا}، أي يا هلاكنا النازل بنا... {ووَجدوا ما عَمِلوا حاضراً} مهيَّئا ينادي بآثامهم، وإدانتِهم ليتقدَّموا للحساب العسير الذي نهايته العقاب بالعذاب الأليم...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وهذه الآية دليل على أن المرء يؤاخذ بالصغائر والكبائر، الصغائر إذا أصر عليها، والكبائر إذا لم يتب منها.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

" فتَرى المجرمين مشفقين مما فيه"... والحق سبحانه وتعالى يصور لنا حالة الخوف هذه ليفزع عباده ويحذرهم ويضخم لهم العقوبة، وهم ما يزالون في وقت التدارك والتعديل من السلوك، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده...

فحالتهم الأولى الإشفاق، وهو عملية هبوط القلب ولَجْلَجَتُه...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنَا} في ما يُشْبِه الصراخَ اليائس من النجاة، والدهشةَ المذهولة من دقة التفاصيل الخفيّة {مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً}... {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} لأنه العادل القويّ الذي لا يَحتاج إلى ظلمِ أحدٍ، باعتبار الضعيف هو الذي يظلم الآخرين، لأنه يخاف منهم على نفسه، فظُلْمُه مظهرُ ضَعفٍ لا مظهرُ قوةٍ...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(ووُضِعَ الكِتابُ)... يجب الانتباه إلى أنَّ صحيفة أعمال الناس في يوم القيامة لا تشبه الدفتر والكتاب العادي في هذا العالم، فهي مجموعة ناطقة غير قابلة للنكران، وقد تكون الناتج الطبيعي لأعمال الإِنسان نفسه. في كل الأحوال، نرى أنَّ الآيات التي نبحثها تُظهر أنَّهُ علاوة على تدوين أعمال الناس في الكتب الخاصّة، فإِنَّ نفس الأعمال ستتجسَّد هُناك وستحضر: (ووجدوا ما عملوا حاضراً)...

فالأعمال التي تكون شكل طاقات مُتناثرة في هذا العالم وتكون محجوبة عن الأنظار وتبدو وكأنّها قد تلاشت وانتهت، هي في الحقيقة لم تنته (وقد أثبت العلم اليوم أنَّ أي مادي أو طاقة لا يُمكن أن تفنى، بل يتغير شكلها دائماً). ففي ذلك اليوم تتحوَّل هذه الطاقة الضائعة بإِذن الله إلى مادة، وتتجسَّد على شكل صور مناسبة، فالأعمال الحسنة على شكل صور لطيفة وجميلة، والأعمال السيئة على شكل صور قبيحة، وهذه الأعمال ستكون معنا... هذه المحكمة الإِلهية ـ والجزاء العظيم ـ التي تنتظر المسيئين، ستلقي بظلها الثقيل والموحش على جميع الناس، حيث تحبس الأنفاس في الصدور، وتتوقف العيون عن الحركة! تُرى ما مقدار ما يعكسهُ الإِيمان بهذا اليوم ـ بهذه المحكمة بكل ما تتخلله مِن مشاهد ومواقف ـ على قضية تربية الإِنسان ودفعه لمسك زمام شهواته!؟