ثم ساق - سبحانه - بأسلوب فيه ما فيه من التحدي ، ما يدل على أن خلقه خال من التفاوت والخلل فقال : { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ . ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ }
و { الفطور } جمع فَطْر ، وهو الشق والصدع ، يقال : فطر فلان الشئ فانفطر ، إذا شقه ، وبابه نصر .
وقوله { كَرَّتَيْنِ } مثنى كرَّة ، وهي المرة من الكَرّ ، وهو الرجوع إلى الشيء مرة أخرى ، يقال كر المقاتل على عدوه ، إذا عاد إلى مهاجمته بعد أن تركه .
والمراد بالكرتين هنا : معاودة النظر وتكريره كثيرا ، بدون اقتصار على المرتين ، فالتثنية هنا : كناية عن مطلق التكرير ، كما في قولهم : لبيك وسعديك .
وقوله : { خَاسِئاً } أي صاغراً خائبا لأنه لم يجد ما كان يطلبه ويتمناه .
وقوله : { حَسِيرٌ } بمعنى كليل ومتعب ، من حسَر بصرُ فلان يَحسُر حسورا إذا كَلَّ وتعب من طول النظر والتأمل والفحص ، وفعله من باب قعد .
والمعنى : ما ترى - أيها الناظر - فى خلق الرحمن من تفاوت أو خلل . . فإن كنت لا تصدق ما أخبرناك به ، أو في أدنى شك من ذلك ، فكرر النظر فيما خلقنا حتى يتضح لك الأمر ، ولا يبقى عندك أدنى شك أو شبهة .
والاستفهام فى قوله : { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } للتقرير : أي : إنك مهما نظرت فى خلق الرحمن وشددت فى التفحص والتأمل . . فلن ترى فيه من شقوق أو خلل أو تفاوت . .
وقوله : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } تعجيز إثر تعجيز ، وتحد فى أعقاب تحد . . أي : ثم لا تكتف بإعادة النظر مرة واحدة ، فربما يكون قد فاتك شيء فى النظرة الأولى والثانية . . بل أعد النظر مرات ومرات . . فتكون النتيجة التي لا مفر لك منها ، أن بصرك - بعد طول النظر والتأمل - ينقلب إليك خائبا وهو كليل متعب . . لأنه - بعد هذا النظر الكثير - لم يجد فى خلقنا شيئا من الخلل أو الوهن أو التفاوت .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ } أي : إن رجعت البصر ، وكررت النظر ، لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل ، وإدراك العيب ، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور . . أي : بالبعد عن إصابة الملتمس .
فإن قلت : كيف ينقلب البصر خاسئا حسيرا برجعه كرتين اثنتين ؟
قلت : معنى التثنية هنا التكرير بكثرة ، كقولك لبيك وسعديك . .
فإن قلت : فما معنى { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ } ؟ قلت : أمره برجع البصر ، ثم أمره بأن لا يقتنع بالرجعة الأولى وبالنظرة الحمقاء وأن يتوقف بعدها ، ويُجِم بصره ثم يعاود ويعاود ، إلى أن يَحْسِر بصرُه من طول المعاودة ، فإنه لا يعثر على شيء من فطور . .
هذا ، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة ، يراها قد ساقت ما يدل على وحدانية الله - تعالى - وقدرته بأبلغ أسلوب ، ودعت الغافلين الذين فسقوا عن أمر ربهم ، إلى التدبر فى هذا الكون الذي أوجده - سبحانه - فى أبدع صورة وأتقنها ، فإن هذا التدبر من شأنه أن يهدي إلى الحق ، ويرشد إلى الصواب . .
( ثم ارجع البصر كرتين )فربما فاتك شيء في النظرة السابقة لم تتبينه ، فأعد النظر ثم أعده ( ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ) . .
وأسلوب التحدي من شأنه أن يثير الاهتمام والجد في النظر إلى السماوات وإلى خلق الله كله . وهذه النظرة الحادة الفاحصة المتأملة المتدبرة هي التي يريد القرآن أن يثيرها وأن يبعثها . فبلادة الألفة تذهب بروعة النظرة إلى هذا الكون الرائع العجيب الجميل الدقيق ، الذي لا تشبع العين من تملي جماله وروعته ، ولا يشبع القلب من تلقي إيحاءاته وأيماءاته ؛ ولا يشبع العقل من تدبر نظامه ودقته . والذي يعيش منه من يتأمله بهذه العين في مهرجان إلهي باهر رائع ، لا تخلق بدائعه ، لأنها أبدا متجددة للعين والقلب والعقل .
والذي يعرف شيئا عن طبيعة هذا الكون ونظامه - كما كشف العلم الحديث عن جوانب منها - يدركه الدهش والذهول . ولكن روعة الكون لا تحتاج إلى هذا العلم . فمن نعمة الله على البشر أن أودعهم القدرة على التجاوب مع هذا الكون بمجرد النظر والتأمل ؛ فالقلب يتلقى إيقاعات هذا الكون الهائل الجميل تلقيا مباشرا حين يتفتح ويستشرف . ثم يتجاوب مع هذه الإيقاعات تجاوب الحي مع الحي ؛ قبل أن يعلم بفكره وبأرصاده شيئا عن هذا الخلق الهائل العجيب .
ومن ثم يكل القرآن الناس إلى النظر في هذا الكون ، وإلى تملي مشاهده وعجائبه . ذلك أن القرآن يخاطب الناس جميعا ، وفي كل عصر . يخاطب ساكن الغابة وساكن الصحراء ، كما يخاطب ساكن المدينة ورائد البحار . وهو يخاطب الأمي الذي لم يقرأ ولم يخط حرفا ، كما يخاطب العالم الفلكي والعالم الطبيعي والعالم النظري سواء . وكل واحد من هؤلاء يجد في القرآن ما يصله بهذا الكون ، وما يثير في قلبه التأمل والاستجابة والمتاع .
وقال منذر بن سعيد : أمر الله تعالى بالنظر إلى السماء وخلقها ثم أمر بالتكرير في النظر ، وكذلك جميع المخلوقات متى نظرها ناظر ، ليرى فيها خللاً أو نقصاً ، فإن بصره ينقلب { خاسئاً } حسيراً ، ورجع البصر ترديده في الشيء المبصر .
وقوله : { كرتين } معناه مرتين ، ونصبه على المصدر ، والخاسئ المبعد بذل عن شيء أراده وحرص عليه ، ومنه الكلب الخاسئ ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد : «اخسأ فلن تعد وقدرك »{[11204]} ، ومنه قوله تعالى للكفار الحريصين على الخروج من جهنم : { اخسؤوا فيها }{[11205]} [ المؤمنون : 108 ] ، وكذلك هنا البصر يحرص على رؤية فطور أو تفاوت فلا يجد ذلك ، فينقلب { خاسئاً } ، والحسير العييّ الكالّ ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
لهن الوجا لم كن عوناً على النوى*** ولا زال منها طالح وحسير{[11206]}
وعطْف { ثم ارجع البصر كرتين } دال على التراخي الرتبي كما هو شأن { ثم } في عطف الجمل ، فإن مضمون الجملة المعطوفة ب { ثم } هنا أهمّ وأدخل في الغرض من مضمون الجملة المعطوف عليها لأن إعادة النظر تزيد العلم بانتفاء التفاوت في الخَلق رسوخاً ويقيناً .
و { كرتين } تثنية كرَّة وهي المرة وعبر عنها هنا بالكَرَّة مشتقة من الكر وهو العود لأنها عَود إلى شيء بعد الانفصال عنه ككَرة المقاتل يحمِل على العدوّ بعد أن يفر فراراً مصنوعاً . وإيثار لفظ كرتين في هذه الآية دون مرادفة نحو مرتين وتارتين لأن كلمة كرة لم يغلب إطلاقها على عدد الاثنين ، فكان إيثارها في مقام لا يراد فيه اثنين أظهر في أنها مستعملة في مطلق التكرير دون عدد اثنين أو زوج وهذا من خصائص الإعجاز ، ألا ترى أن مقام إرادة عدد الزوج كان مقتضياً تثنية مرة في قوله تعالى : { الطلاق مرتان } [ البقرة : 229 ] لأنه أظهر في إرادة العدد إذ لفظ مرة أكثر تداولاً .
وتثنية { كرتين } ليس المراد بها عدد الاثنين الذي هو ضعف الواحد إذ لا يتعلق غرض بخصوص هذا العدد ، وإنما التثنية مستعملة كناية عن مطلق التكرير فإن من استعمالات صيغة التثنية في الكلام أن يراد بها التكرير وذلك كما في قولهم : « لَبَّيك وسَعديك » يريدون تلبيات كثيرة وإسعاداً كثيراً ، وقولهم : دَواليك ، ومنه المثل « دُهْدُرَّيْن ، سَعْدُ القَين » ( الدُّهْدُرُّ الباطل ، أي باطلاً على باطل ، أي أتيتَ يا سعدُ القَيْن دهدرين وهو تثنية دُهْدرّ الدال المهملة في أوله مضمومة فهاء ساكنة فدال مهملة مضمومة فراء مشددة ) وأصله كلمة فارسية نقلها العرب وجعلوها بمعنى الباطل . وسبب النقل مختلف فيه وتثنيته مكنّى بها عن مضاعفة الباطل ، وكانوا يقولون هذا المثل عند تكذيب الرجل صاحبَه وأما سعد القين فهو اسم رجل كان قيناً وكان يمرّ على الأحياء لصقل سيوفهم وإصلاحِ أسلحتهم فكان يُشيع أنه راحل غَداً ليُسرع أهل الحي بجلب ما يحتاج للإِصلاح فإذا أتوه بها أقام ولم يرحل فضُرب به المثل في الكذب فكان هذا المثل جامعاً لمثلين ؛ وقد ذكره الزمخشري في « المستقصى » ، والميداني في « مجمع الأمثال » وأطال .
وأصل استعمال التثنية في معنى التكرير أنهم اختصروا بالتثنية تعداد ذكر الاسم تعداداً مشيراً إلى التكثير .
وقريب من هذا القبيل قولهم : وقَع كذَا غيرَ مرة ، أي مرات عديدة .
فمعنى { ثم ارجع البصر كرتين } عاوِد التأمّلَ في خلق السماوات وغيرها غير مرة والانقلاب : الرجوع يقال : انقلب إلى أهله ، أي رجع إلى منزله قال تعالى : { وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين } [ المطففين : 31 ] وإيثار فعل : { ينقلب } هنا دون : يرجع ، لئلا يلتبس بفعل { ارجع } المذكور قبله . وهذا من خصائص الإِعجاز نظير إيثار كلمة { كرتين } كما ذكرناه آنفاً .
والخاسىء : الخائب ، أي الذي لم يجد ما يطلبه ، وتقدم عند قوله تعالى : { قال اخسأوا فيها } [ سورة المؤمنين : 108 ] .
والحَسير : الكليل . وهو كلل ناشىء عن قوة التأمل والتحديق مع التكرير ، أي يرجع البصر غير واجد ما أُغْري بالحرص على رؤيته بعد أن أدام التأمل والفحص حتى عيي وكلّ ، أي لا تجدْ بعد الَّلأْي فطوراً في خلق الله .