وقوله - سبحانه - : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } . معطوف على ما قاله عيسى لأمه مريم . والباء فى قوله { بِجِذْعِ } مزيدة للتوكيد ، لأن فعل الهز يتعدى بنفسه .
أى : وحركى نحوك أو جهة اليمين أو الشمال جذع النخلة { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً } وهو ما نضج واستوى من الثمر { جَنِيّاً } أى : صالحاً للأخذ والاجتناء
{ وهزي إليك بجذع النخلة } وأميليه إليك ، والباء مزيدة للتأكيد أو افعلي الهز والإمالة به ، أو { هزي } الثمرة بهزه والهز تحريك بجذب ودفع . { تساقط عليك } تتساقط فأدغمت التاء الثانية في السين وحذفها حمزة ، وقرأ يعقوب بالياء وحفص " تساقط " من ساقطت بمعنى أسقطت ، وقرئ " تتساقط " و " تسقط " و " يسقط " فالتاء للنخلة والياء للجذع . { رطبا جنيا } تمييز أو مفعول . روي أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر وكان الوقت شتاء ، فهزتها فجعل الله تعالى لها رأسا وخوصا ورطبا . وتسليتها بذلك لما فيه من المعجزات الدالة على براءة ساحتها فإن مثلها لا يتصور لمن يرتكب الفواحش ، والمنبهة لمن رآها على أن من قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء قدر أن يحبلها من غير فحل ، وأنه ليس ببدع من شأنها مع ما فيه من الشراب والطعام ولذلك رتب عليه الأمرين فقال : { فكلي واشربي } .
ثم أمر بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع ، وقالت فرقة بل كانت النخلة مطعمة { رطباً } ، وقال السدي كان الجذع مقطوعاً وأجرى النهر تحتها لحينه ، والظاهر من الآية أن عيسى هو المكلم لها وأن الجذع كان يابساً وعلى هذا تكون آيات تسليها وتسكن إليها . والباء في قوله { بجذع } زائدة مؤكدة قال أبو علي : كما يقال ألقى بيده أي ألقى يده .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا المثال عندي نظر ، وأنشد الطبري : [ الطويل ]
بواد يمان ينبت السدر صدره . . . وأسفله بالمزج والشبهان{[7938]}
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وابن عامر والكسائي وابو بكر عن عاصم والجمهور من الناس «تَسّاقط » بفتح التاء وشد السين يريد { النخلة } ، وقرأ البراء بن عازب والأعمش «يساقط » بالياء يريد «الجذع » ، وقرأ حمزة وحده «تَسَاقط » بفتح التاء وتخفيف السين ، وهي قراءة مسروق وابن وثاب وطلحة وأبي عمرو بخلاف ، وقرأت فرقة «يساقط » بالياء على ما تقدم من إدارة { النخلة } أو «الجذع » . وقرأ عاصم في رواية حفص «تُسَاقط » بضم التاء وتخفيف السين ، وقرأت فرقة «يساقط » بالياء ، وقرأ أبو حيوة «يسقط » بالياء ، وروي عنه «يُسقط » بضم الياء وقرأ أيضاً «تسقط » وحكى أبو علي في الحجة أنه قرئ «يتساقط » بباء وتاء ، وروي عن مسروق «تُسقِط » بضم التاء وكسر القاف ، وكذلك عن أبي حيوة ، وقرأ أبو حيوة أيضاً «يسقُط » بفتح الياء وضم القاف ، «رطب جني » بالرفع ، ونصب { رطباً } يختلف بحسب معاني القراءات المذكورة ، فمرة يسند الفعل الى الجذع ومرة الى الهز ، ومرة الى { النخلة } و { جنياً } معناه قد طابت وصلحت للاجتناء ، وهو من جنيت الثمرة . وقرأ طلحة بن سليمان{[7939]} «جِنياً » بكسر الجيم ، وقال عمرو بن ميمون : ليس شيء للنفساء خيراً من التمر والرطب ، وقال محمد بن كعب : كان رطب عجوة ، وقد استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوماً فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم الى سعي ما فيه لأنه أمرت مريم بهز الجذع لترى آية ، وكانت الآية تكون بأن لا تهز هي . وحكى الطبري عن ابن زيد أنه قال «قال لها عيسى : لا تحزني ، فقالت وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة أي شيء عذري عند الناس { يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً } [ مريم : 23 ] ، فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام »{[7940]} .
فائدة قوله { وَهُزِي إليْكِ بِجِذْعِ } أن يكون إثمار الجذع اليابس رُطباً ببركة تحريكها إياه ، وتلك كرامة أخرى لها . ولتشاهد بعينها كيف يُثمر الجذع اليابس رطباً . وفي ذلك كرامة لها بقوّة يقينها بمرتبتها .
والباء في { بِجِذْعِ النَّخْلَةِ } لتوكيد لصوق الفعل بمفعوله مثل { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] وقوله { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [ البقرة : 195 ] .
وضمن { وَهُزي } معنى قَرّبي أو أدني ، فعُدي ب ( إلى ) ، أي حرّكي جذع النخلة وقرّبيه يَدْنُ إليك ويَلِنْ بعد اليبس ويُسقط عليك رطباً .
والمعنى : أدني إلى نفسك جِذع النخلة . فكان فاعل الفعل ومتعلقه متحداً ، وكلاهما ضميرُ معادٍ واحد ، ولا ضير في ذلك لصحة المعنى وورود أمثاله في الاستعمال نحو { واضمم إليك جناحك } [ القصص : 32 ] . فالضامّ والمضموم إليه واحد . وإنما منَع النحاة أن يكون الفاعل والمفعول ضميري معاد واحد إلاّ في أفعال القلوب ، وفي فعلي : عَدِم وفَقَد ، لعدم سماع ذلك ، لا لفساد المعنى ، فلا يقاس على ذلك منع غيره .
والجَنيّ : فعيل بمعنى مفعول ، أي مجتنى ، وهو كناية عن حَدثان سقوطه ، أي عن طراوته ولم يكن من الرطب المخبوء من قبل لأن الرطب متى كان أقرب عهداً بنخلته كان أطيب طعماً .
و { تَسَّاقط } قرأه الجمهور بفتح التاء وتشديد السين أصله تتساقط بتاءين أدغمت التاء الثانية في السين ليتأتى التخفيف بالإدغام .
وقرأه حمزة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين للتخفيف . و { رُطَبَاً } على هاته القراءات تمييز لنسبة التساقط إلى النخلة .
وقرأه حفص بضم التاء وكسر السين على أنه مضارع سَاقَطَت النخلة تمرَها ، مبالغة في أسقطت و { رُطَباً } مفعول به .
وقرأه يعقوب بياء تحتية مفتوحة وفتح القاف وتشديد السين فيكون الضمير المستتر عائداً إلى { جِذْع النَّخْلةِ } .
قال مالك: قال الله: {رطبا جنيا} الجني: ما طاب من غير نقش ولا إفساد، والنقش أن ينقش في أسفل البسرة حتى ترطب، فهذا مكروه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَهُزّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ" ذكر أن الجذع كان جذعا يابسا، وأمرها أن تهزّه، وذلك في أيام الشتاء، وهزّها إياه كان تحريكه...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهزّي إليك بالنخلة...
وأدخلت الباء في قوله: "وَهُزّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ "كما يقال: زوجتك فلانة، وزوّجتك بفلانة وكما قال "تَنْبُتُ بِالدّهْنِ" بمعنى: تنبت الدهن. وإنما تفعل العرب ذلك، لأن الأفعال تكنى عنها بالباء، فيقال إذا كنيت عن ضربت عمرا: فعلت به، وكذلك كلّ فعل، فلذلك تدخل الباء في الأفعال وتخرِج، فيكون دخولها وخروجها بمعنى، فمعنى الكلام: وهزّي إليك جذع النخلة، وقد كان لو أن المفسرين كانوا فسروه كذلك: وهزّي إليك رطبا بجذع النخلة، بمعنى: على جذع النخلة، وجها صحيحا، ولكن لست أحفظ عن أحد أنه فسره كذلك...
واختلف القرّاء في قراءة قوله: "تُسَاقِطْ" فقرأ ذلك عامّة قرّاء المدينة والبصرة والكوفة: «تَسّاقَطُ» بالتاء من تساقط وتشديد السين، بمعنى: تتساقط عليك النخلة رطبا جنيا، ثم تُدغم إحدى التاءين في الأخرى فتشدد، وكأن الذين قرأوا ذلك كذلك وجهوا معنى الكلام إلى: وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط النخلة عليك رطبا. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة: «تَساقَطُ» بالتاء وتخفيف السين، ووجه معنى الكلام، إلى مثل ما وجه إليه مشدّدوها، غير أنهم خالفوهم في القراءة. ورُوي عن البراء بن عازب أنه قرأ ذلك: «يُساقِط» بالياء... وكأنه وجه معنى الكلام إلي: وهزّي إليك بجذع النخلة يتساقط الجذع عليك رطبا جنيا.
ورُوي عن أبي نهيك أنه كان يقرأه: «تُسْقِطُ» بضمّ التاء وإسقاط الألف...
وكأنه وجه معنى الكلام إلي: تسقط النخلة عليك رطبا جنيا.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن هذه القراءات الثلاث، أعني تَسّاقَطُ بالتاء وتشديد السين، وبالتاء وتخفيف السين، وبالياء وتشديد السين، قراءات متقاربات المعاني، قد قرأ بكل واحدة منهنّ قرّاء أهل معرفة بالقرآن، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب الصواب فيه، وذلك أن الجذع إذا تساقط رطبا، وهو ثابت غير مقطوع، فقد تساقطت النخلة رطبا، وإذا تساقطت النخلة رطبا، فقد تساقطت النخلة بأجمعها، جذعها وغير جذعها، وذلك أن النخلة ما دامت قائمة على أصلها، فإنما هي جذع وجريد وسعف، فإذا قطعت صارت جذعا، فالجذع الذي أمرت مريم بهزّه لم يذكر أحد نعلمه أنه كان جذعا مقطوعا غير السديّ، وقد زعم أنه عاد بهزّها إياه نخلة، فقد صار معناه ومعنى من قال: كان المتساقط عليها رطبا نخلة واحدا، فتبين بذلك صحة ما قلنا.
وقوله: "جَنِيّا" يعني مجنيا وإنما كان أصله مفعولاً فصرف إلى فعيل والمجني: المأخوذ طريا، وكل ما أخذ من ثمرة، أو نقل من موضعه بطراوته فقد اجتني...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا} فيه دلالة لزوم الكسب لأنه أمر مريم أن تهز النخلة لتتساقط عليها الرطب، ولو شاء لسقط من غير فعل يكون منها لِتَجْتَنِيَ هي، وذلك عليها أهون وأيسر على ما كان رزقها عند ما كانت مَؤنَتُهَا على زكريا. وفيه دلالة ألا يسع للمرء المسألة ما دام به أدنى قوة يقدر على قوته... وفيه دلالة أن الآيات التي تكون للأنبياء يجوز أن يجريها على غير أيدي الأنبياء حين جعل لمريم نخلة يابسة رطبة تثمر رطبا، وحين جعل من تحتها سريا أي نهرا جاريا، وحين رزقها عندما كانت في عيال زكريا من غير تكلف أحد. فذلك يشبه آيات الأنبياء والرسل ويقارنها. وهذه المحن التي امتحن بها مريم، في الظاهر عظيمة عند الناس، وفي الباطن من أعظم كراماته إليها، لأنه أخبر أنه تعالى اصطفاها على نساء العالمين بقوله: {إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} (آل عمرن: 42) وسماها صديقة بقوله: {وأمه صديقة} (المائدة: 75) وذلك لا يسمى إلا من بلغ من البشر في الصدق والصبر غايتهما،والله أعلم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أمر بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع، وقالت فرقة بل كانت النخلة مطعمة {رطباً}، وقال السدي كان الجذع مقطوعاً وأجرى النهر تحتها لحينه، والظاهر من الآية أن عيسى هو المكلم لها وأن الجذع كان يابساً وعلى هذا تكون آيات تسليها وتسكن إليها. والباء في قوله {بجذع} زائدة مؤكدة قال أبو علي: كما يقال ألقى بيده أي ألقى يده...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
والتعبير بصيغة التفاعل في قراءة الجماعة وحمزة للدلالة على أن التمر يسقط منها، ومن حقه أن يكون منتفياً لأنها غير متأهلة لذلك، فهو ظاهر في أنه على وجه خارق للعادة، وقراءة الجماعة بالإدغام تشير مع ذلك إلى أنه مع شدته يكاد أن يخفي كونه منها ليبسها وعدم إقنائها، وقراءة حمزة بالفتح والتخفيف تشير إلى سهولة تساقطه وكثرته، وقراءة حفص عن عاصم بالضم وكسر القاف من فاعل، تدل على الكثرة وأنه ظاهر في كونه من فعلها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: طريا لذيذا نافعا {فَكُلِي ْ} من التمر، {وَاشْرَبِي ْ} من النهر {وَقَرِّي عَيْنًا ْ} بعيسى، فهذا طمأنينتها من جهة السلامة من ألم الولادة، وحصول المأكل والمشرب والهني.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه النخلة التي تستندين إليها هزيها فتساقط عليك رطبا. فهذا طعام وذاك شراب. والطعام الحلو مناسب للنفساء. والرطب والتمر من أجود طعام النفساء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فائدة قوله {وَهُزِي إليْكِ بِجِذْعِ} أن يكون إثمار الجذع اليابس رُطباً ببركة تحريكها إياه، وتلك كرامة أخرى لها. ولتشاهد بعينها كيف يُثمر الجذع اليابس رطباً. وفي ذلك كرامة لها بقوّة يقينها بمرتبتها. وضمن {وَهُزي} معنى قَرّبي أو أدني، فعُدي ب (إلى)، أي حرّكي جذع النخلة وقرّبيه يَدْنُ إليك ويَلِنْ بعد اليبس ويُسقط عليك رطباً. والمعنى: أدني إلى نفسك جِذع النخلة. فكان فاعل الفعل ومتعلقه متحداً، وكلاهما ضميرُ معادٍ واحد، ولا ضير في ذلك لصحة المعنى وورود أمثاله في الاستعمال نحو {واضمم إليك جناحك} [القصص: 32]. فالضامّ والمضموم إليه واحد. والجَنيّ: فعيل بمعنى مفعول، أي مجتنى، وهو كناية عن حَدثان سقوطه، أي عن طراوته ولم يكن من الرطب المخبوء من قبل لأن الرطب متى كان أقرب عهداً بنخلته كان أطيب طعماً.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
(الواو) عاطفة، فبعد أن نهى المنادي عن الحزن أخذ يدعوها بعد الانصراف أن تأكل مستريحة مطمئنة، وأن تشرب هنيئا مريئا وتلتفت إلى حاجة الجسم الذي نهكه المخاض وتحتاج إلى تعويضه. وأرى أن الباء للدلالة على تسهيل وصول الرطب إليها، ذلك أنها تهز في مكان هو الجذع تتساقط عليها الرطب من عل، وذلك بلا ريب تيسيرا للوصول، فلا تهز من أعلى بل تهز بمكان قريب منها، وهي النفساء والتي تتعبها الحركة الكثيرة.
كما أن الحق سبحانه قادر على أن ينزل لها طعامها دون جهد منها ودون هزها، إنما أراد سبحانه أن يجمع لها بين شيئين: طلب الأسباب والاعتماد على المسبب، الأخذ بالأسباب في هز النخلة، رغم أنها متعبة قد أرهقها الحمل والولادة، وجاء بها إلى النخلة لتستند إليها وتتشبث بها في وحدتها لنعلم أن الإنسان في سعيه مطالب بالأخذ بالأسباب مهما كان ضعيفاً. لذلك أبقى لمريم اتخاذ الأسباب مع ضعفها وعدم قدرتها، ثم تعتمد على المسبب سبحانه الذي أنزل لها الرطب مستوياً ناضجاً، وهل استطاعت مريم أن تهز هذا الجذع الكبير اليابس؟ إنها مجرد إشارة تدل على امتثال الأمر، والله تعالى يتولى إنزال الطعام لها، وقوله: {تساقط عليك.. "25 "} (سورة مريم) فيه دليل على استجابة الجماد وانفعاله، وإلا فالبلحة لم تخرج عن طوع أمها، إذن: فقد ألقتها طواعية واستجابة حين تم نضجها.