والقصد منه لعلي أطلع { إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبًا } في دعواه أن لنا ربًا ، وأنه فوق السماوات . ولكنه يريد أن يحتاط فرعون ، ويختبر الأمر بنفسه ، قال الله تعالى في بيان الذي حمله على هذا القول : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ } فزين له العمل السيئ ، فلم يزل الشيطان يزينه ، وهو يدعو إليه ويحسنه ، حتى رآه حسنًا ودعا إليه وناظر مناظرة المحقين ، وهو من أعظم المفسدين ، { وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ } الحق ، بسبب الباطل الذي زين له . { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ } الذي أراد أن يكيد به الحق ، ويوهم به الناس أنه محق ، وأن موسى مبطل { إِلَّا فِي تَبَابٍ } أي : خسار وبوار ، لا يفيده إلا الشقاء في الدنيا والآخرة .
المراد بالصرح فى قوله - تعالى - : { وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً . . . } البناء العالى المكشوف للناس ، الذى يرى الناظر من فوقه ما يريد أن يراه ، مأخوذ من التصريح بمعنى الكشف والإيضاح .
والأسباب : جمع سبب ، وهو كل ما يتوصل به إلى الشئ ، والمراد بها هنا : أبواب السماء وطرقها ، التى يصل منها إلى ما بداخلها .
أى : وقال فرعون لوزيره هامان : يا هامان ابن لى بناء ظاهرا عاليا مكشوفا لا يخفى على الناظر وإن كان بعيدا عنه ، لعلى عن طريق الصعود على هذا البناء الشاهق أبلغ الأبواب الخاصة بالسموات ، فأدخل منها فأنظر إلى إله موسى .
والمراد بالظن فى قوله { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } اليقين لقوله - تعالى - فى آية أخرى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّي صَرْحاً لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين } فقوله - كما حكى القرآن عنه - : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } قرينة قوية على أن المراد بالظن فى الآيتين : اليقين والجزم ، بسبب غروره وطغيانه .
أى : ونى لأعتقد وأجزن بأن موسى كاذبا فى دعواه أن هناك إلها غيرى لكم ، وفى دعواه أنه رسول إلينا .
أى : وإنى لأعتقد وأجزم بأن موسى كاذبا فى دعواه أن هناك إلها غيرى لكم ، وفى دعواه أنه رسول إلينا .
وكرر لفظ الأسباب لأن اللفظ الثانى يدل على الأول ، والشئ إذا أبهم ثم أوضح ، كان تفخيما لشأنه ، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات أبهمها ثم أوضحها .
وقوله : { فأطلع } قرأه الجمهور بالرفع عطفا على { أبلغ } فيكون فى حيز الترجى .
وقرأه بعض القراء السبعة بالنصب فيكون جوابا للأمر فى قوله : { ابن لِي صَرْحاً . . } .
ولا شك أن قول فرعون هذا بجانب دلالته على أنه بلغ الغاية فى الطغيان والفجور والاستخفاف بالعقول ، يدل - أيضا - على شدة خداعه ، إذ هو يريد أن يتواصل من وراء هذا القول إلى أنه ليس هناك إله سواه ولو كان هناك إلأه سواه لشاهده هو وغيره من الناس .
قال الإِمام ابن كثير : وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح ، الذى لم ير فى الدنيا بناء أعلى منه ، وإنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما قاله ، من أن هناك إلها غير فرعون . .
وقال الجمل فى حاشيته ما ملخصه : وقول فرعون هذا المقصود منه التلبيس والتمويه والتخليط على قومه توصلا لبقائهم على الكفر ، وإلا فهو يعرف حقيقة الإِله ، وأنه ليس فى جهة ، ولكنه أراد التلبيس ، فكأنه يقول لهم : لو كان إله موسى موجودا لكان له محل ، ومحله إما الأرض وإما السماء ، ولم نره فى الأرض ، فيبقى أن يكون فى السماء ، والسماء لا يتوصل إليها إلا بسلم .
ثم بين - سبحانه - أن مكر فرعون هذا مصيره إلى الخسران فقال : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } .
والتباب : الهلاك والخسران ، يقال : تب الله - تعالى - فلانا ، أى : أهلكه ، وتبت يدا فلان ، أى : خسرنا ومنه قوله - سبحانه - { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . . } أى : ومثل ذلك التزيين القبيح ، زين لفرعون سوء عمله ، فرآه حسنا ، لفجوره وطغيانه ، وصد عن سبيل الهدى والرشاد ، لأنه استحب العمى على الهدى . وما كيد فرعون ومكره وتلبيسه واحتياله فى إبطال الحق ، إلا فى هلاك وخسران وانقطاع .
وعلى الرغم من هذه الجولة الضخمة التي أخذ الرجل المؤمن قلوبهم بها ؛ فقد ظل فرعون في ضلاله ، مصراً على التنكر للحق . ولكنه تظاهر بأنه آخذ في التحقق من دعوى موسى . ويبدو أن منطق الرجل المؤمن وحجته كانت من شدة الوقع بحيث لم يستطع فرعون ومن معه تجاهلها . فاتخذ فرعون لنفسه مهرباً جديداً :
( وقال فرعون : يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب . أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى . وإني لأظنه كاذباً . وكذلك زين لفرعون سوء عمله ، وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب ) . .
يا هامان ابن لي بناء عالياً لعلي أبلغ به أسباب السماوات ،
لأنظر وأبحث عن إله موسى هناك ( وإني لأظنه كاذباً ) . . هكذا يموه فرعون الطاغية ويحاور ويداور ، كي لا يواجه الحق جهرة ، ولا يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه ، وتهدد الأساطير التي قام عليها ملكه . وبعيد عن الاحتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه . وبعيد أن يكون جاداً في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج . وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة حداً يبعد معه هذا التصور . إنما هو الاستهتار والسخرية من جهة . والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى . وربما كانت هذه خطة للتراجع أمام مطارق المنطق المؤمن في حديث الرجل المؤمن ! وكل هذه الفروض تدل على إصراره على ضلاله ، وتبجحه في جحوده : ( وكذلك زين لفرعون سوء عمله ، وصد عن السبيل ) . . وهو مستحق لأن يصد عن السبيل ، بهذا المراء الذي يميل عن الاستقامة وينحرف عن السبيل .
ويعقب السياق على هذا المكر والكيد بأنه صائر إلى الخيبة والدمار :
{ أسباب السموات } بيان لها أو في إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامع إلى معرفتها . { فأطلع إلى إله موسى } عطف على { أبلغ } . وقرأ حفص بالنصب على جواب الترجي ولعله أراد أن يبني له رصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية ، فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله إياه ، أو إن يرى فساد قول موسى بأن أخباره من إله السماء يتوقف على اطلاعه ووصوله إليه ، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود إلى السماء وهو مما لا يقوى عليه الإنسان ، وذلك لجهله بالله وكيفية استنبائه . { وإني لأظنه كاذبا } في دعوى الرسالة . { وكذلك } ومثل التزيين ، { زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل } سبيل الرشاد ، والفاعل على الحقيقة هو الله تعالى ويدل عليه أنه قرئ زين بالفتح وبالتوسط الشيطان . وقرأ الحجازيان والشامي وأبو عمرو { وصد } على أن فرعون صد الناس عن الهدى بأمثال هذه التمويهات والشبهات ويؤيده : { وما كيد فرعون إلا في تباب } أي خسار .
وانتصب { أسباب السماوات } على البدل المطابق لقوله : { الأسباب . } وجيء بهذا الأسلوب من الاجمال ثم التفصيل للتشويق إلى المراد بالأسباب تفخيماً لشأنها وشأننِ عمله لأنه أمرٌ عجيب ليورَدَ على نفس متشوقة إلى معرفته وهي نفس ( هامان ) .
والاطّلاع بتشديد الطاء مبالغة في الطلوع ، والطلوع : الظهور . والأكثر أن يكون ظهوراً من ارتفاع ، ويعرف ذلك أو عدمُه بتعدية الفعل فإن عُدي بحرف ( على ) فهو الظهور من ارتفاع ، وإن عُدي بحرف ( إلى ) فهو ظهور مطلق .
وقرأ الجمهور : { فأَطَّلِعُ } بالرفع تفريعاً على { أبلغ } كأنه قيل : أبلغُ ثم اطَّلِعُ ، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على جواب الترجي لمعاملة الترجي معاملة التمني وإن كان ذلك غير مشهور ، والبصريون ينكرونه كأنه قيل : متى بلغتُ اطلعتُ ، وقد تكون له ههنا نكتة وهي استعارة حرف الرجاء إلى معنى التمني على وجه الاستعارة التبعية إشارة إلى بُعْد ما ترجاه ، وجعل نصب الفعل بعده قرينة على الاستعارة .
وبيْن { إلى } و { إله } الجناسُ الناقص بحرففٍ كما ورد مرتين في قول أبي تمام :
يمُدُّون من أَيْد عَواصٍ عَوَاصِمٍ *** تَصُول بأسياف قَوَاضٍ قَواضَبِ
وجملة { وَإنِّي لأظُنُّه كاذبا } معترضة للاحتراس من أن يظن ( هامان ) وقومه أن دعوة موسى أوهنت منه يقينَه بدينه وآلهته وأنه يروم أن يبحث بحث متأمل ناظر في أدلة المعرفة فحقق لهم أنه ما أراد بذلك إلا نفي ما ادعاه موسى بدليل الحس . وجيء بحرف التوكيد المعزّز بلام الابتداء لينفي عن نفسه اتهام وزيره إياه بتزلزل اعتقاده في دينه . والمعنى : إني أفعل ذلك ليظهر كذب موسى .
والظن هنا مستعمل في معنى اليقين والقطع ، ولذلك سمى الله عزمه هذا كيداً في قوله : { ومَا كَيْدُ فِرْعَونَ إلاَّ في تَبَابٍ } .
{ وكذلك زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تباب }
جملة { وكذلك زُيِنَ لفرعون } عطف على جملة { وَقَال فِرْعَوْنُ } لبيان حال اعتقاده وعمله بعد أن بين حال أقواله ، والمعنى : أنه قال قولاً منبعثاً عن ضلال اعتقاد ومُغرياً بفساد الأعمال . ولهذا الاعتبار اعتبارِ جميع أحوال فرعون لم تُفْصَل هذه الجملة عن التي قبلها إذ لم يقصد بها ابتداء قصة أخرى ، وهذا مما سموه بالتوسط بين كَمَالَي الاتصال والانقطاع في باب الفصل والوصل من علم المعاني . وافتتاحها ب { كذلك } كافتتاح قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) ، أي مثل ذلك التزيين أي تزيين عمل فرعون زُيّن له سوء عمله مبالغة في أن تزيين عمله له بلغ من القوة في نوعه ما لا يوجد له شِبْه يُشبَّه به فمن أراد تشبيهه فليشبّهه بعيْنه .
وبُني فعل { وكذلك } إلى المجهول لأن المقصود معرفة مفعول التزيين لا معرفة فَاعله ، أي حَصل له تزيين سوء عمله في نفسه فحسِب الباطل حقّاً والضلال اهتداء .
وقرأ الجمهور : { وَصَدَّ } بفتح الصاد وهو يجوز اعتباره قاصراً الذي مضارعه يصِدّ بكسر الصاد ، ويجوز اعتباره متعدياً الذي مضارعه يصُد بضم الصاد ، أي أعرض عن السبيل ومنع قومه اتباع السبيل . وقرأه حمزة والكسائي وعاصم بضم الصاد .
والقول فيه كالقول في : { زُيِّنَ لِفِرعونَ سُوءُ عَمَلهِ } .
وتعريف { السبيل } للعهد ، أي سبيل الله ، أو سبيل الخير ، أو سبيل الهدى . ويجوز أن يكون التعريف للدلالة على الكمال في النوع ، أي صد عن السبيل الكامل الصالح .
وجملة { ومَا كَيْدُ فِرعون إلا في تَبَابٍ } عطف على جملة { وكذلك زُيِّنَ لفرعون سُوَءُ عَمَلِه } ، والمراد بكيده ما أَمر به من بناء الصرح والغايةِ منه ، وسمي كيداً لأنه عمل ليس المراد به ظاهره بل أريد به الإِفضاء إلى إيهام قومه كذب موسى عليه السلام .
والتباب : الخسران والهلاك ، ومنه : { تَبَّتْ يَدَا أبي لهببٍ وتَبَّ } [ المسد : 1 ] ، وحرف الظرفية استعارة تبعية لمعنى شدة الملابسة كأنه قيل : « ومَا كَيدُ فرعون إلاَّ بتَبَابٍ شديد » . والاستثناء من أحوال مقدرة .