{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي : تنظر إلى ربها{[1296]} على حسب مراتبهم : منهم من ينظره كل يوم بكرة وعشيا ، ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة ، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم ، وجماله الباهر ، الذي ليس كمثله شيء ، فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم وحصل لهم من اللذة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه ، ونضرت وجوههم فازدادوا جمالا إلى جمالهم ، فنسأل الله الكريم أن يجعلنا معهم .
ثم بين - سبحانه - حال السعداء والأشقياء يوم القيامة فقال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ . إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ . وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ . تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } .
وقوله : { ناضرة } اسم فاعل من النَّضْرة - بفتح النون المشددة وسكون الضاد - وهى الجمال والحسن . تقول : وجه نضير ، إذا كان حسنا جميلا .
وقوله : { باسرة } من البسور وهو شدة الكلوح والعبوس ، ومنه قوله - تعالى - { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } يقال : بسَر فلان يبسُر بسُورا ، إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشئ الذى يراه .
والفاقرة : الداهية العظمية التى لشدتها كأنها تقصم فقار الظهر . يقال : فلان فقرته الفاقرة ، أى : نزلت به مصيبة شديدة أقعدته عن الحركة ، وأصل الفَقْر : الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلُصَ إلى العظم أو ما يقرب منه .
والمراد بقوله : { يومئذ } : يوم القيامة الذى تكرر ذكره فى السورة أكثر من مرة .
والجملة المقدرة المضاف إليها " إذ " والمعوض عنها بالتنووين تقديرها يوم إذ برق البصر .
والمعنى : يوم القيامة ، الذى يبرق فيه البصر ، ويخسف القمر . . تصير وجوه حسنة مشرقة ، ألا وهى وجوه المؤمنين الصادقين . . وهذه الوجوه تنظر إلى ربها فى هذا اليوم نظرة سرور وحبور ، بحيث تراه - سبحانه - على ما يليق بذاته ، وكما يريد أن تكون رؤيته - عز وجل - بلا كيفية ، ولا جهة ، ولا ثبوت مسافة .
وهناك وجوه أخرى تصير فى هذا اليوم كالحة شديدة العبوس ، وهى وجوه الكافرين والفاسقين عن أمر ربهم ، وهذه الوجوه { تَظُنُّ } أى : تعتقد أو تتوقع ، أن يفعل بها فعلا يهلكها ، ويقصم ظهورها لشدته وقسوته .
وجاء لفظ " وجوه " فى الموضعين منكرا ، للتنويع والتقسيم ، كما فى قوله - تعالى - { فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير } وكما فى قول الشاعر :
فيوم علينا ويوم لنا . . . ويوم نُسَاءُ ويوم نُسَر
وقد أخذ العلماء من قوله - تعالى - : { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أن الله - تعالى - يتكرم على عباده المؤمنين فى هذا اليوم ، فيربهم ذاته بالكيفية التى يريدها - سبحانه - .
ومنهم من فسر { نَّاضِرَةٌ } بمعنى منتظرة ، أى : منتظرة ومتوقعة ما يحكم الله - تعالى - به عليها .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات : وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله - عز وجل - فى الدار الآخرة ، فى الأحاديث الصحاح ، من طرق متواترة عند أئمة الحديث ، لا يمكن دفعها ولا منعها . لحديث أبى سعيد وأبى هريرة - وهما فى الصحيحين - " أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : " هل تضارون فى رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب " قالوا : لا ، قال : " فإنكم ترون ربكم كذلك " " .
وفى الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال : " نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال : " إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر " " .
ثم قال ابن كثير - رحمه الله - : وهذا - بحمد الله - مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة . كما هو متفق عليه بين أئمة الإِسلام ، وهداة الأنام .
ومن تأول { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } فقال : تنتظر الثواب من ربها . . فقد أبعد هذا القائل النجعة ، وأبطل فيما ذهب إليه . وأين هو من قوله - تعالى - { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } قال الشافعى : ما حجَب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه - عز وجل - .
{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي : تراه عيانا ، كما رواه البخاري ، رحمه الله ، في صحيحه : " إنكم سترون ربكم عَيَانا " . {[29551]} وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح ، من طرق متواترة عند أئمة الحديث ، لا يمكن دفعها ولا منعها ؛ لحديث أبي سعيد وأبي هريرة - وما في الصحيحين - : أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : " هل تُضَارُّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سَحَاب ؟ " قالوا : لا . قال : " فإنكم تَرَون ربكم كذلك " . {[29552]} وفي الصحيحين عن جرير قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال : " إنكم تَرَون ربكم كما ترون هذا القمر ، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا " {[29553]} وفي الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جَنَّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فِضَّة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله إلا رِدَاء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " . {[29554]} وفي أفراد مسلم ، عن صهيب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ " قال : " يقول الله تعالى : تريدون شيئا أزيدكم ؟ فيقولون : ألم تُبَيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟ " قال : " فيكشف الحجاب ، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ، وهي الزيادة " . ثم تلا هذه الآية : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] . {[29555]}
وفي أفراد مسلم ، عن جابر في حديثه : " إن الله يَتَجلَّى للمؤمنين يضحك " {[29556]} - يعني في عرصات القيامة - ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون{[29557]} إلى ربهم عز وجل في العرصات ، وفي روضات الجنات .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا عبد الملك بن أبجر ، حدثنا ثُوَير{[29558]} بن أبي فاختة ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، ينظر إلى أزواجه وخدمه . وإن أفضلهم منزلة لينظر إلى وجه الله كل يوم مرتين " . {[29559]}
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد ، عن شَبابة ، عن إسرائيل ، عن ثُوَير قال : " سمعت ابن عمر . . " . فذكره ، قال : " ورواه عبد الملك بن أبجر ، عن ثُوَير ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قوله " . وكذلك رواه الثوري ، عن ثُوَير ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، لم يرفعه{[29560]} ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن ، ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مَواضِعَ من هذا التفسير ، وبالله التوفيق{[29561]} . وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة ، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام . وهُدَاة الأنام .
ومن تأول ذلك بأن المراد ب { إِلَى } مفرد الآلاء ، وهي النعم ، كما قال الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } فقال تنتظر الثواب من ربها . رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد . وكذا قال أبو صالح أيضا - فقد أبعد هذا القائل{[29562]} النجعة ، وأبطل فيما ذهب إليه . وأين هو من قوله تعالى : { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } ؟[ المطففين : 15 ] ، قال الشافعي ، رحمه الله : ما حَجَب الفجار إلا وقد عَلم أن الأبرار يرونه عز وجل . ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة ، وهي قوله : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال ابن جرير :
حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا آدم ، حدثنا المبارك عن الحسن : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } قال : حسنة ، { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال تنظر إلى الخالق ، وحُقّ لها أن تَنضُر وهي تنظر إلى الخالق{[29563]} .