وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ أي : رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ أي : مقره جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ .
وهذا يدل على أن الفرار من الزحف من غير عذر من أكبر الكبائر ، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة وكما نص هنا على وعيده بهذا الوعيد الشديد .
ومفهوم الآية : أن المتحرف للقتال ، وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى ، ليكون أمكن له في القتال ، وأنكى لعدوه ، فإنه لا بأس بذلك ، لأنه لم يول دبره فارا ، وإنما ولى دبره ليستعلي على عدوه ، أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته ، أو ليخدعه بذلك ، أو غير ذلك من مقاصد المحاربين ، وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار ، فإن ذلك جائز ، فإن كانت الفئة في العسكر ، فالأمر في هذا واضح ، وإن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين ، فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز ، ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون أن الانهزام أحمد عاقبة ، وأبقى عليهم .
أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم ، فيبعد - في هذه الحال -أن تكون من الأحوال المرخص فيها ، لأنه - على هذا - لا يتصور الفرار المنهي عنه ، وهذه الآية مطلقة ، وسيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد .
17 - 19 فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ * إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ .
ثم بين - سبحانه - أن تولية الأدبار محرمة إلا في حالتين فقال - تعالى - : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } .
وقوله : { مُتَحَرِّفاً } من التحرف بمعنى الميل والانحراف من جهة إلى جهة بقصد المخادعة في القتال وهو منصوب على الحالية .
وقوله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } من التحيز بمعنى الانضمام . تقول : حزت الشئ أحوزه إذا ضممته إليك . وتحوزت الحية أي انطوت على نفسها .
والفئة : الجماعة من الناس . سميت بذلك لرجوع بعضهم إلى بعض في التعاضد والتناصر . من الفئ بمعنى الرجوع إلى حالة محمودة .
والمعنى : أن تولية الأدبار محرمة إلا في حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون المؤمن عند توليته منحازا إلى جماعة أخرى من الجيش ومنضما إليها للتعاون معها على القتال ، حيث إنها في حاجة إليه .
وهذا كله من أبواب خدع الحرب ومكايدها .
وقد توعد - سبحانه - الذي ينهزم أمام الأعداء في غير هاتين الحالتين بقوله : { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } .
أى : ومن يول الكافرين يوم لفائهم دبره غير متحرف ولا متحيز فقد رجع متلبسا بغضب شديد كائن من الله - تعالى - ومأواه الذي يأوى إليه في الآخرة جهنم وبئس المصير هى .
وقوله : { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله . . . } جواب الشرط لقوله ، ومن يولهم .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى :
1- وجوب مصابرة العدو ، والثبات في وجهه عند القتال ، وتحريم الفرار منه .
قال الآلوسى : في الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز . أُخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة - رضى الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اجتنبوا السبع الموبقات - أي المهلكات - قالوا : يا رسول الله وما هن قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولى يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " .
ثم قال : وجاء وعد - التولى الزحف - من الكبائر في غير ما حديث .
2- أن الخطاب في الآيتين لجميع المؤمنين وليس خاصاً بأهل بدر . قال الفخر الرازى ما ملخصه : اختلف المفسرون في أن هذا الحكم - وهو تحريم التولى أمام الزحف - هل هو مختص بيوم بدر أو هو حاصل على الإِطلاق ؟
فنقل عن أبى سعيد الخدرى والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر . قالوا : والسبب في اختصاص بدر بهذا الحكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان حاضراً يوم بدر . . وأنه - سبحانه - شدد الأمر على أهل بدر ، لأنه كان أول الجهاد ، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه لزم منه الخلل العظيم .
والقول الثانى : أن الحكم المذكور في هذه الآية كان عاماً في جميع الحروب بديل أن قوله - تعالى - { يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ } عام فيتناول جميع الصور . أقصى ما في الباب أنه نزل في واقعة بدر ، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وهذا القول الثانى هو الذي نرجحه ، لأن ظاهر الآية يفيد العموم لكل المؤمنين في كل زمان ومكان ، ولأن سورة الأنفال كلها قد نزلت بعد الفراغ من غزوة بدر لا قبل الدخول فيها .
3- أن الآيتين محكمتان وليستا منسوختين . أي أن تحريم التولى يوم الزحف على غير المتحرف أو لمتحيز ثابت لم ينسخ .
وقد رجح ذلك الإِمام ابن جرير فقال ما ملخصه : " سئل عطاء بن أبى رباح عن قوله { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } فقال : هذه الآية منسوخة بالآية التي في الأنفال بعد ذلك وهى قوله - تعالى - : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ . . . } وليس لقوم أن يفروا من مثليهم .
وقال آخرون : بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزما .
وأولى التأويلين بالصواب في هذه الآية عندى : قول من قال : حكمها محكم ، وأنها نزلت في أهل بدر . وحكمها ثابت في جميع المؤمنين . وأن الله حرم على المؤمنين إذا لقوا العدو أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرف القتال ، أو التحيز إلى فئة من المؤمنين ، حيث كانت من أرض الإِسلام ، وأن من ولادهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما - بغير نية إحدى الخلتيين اللتين أباح الله التولية بهما - فقد استوجب من الله وعيده ، إلا أن يتفضل عليه بعفوه .
وإنما قلنا : هى محكمة غير منسوخة ، لما قد بينا في غير موضع ، أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ وله في غير النسخ وجه ، إلا بحجة التسليم لها : من خبر يقطع العذر ، أو حجة عقل ، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قوله - تعالى - { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله } .
قال الله تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة ) روى أبو نضرة عن أبي سعيد أن ذلك إنما كان يوم بدر . قال أبو نضرة لأنهم لو انحازوا يومئذ لأنحازوا إلى المشركين ، ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم . . وهذا الذي قاله أبو نضرة ليس بسديد ، لأنه قد كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار ، ولم يأمرهم النبي عليه السلام بالخروج ، ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال ، وإنما ظنوا أنها العير ، فخرج رسول الله [ ص ] فيمن خف معه . فقول أبي نضرة إنه لم يكن هناك مسلم غيرهم وإنهم لو انحازوا ، انحازوا إلى المشركين ، غلط لما وصفنا . . وقد قيل : إنه لم يكن جائزاً لهم الانحياز يومئذ لأنهم كانوا مع رسول الله [ ص ] ولم يكن الانحياز جائزاً لهم عنه ، قال الله تعالى : ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) : فلم يكن يجوز لهم أن يخذلوا نبيهم [ ص ] وينصرفوا عنه ويسلموه ، وإن كان الله قد تكفل بنصره وعصمه من الناس ، كما قال الله تعالى : ( والله يعصمك من الناس )وكان ذلك فرضاً عليهم ، قلت أعداؤهم أو كثروا ، وأيضاً فإن النبي [ ص ] كان فئة المسلمين يومئذ ، ومن كان بمنحاز عن القتال فإنما كان يجوز له الانحياز على شرط أن يكون انحيازه إلى فئة ، وكان النبي [ ص ] فئتهم يومئذ ، ولم تكن فئة غيره . قال ابن عمر : كنت في جيش ، فحاص الناس حيصة واحدة ورجعنا إلى المدينة ، فقلنا : نحن الفرارون . فقال النبي [ ص ] : " أنا فئتكم " . فمن كان بالبعد من النبي [ ص ] إذا انحاز عن الكفار فإنما كان يجوز له الانحياز إلى فئة النبي [ ص ] وإذا كان معهم في القتال لم يكن هناك فئة غيره ينحازون إليه ، فلم يكن يجوز لهم الفرار . وقال الحسن في قوله تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره )قال : شددت على أهل بدر . وقال الله تعالى : ( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا )وذلك لأنهم فروا عن النبي [ ص ] وكذلك يوم حنين فروا عن النبي [ ص ] فعاقبهم الله على ذلك في قوله تعالى : ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم . فلم تغن عنكم شيئاً ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، ثم وليتم مدبرين ) . . فهذا كان حكمهم إذا كانوا مع النبي [ ص ] قل العدو أو كثر ، إذا لم يجد الله فيه شيئاً . . وقال الله تعالى في آية أخرى : ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا )وهذا - والله أعلم - في الحال التي لم يكن النبي [ ص ] حاضرا معهم ، فكان على العشرين أن يقاتلوا المائتين لا يهربوا عنهم ، فإذا كان عدد العدو أكثر من ذلك أباح لهم التحيز إلى فئة من المسلمين فيهم نصرة لمعاودة القتال ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً ، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله )فروي عن ابن عباس أنه قال : كتب عليكم ألا يفر واحد من عشرة : ثم قلت : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) . . . الآية . فكتب عليكم ألا يفر مئة من مئتين . وقال ابن عباس : إن فر رجل من رجلين فقد فر ، وإن فر من ثلاثة فلم يفر - قال الشيخ يعني بقوله : فقد فر : الفرار من الزحف المراد بالآية ، والذي في الآية إيجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار ، فإن زاد عدد الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة ، فأما إن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في قوله تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله )ولذلك قال النبي [ ص ] : " أنا فئة كل مسلم " . وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد بن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم ينهزم : " رحم الله أبا عبيد ! لو انحاز إليّ لكنت له فئة " . فلما رجع إليه أصحاب أبي عبيد قال : " أنا فئة لكم " ولم يعنفهم . . وهذا الحكم عندنا [ يعني عند الحنفية ] ثابت ، ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفاً لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال ، وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم ، ونحو ذلك ، مما لا يكون فيه انصراف عن الحرب ، أو متحيزين إلى فئة من المسلمين يقاتلونهم معهم . فإذا بلغوا اثني عشر ألفاً فإن محمد بن الحسن ذكر أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفروا من عدوهم ، وإن كثر عددهم ، ولم يذكر خلافاً بين أصحابنا فيه [ يعني الحنفية ] واحتج بحديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله ، أن ابن عباس قال : قال رسول الله [ ص ] : " خير الأصحاب أربعة . وخير السرايا أربع مائة . وخير الجيوش أربعة آلاف . ولن يؤتى اثنا عشر ألفاً من قلة ولن يغلبوا " وفي بعضها : " ما غلب قوم يبلغون اثني عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم " . وذكر الطحاوي أن مالكاً سئل ، فقيل له : أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها ? فقال مالك : إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف ، وإلا فأنت في سعة من التخلف . . وكان السائل له عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر . وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن . والذي روي عن النبي [ ص ] في اثني عشر ألفا فهو أصل في هذا الباب ، وإن كثر عدد المشركين فغير جائز لهم أن يفروا منهم وإن كانوا أضعافهم لقوله [ ص ] " إذا اجتمعت كلمتهم " . وقد أوجب عليهم بذلك جمع كلمتهم " . . . انتهى .
كذلك أورد " ابن العربي في أحكام القرآن " تعقيبا على الخلاف في المقصود بهذا الحكم قال :
" اختلف الناس : هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر ، أم عام في الزحوف كلها إلى يوم القيامة ?
" فروى ابن سعيد الخدري أن ذلك يوم بدر ، لم يكن لهم فئة إلا رسول الله ، وبه قال نافع ، والحسن ، وقتادة ، ويزيد بن حبيب ، والضحاك .
" ويروى عن ابن عباس وسائر العلماء أن الآية باقية إلى يوم القيامة ؛ وإنما شذ من شذ بخصوص ذلك يوم بدر بقوله : ( ومن يولهم يومئذ دبره )فظن قوم أن ذلك إشارة إلى يوم بدر . وليس به . وإنما ذلك إشارة إلى يوم الزحف .
" والدليل عليه أن الآية نزلت بعد القتال ، وانقضاء الحرب ، وذهاب اليوم بما فيه . وقد ثبت عن النبي [ ص ] حسبما قدمناه في الحديث الصحيح أن الكبائر كذا . . . وعدّ الفرار يوم الزحف . وهذا نص في المسألة يرفع الخلاف ، ويبين الحكم ، وقد نبهنا على النكتة التي وقع الإشكال فيها لمن وقع باختصاصه بيوم بدر " . .
ونحن نأخذ بهذا الذي ذكره ابن العربي من رأي " ابن عباس وسائر العلماء " . . ذلك أن التولي يوم الزحف على إطلاقه يستحق هذا التشديد لضخامة آثاره الحركية من ناحية ؛ ولمساسه بأصل الاعتقاد من ناحية . .
إن قلب المؤمن ينبغي أن يكون راسخا ثابتا لا تهزمه في الأرض قوة ، وهو موصول بقوة الله الغالب على أمره ، القاهر فوق عباده . . وإذا جاز أن تنال هذا القلب هزة - وهو يواجه الخطر - فإن هذه الهزة لا يجوز أنتبلغ أن تكون هزيمة وفرارا . والآجال بيد الله ، فما يجوز أن يولي المؤمن خوفا على الحياة . وليس في هذا تكليف للنفس فوق طاقتها . فالمؤمن إنسان يواجه عدوه إنسانا . فهما من هذه الناحية يقفان على أرض واحدة . ثم يمتاز المؤمن بأنه موصول بالقوة الكبرى التي لا غالب لها . ثم إنه إلى الله إن كان حياً ، وإلى الله إن كتبت له الشهادة . فهو في كل حالة أقوى من خصمه الذي يواجهه وهو يشاق الله ورسوله . . ومن ثم هذا الحكم القاطع :
( ومن يولهم يومئذ دبره - إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - فقد باء بغضب من الله ، ومأواه جهنم وبئس المصير ) .
ولا بد أن نقف هنا عند التعبير ذاته ؛ وما فيه من إيماءات عجيبة : ( فلا تولوهم الأدبار ) . . ( ومن يولهم يومئذ دبره ) . . فهو تعبير عن الهزيمة في صورتها الحسية ، مع التقبيح والتشنيع ، والتعريض بإعطاء الأدبار للأعداء ! . . ثم : ( فقد باء بغضب من الله ) . . فالمهزوم مولٍّ ومعه ( غضب من الله ) يذهب به إلى مأواه : ( ومأواه جهنم وبئس المصير )
وهكذا تشترك ظلال التعبير مع دلالته في رسم الجو العام ؛ وتثير في الوجدان شعور الاستقباح والاستنكار للتولي يوم الزحف والفرار .
وأمر الله عز وجل في هذه الآية أن لا يولي المؤمنون أمام الكفار ، وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في ِمْثَلْي المؤمنين ، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنة من المشركين فالفرض أن لا يفروا أمامهم ، فالفرار هناك كبيرة موبقة بظاهر القرآن والحديث وإجماع الأكثر من الأمة ، والذي يراعى العدد حسب ما في كتاب اله عز وجل : وهذا قول جمهور الأمة ، وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة : يراعى أيضاً الضعف والقوة والعدة فيجوز على قولهم أن تفر مائة فارس إذا علموا أن عند المشركين من العدة والنجدة والبسالة ضعف ما عندهم ، وأمام أقل أو أكثر بحسب ذلك وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا أمام ما زاد على مائتين والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة ، لأنها بشعة على الفار ذامة له ، وقرأ الجمهور «دبُره » بضم الباء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «دبْره » بسكون الباء ، واختلف المتأولون في المشار إليه بقوله { يومئذ } فقالت فرقة الإشارة إلى يوم بدر وما وليه ، وفي ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فر ، ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف{[5262]} ، وبقي الفرار من الزحف ليس بكبيرة وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم ، وقال فيهم يوم حنين :
{ ثم وليتم مدبرين }{[5263]} ولم يقع على ذلك تعنيف .
قال القاضي أبو محمد : وقال الجمهور من الأمة : الإشارة ب { يومئذ } إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله { إذا لقيتم } وحكم الآية باق لى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أخرى ، وليس في الآية نسخ ، وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وفرارهم عنه ، وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف أمام الكثرة ، ويحتمل أن عفو الله عمن فر يوم أحد كان عفواً عن كبيرة ، و { متحرفاً لقتال } يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدو وأعود عليه بالشر ، ونصبه على الحال ، وكذلك نصب متحيز ، وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم { من } ، وقال قوم : الاستثناء هو من أنواع التولي .
قال القاضي أبو محمد : ولو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفاً وتحيزاً ، والفئة ها هنا الجماعة من الناس الحاضرة للحرب ، هذا على قول الجمهور في أن الفرار من الزحف كبيرة ، وأما على القول الآخر فتكون ( الفئة ) :المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا ، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وأنه قال : أنا فئتكم أيها المسلمون{[5264]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا منه على جهة الحيطة على المؤمنين إذ كانوا في ذلك الزمن يثبتون لأضعافهم مراراً ، وفي مسند ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجماعة فرت في سرية من سراياه : «أنا فئة المسلمين »{[5265]} حين قدموا عليه ، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «اتقوا السبع الموبقات » وعدد فيها الفرار من الزحف{[5266]} ، و { باء } بمعنى نهض متحملاً للثقل المذكور في الكلام غضباً كان أو نحوه ، والغضب من صفات الله عز وجل إذا أخذ بمعنى الإرادة فهي صفات ذات ، وإذا أخذ بمعنى إظهار أفعال الغاضب على العبد فهي صفة فعل ، وهذا المعنى أشبه بهذه الآية ، والمأوى الموضع الذي يأوي إليه الإنسان .