ثم حكى - سبحانه - ما اعتراها من حزن عندما أحست بقرب الولادة فقال : { فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } .
وقوله : { فَأَجَآءَهَا } أى : فألجأها ، يقال : أجأته إلى كذا ، بمعنى : ألجأته واضطرته إليه . ويقال : جاء فلان . وأجاءه غيره ، إذا حمله على المجىء ، ومنه قول الشاعر :
وجارٍ سارَ معتمداً علينا . . . أجاءته المخافة والرجاء
قال صاحب الكشاف : " أجاء : منقول من جاء ، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء . ألا تراك تقول : جئت المكان وأجاءنيه زيد ، كما تقول : بلغته وأبلغنيه . . " .
والمخاض : وجع الولادة . يقال : مخضت المرأة - بكسر الخاء - تمخض - بفتحها - إذا دنا وقت ولادتها مأخوذ من المخض ، وهو الحركة الشديدة ، وسمى بذلك لشدة تحرك الجنين فى بطن الأم عند قرب خروجه .
وجذع النخلة : ساقها الذى تقوم عليه .
أى : وبعد أن حملت مريم بعيسى ، وابتعدت به - وهو محمول فى بطنها - عن قومها ، وحان وقت ولادتها . ألجأها المخاض إلى جذع النخلة لنتكىء عليه عند الولادة . . .
فاعتراها فى تلك الساعة ما اعتراها من هم وحزن وقالت : { ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا } الحمل والمخاض الذى حل بى { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } أى : وكنت شيئاً منسياً متروكاً ، لا يهتم به أحد ، وكل شىء نُسى وترك ولم يطلب فهو نَسْىٌ ونسِيُّ .
قال القرطبى : " والنِّسْىُ فى كلام العرب : الشىء الحقير الذى من شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد ، والحبل للمسافر ، وقرىء : { نَسْياً } بكسر النون وهما لغتان مثل : الوِتر والوَتر . . . " .
قال الآلوسى ما ملخصه : " وإنما قالت ذلك مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل من الوعد الكريم ، استحياء من الناس ، وخوفاً من لائمتهم ، أو حذرا من وقوع الناس فى المعصية بسبب كلامهم فى شأنها .
وتمنى الموت لمثل ذلك لا كراهة فيه - لأنه يتعلق بأمر دينى - نعم يكره أن يتمنى المرء الموت لأمر دنيوى كمرض أو فقر . . . ففى صحيح مسلم ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل به ، فإن كان لا بد متمنيا فليقل : الله أحينى ما كانت الحياة خيراً لى ، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لى " .
فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق ، بينها وبين نفسها ، فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة . ثم هي تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية . تواجه المخاض الذي( أجاءها )إجاءة إلى جذع النخلة ، واضطرها اضطرارا إلى الاستناد عليها . وهي وحيدة فريدة ، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض ، ولا علم لها بشيء ، ولا معين لها في شيء . . فإذا هي قالت : ( يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا )فإننا لنكاد نرى ملامحها ، ونحس اضطراب خواطرها ، ونلمس مواقع الألم فيها . وهي تتمنى لو كانت( نسيا ) : تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض ، ثم تلقى بعد ذلك وتنسى !
{ فأجاءها المخاض } فألجأها المخاض ، وهو في الأصل منقول من جاء لكنه خص به في الاستعمال كآتي في أعطى وقرئ المخاض بالكسر وهما مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج . { إلى جذع النخلة } لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة وهو ما بين العرق والغصن وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة وكان الوقت شتاء ، والتعريف إما للجنس أو للعهد إذ لم يكن ثم غيرها وكانت كالمتعالم عند الناس ، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما يسكن روعتها ويطعمها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها . { قالت يا ليتني مت قبل هذا } استحياء من الناس ومخافة لومهم ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر { مت } من مات يموت وكنت نسيا ما من شأنه أن ينسى ولا يطلب ونظيره الذبح لما يذبح وقرأ حمزة وحفص بالفتح وهو لغة فيه أو مصدر سمي به وقرئ به وبالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه لقلته { منسيا } منسي الذكر بحيث لا يخطر ببالهم وقرئ بكسر الميم على الاتباع .
و { أجاءها } معناه ، فاضطرها وهو تعدية جاء بالهمزة وقرأ شبل بن عزرة{[7928]} ورويت عن عاصم «فاجأها » من المفاجأة وفي مصحف أبي بن كعب «فلما أجاءها المخاض » .
وجار سار معتمداً إليكم . . . أجاءته المخافة والرجاء{[7928]}
وقرأ الجمهور «المَخاض » بفتح الميم ، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو «الطلق وشدة الولادة وأوجاعها » ، روي أنها بلغت الى موضع كان فيه «جذع نخلة » بالٍيابس في أصله مذود بقرة على جرية ماء فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه ، { يا ليتني مت } ولم يجر علي هذا القدر ، وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وعاصم{[7930]} وأبو عمرو وجماعة «مُت » بضم الميم ، وقرأ الأعرج وطلحة ويحيى والأعمش «مِت » بكسرها واختلف عن نافع ، وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك وهذا مباح ، وعلى هذا الحد تمناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصالحين ونهي النبي عليه السلام عن تمني الموت إنما هو لضر نزل بالبدن{[7931]} وقد أباحه عليه السلام في قوله : «يأتي على الناس زمان يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه »{[7932]} .
قال القاضي أبو محمد : لأنه زمن فتن يذهب بالدين ، { وكنت نسياً } أي شيئاً متروكاً محتقراً ، و «النسي » في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده ، كالوتد والحبل للمسافر ونحوه ، ويقال «نِسي » بكسر النون و «نَسي » بفتحها ، وقرأ الجمهور بالكسر ، وقرأ حمزة وحده بالفتح ، واختلف عن عاصم ، وكقراءة حمزة ، قرأ طلحة ويحيى والأعمش ، وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز «نِسئاً » بكسر النون ، وقرأ نوف البكالي «نَسأً » بفتح النون ، وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب ، وقرأ بكر بن حبيب «نَسّاً » بشد السين وفتح النون دون همز ، وقال الشنفرى : [ الطويل ]
كأنَّ لها في الأرض نسّاً تقصه . . . إذا ما غذت وإن تحدثك تبلت{[7933]}
وحكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى حملت أيضاً أختها بيحيى ، فجاءتها أختها زائرة فقالت «يا مريم أشعرت أني حملت ؟ » قالت لها مريم «أشعرت أنت أني حملت ؟ » قالت له «وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك » وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه الى ناحية بطن مريم ، قال السدي فذلك قوله تعالى { مصدقاً بكلمة من الله }{[7934]} [ آل عمران : 39 ] وفي هذا كله ضعف فتأمله . وكذلك ذكر الطبري من قصصها أنها خرجت فارّة مع رجل من بني اسرائيل يقال له يوسف النجار كان يخدم معها المسجد وطول في ذلك فاختصرته لضعفه ، وهذه القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملاً على عرف البشر واستحيت من ذلك ومرت بسببه وهي حامل وهو قول الجمهور المتأولين ، وروي عن ابن عباس أنه قال ليس إلا أن حملت فوضعت في ساعة واحدة والله أعلم . وظاهر قوله { فأجاءها المخاض } يقتضي أنها كانت على عرف النساء ، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر ولذلك قيل لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظاً لخاصية عيسى عليه السلام وقيل ولدته لسبعة وقيل لستة .
الفاء في قوله : { فَأَجَاءَها المَخَاضُ } للتعقيب العُرفي ، أي جاءها المخاض بعد تمام مدة الحمل ، قيل بعد ثمانية أشهر من حملها .
و { أجَاءها } معناه ألْجأها ، وأصله جاء ، عدي بالهمزة فقيل : أجاءه ، أي جعله جائياً . ثم أطلق مجازاً على إلجاء شيء شيئاً إلى شيء ، كأنه يجيء به إلى ذلك الشيء ، ويضطره إلى المجيء إليه . قال الفراء : أصله من جئتُ وقد جعلته العرب إلْجاء . وفي المثل شرّ ما يُجيئك إلى مُخّة عرْقُوب . وقال زهير :
وجارٍ سارَ معتمداً إلينا *** أجَاءته المخافةُ والرجاء
والمَخاض بفتح الميم : طَلق الحامل ، وهو تحرك الجنين للخروج .
والجذع بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة : العود الأصلي للنخلة الذي يتفرع منه الجريد . وهو ما بين العروق والأغصان ، أي إلى أصل نخلة استندت إليه .
وجملة { قَالَتْ } استئناف بياني ، لأن السامع يتشوف إلى معرفة حالها عند إبان وضع حملها بعدما كان أمرها مستتراً غير مكشوف بين الناس وقد آن أن ينكشف ، فيجاب السامع بأنها تمنت الموت قبل ذلك ؛ فهي في حالة من الحزن ترى أن الموت أهون عليها من الوقوع فيها .
وهذا دليل على مقام صبرها وصدقها في تلقي البلوى التي ابتلاها الله تعالى فلذلك كانت في مقام الصديقية .
والمشار إليه في قولها { قبل هذا } هو الحمل . أرادتْ أن لا يُتطرق عِرضها بطعن ولا تجرّ على أهلها معرة . ولم تتمن أن تكون ماتت بعد بدوّ الحمل لأن الموت حينئذ لا يدفع الطعن في عرضها بعد موتها ولا المعرة على أهلها إذ يشاهد أهلها بطنها بحملها وهي ميتة فتطرقها القالة .
وقرأ الجمهور { مِتّ } بكسر الميم للوجه الذي تقدم في قوله تعالى : { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم } في سورة آل عمران ( 157 ) . وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر بضم الميم على الأصل . وهما لغتان في فعل مات إذا اتّصل به ضمير رفع متصل .
والنِسْيُ بكسر النون وسكون السين } في قراءة الجمهور : الشيء الحقير الذي شأنه أن يُنسى ، ووزن فِعْل يأتي بمعنى اسم المفعول بقيْد تهيئته لتعلّق الفعل به دون تعلق حصل .
وذلك مثل الذبح في قوله تعالى : { وفديناه بذبح عظيم } [ الصافات : 107 ] ، أي كبش عظيم معدّ لأن يذبح ، فلا يقال للكبش ذبح إلا إذا أعد للذبح ، ولا يقال للمذبوح ذبح بل ذَبيح . والعرب تسمي الأشياء التي يغلب إهمالها أنْسَاءً ، ويقولون عند الارتحال : انظروا أنساءكم ، أي الأشياء التي شأنكم أن تَنْسَوها .
ووصف النسي بمنسي مبالغة في نسيان ذكرها ، أي ليتني كنت شيئاً غير متذكّر وقد نسيه أهله وتركوه فلا يلتفتون إلى ما يحل به ، فهي تمنت الموت وانقطاع ذكرها بين أهلها من قبل ذلك .
وقرأه حمزة ، وحفص ، وخلف { نَسْياً بفتح النون وهو لغة في النِّسي ، كالوتر والوتر ، والجسر والجسر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"فأجاءَها المَخاضُ إلى جِذْعِ النّخْلَةِ" يقول تعالى ذكره: فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة، ثم قيل لما أسقطت الباء منه "أجاءها"، كما يقال: أتيتك بزيد، فإذا حذفت الباء قيل آتيتك زيدا، كما قال جلّ ثناؤه: "آتُونِي زُبُرَ الحَدِيدِ "والمعنى: ائتوني بزُبَر الحديد، ولكن الألف مُدّت لما حذفت الباء، وكما قالوا: خرجت به وأخرجته، وذهبت به وأذهبته، وإنما هو أفعل من المجيء، كما يقال: جاء هو، وأجأته أنا: أي جئت به... وإنما تأوّل من تأوّل ذلك بمعنى: ألجأها، لأن المخاض لما جاءها إلى جذع النخلة، كان قد ألجأها إليه... وقال ابن عباس: ألجأها المخاض إلى جذع النخلة... عن قتادة... قال: اضطرّها إلى جذع النخلة...
وقوله: "يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا" ذكر أنها قالت ذلك في حال الطلق استحياء من الناس... تقول: يا ليتني متّ قبل هذا الكرب الذي أنا فيه، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل، "وكنت نِسيا منسيا": شيئا نُسي فُترك طلبه... وكذلك كل شيء نسي وترك ولم يطلب فهو نسيّ...
وقوله "مَنْسِيّا" مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت: ليتني كنت الشيء الذي ألقي، فترك ونسي...
عن السديّ "وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا" يقول: نِسيا: نُسي ذكري، ومنسيا: تقول: نسي أثري، فلا يُرى لي أثر ولا عين... عن قتادة "وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا": أي شيئا لا يعرف ولا يذكر...
قال قائلون: إنما تمنّت الموت للحال التي دُفعت إليها من الولادة من غير ذَكَرٍ. وهذا خطأ؛ لأن هذه حال كان الله تعالى قد ابتلاها بها وصيّرها إليها وقد كانت هي راضية بقضاء الله تعالى لها بذلك مطيعة لله، وتسخُّطُ فِعْلِ الله وقضائه معصيةٌ لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو صواب وحكمة، فعلمنا أنها لم تتمنَّ الموت لهذا المعنى وإنما تمنّته لعلمها بأن الناس سيرمونها بالفاحشة فيأثمون بسببها، فتمنت أن تكون قد ماتت قبل أن يعصي الناسُ الله بسببها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أَلَجَأَها وَجَعُ الولادةِ إلى الاعتماد إلى جِذْع النخلة. ولمَّا أَخذها الطَلْقُ، ودَاخَلَهَا الخَجَلُ مِنْ قومِها نَطَقَتْ بلسانِ العَجزِ، وقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَأَجَاءهَا} أجاء: منقول من جاء، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء، ألا تراك تقول: جئت المكان وأجاءنيه زيد، كما تقول: بلغته وأبلغنيه... «المخَاضُ» يقال: مخضت الحامل مَخاضا ومِخاضاً، وهو تمخض الولد في بطنها.
طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة... والتعريف لا يخلو: إمّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق، كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة متعالم عند الناس، فإذا قيل: جذع النخلة فهم منه ذلك دون غيره من جذوع النخل. وإمّا أن يكون تعريف الجنس، أي: جذع هذه الشجرة خاصة، كأن الله تعالى إنما أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو حرسة النفساء الموافقة لها. ولأن النخلة أقل شيء صبراً على البرد، وثمارها إنما هي من جمارها، فلموافقتها لها مع جمع الآيات فيها اختارها لها وألجأها إليها. {قَالَتْ يا ليتني مِتُّ قَبْلَ هذا}... النسيّ: ما من حقه أن يطرح وينسى... تمنت لو كانت شيئاً تافها لا يؤبه له، من شأنه وحقه أن ينسى في العادة وقد نسي وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه، وذلك لما لحقها من فرط الحياء والتشوّر من الناس على حكم العادة البشرية، لا كراهة لحكم الله، أو لشدّة التكليف عليها إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة وبضدّ ما قرفت به، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام: أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر تستحق به المدح وتستوجب التعظيم، ثم تراه عند الناس -لجهلهم به- عيباً يعاب به ويعنف بسببه، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله بسببها.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
المخاض اشتداد وجع الولادة والطلق. الجذع ما بين الأرض التي فيها الشجرة منها وبين متشعب الأغصان، ويقال للغصن أيضاً جذع...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله: {فأجاءها} أي فأتى بها وألجأها {المخاض} وهو تحرك الولد في بطنها للولادة {إلى جذع النخلة} وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان، وكان تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها، فكانت كالعلم لما فيها من العجب، لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد، ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة لها، لأنها لا تحمل إلا بإلقاح من ذكور النخل، فحملها بمجرد هزها أنسب شيء لإتيانها بولد من غير والد، فكيف إذا كان ذلك في غير وقته! فكيف إذا كانت يابسة! مع ما لها فيها من المنافع بالاستناد إليها والاعتماد عليها، وكون رطبها خرسة للنفساء وغاية في نفعها وغير ذلك...
ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً، كان كأنه قيل: يا ليت شعري! ما كان حالها؟ فقيل: {قالت} لما حصل عندها من خوف العار: {ياليتني مت} و لما كانت كذلك أشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جار: {قبل هذا} أي الأمر العظيم {وكنت نسياً} أي شيئاً من شأنه أن ينسى {منسياً} أي متروكاً بالفعل لا يخطر على بال...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ألجأها المخاض إلى جذع نخلة، فلما آلمها وجع الولادة، ووجع الانفراد عن الطعام والشراب، ووجع قلبها من قالة الناس، وخافت عدم صبرها، تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث، وكانت نسيا منسيا فلا تذكر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق بينها وبين نفسها، فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة. ثم هي تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية. تواجه المخاض الذي (أجاءها) إجاءة إلى جذع النخلة، واضطرها اضطرارا إلى الاستناد عليها. وهي وحيدة فريدة، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض، ولا علم لها بشيء، ولا معين لها في شيء.. فإذا هي قالت: (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) فإننا لنكاد نرى ملامحها، ونحس اضطراب خواطرها، ونلمس مواقع الألم فيها. وهي تتمنى لو كانت (نسيا): تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض، ثم تلقى بعد ذلك وتنسى!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {قَالَتْ} استئناف بياني، لأن السامع يتشوف إلى معرفة حالها عند إبان وضع حملها بعدما كان أمرها مستتراً غير مكشوف بين الناس وقد آن أن ينكشف، فيجاب السامع بأنها تمنت الموت قبل ذلك؛ فهي في حالة من الحزن ترى أن الموت أهون عليها من الوقوع فيها. وهذا دليل على مقام صبرها وصدقها في تلقي البلوى التي ابتلاها الله تعالى فلذلك كانت في مقام الصديقية. ووصف النسي بمنسي مبالغة في نسيان ذكرها، أي ليتني كنت شيئاً غير متذكّر وقد نسيه أهله وتركوه فلا يلتفتون إلى ما يحل به، فهي تمنت الموت وانقطاع ذكرها بين أهلها من قبل ذلك.
إذن: فالسيدة مريم أصبحت أمام أمر واقع وحمل ظاهر لا تستطيع إخفاءه، ولا تقدر على ستره، فقد قبلت قبل ذلك أن يبشرها الملك بغلام زكي، وقبلت أن تحمل به، فكيف بها الآن وقد تحول الأمر من الكلام إلى الواقع الفعلي، وها هو الوليد في أحشائها، وقد حان موعد ولادته؟. لابد أن ينتابها نزوع انفعالي قد خرج عن نطاق الستر والتكتم، فإذا بها تقول: {يا ليتني مت قبل هذا ونت نسياً منسياً} أي: تمنت لو ماتت قبل أن تقف هذا الموقف العصيب، مع أن الملك حين أخبرها من قبل بأن الله سيهب لها غلاماً زكياً تعجبت قائلة: {أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً}. مجرد تعجب وانفعال هادئ، أما وقد أصبح الأمر ولادة حقيقية فلابد من فعل نزوعي شديد يعبر عما هي فيه من حيرة، لذلك تمنت الموت، مع أن الله تعالى نهانا عن تمني الموت.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وتحرك الضعف الأنثوي فيها ليثير في داخلها الإحساس بالعجز عن مواجهة هذا الحدث الذي لا تملك أن تدافع عن طبيعته أمام الناس، فهم لا يفهمون سرَّ الإعجاز الإلهي الكامن فيه، بل يرون فيه مظهر انحراف في أخلاقيتها وسقوط في شرفها، ونقص في عفتها، لما توحي به أمثال هذه الحادثة من وجود علاقةٍ غير شرعية، ما دام احتمال نشوء المولود عن علاقةٍ زوجيةٍ معلنةٍ أمراً غير وارد في الموضوع. وشعرت أن المسألة أكبر من طاقتها لا سيما وهي تعيش الوحدة، فلا أنيس تأنس به وتشكو إليه همومها الجديدة ليخفف عنها، ولا صديق تبحث معه مشكلتها ليساعدها في الحل، فأطلقت صرخة الإنسان الضعيف المسحوق الذي شعر في لحظةٍ كما لو أن الحياة عبء ثقيل عليه، لأنها تحشره في زاوية ضيقة من التجربة الصعبة التي لا يستطيع الخروج منها، أو السيطرة عليها. وكانت تواجه نتيجة هذا الموقف وضعاً اجتماعياً بالغ الصعوبة يهدد سمعتها وكرامتها وموقعها؛ وهكذا {قَالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} حتى لا أواجه نظرات الاتهام القاسية..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد كان هذا الاضطراب والصراع صعباً جدّاً، وقد أثقل كاهلها إلى الحد الذي تكلمت فيه بلا إِرادة و (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً). إِنّ من البديهي أنّ الخوف من التهم في المستقبل لم يكن الشيء الوحيد الذي كان يعصر قلب مريم ويقلقها، وإِن كان هذا الموضوع يشغل فكر مريم أكثر من أية مسألة أُخرى، إِلاّ أنّ مشاكل ومصائب أُخرى كوضع الحمل لوحدها بدون قابلة وصديق ومعين في الصحاري الخالية، وعدم وجود مكان للاستراحة، وعدم وجود الماء للشرب، والطعام للأكل، وعدم وجود وسيلة لحفظ المولود الجديد، وغير هذه الأُمور كانت تهزّها من الأعماق بشدّة.