ثم ذكر ما يأمر به ، فقال : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } أي : بالعدل في العبادات والمعاملات ، لا بالظلم والجور . { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } أي : توجهوا للّه ، واجتهدوا في تكميل العبادات ، خصوصا { الصلاة } أقيموها ، ظاهرا وباطنا ، ونقوها من كل نقص ومفسد . { وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له . والدعاء يشمل دعاء المسألة ، ودعاء العبادة ، أي : لا تراءوا ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم سوى عبودية اللّه ورضاه .
{ كَمَا بَدَأَكُمْ } أول مرة { تَعُودُونَ } للبعث ، فالقادر على بدء خلقكم ، قادر على إعادته ، بل الإعادة ، أهون من البداءة .
ثم بين - سبحانه - ما أمر به من طاعات عقب تكذيبه للمشركين فيما افتروه فقال : { قُلْ أَمَرَ . . . } .
أى : قل لهم يا محمد إن الذي أمر الله به هو العدل في الأمور كلها ، لأنه هو الوسط بين الإفراد والتفريط ، كما أنه - سبحانه - قد أمركم بأن تتوجهوا إليه وحده في كل عبادة من عباداتكم ، وأن تكثروا من التضرع إليه بخالص الدعاء وصالحه ، فإنه مخ العبادة .
وبعد أن ينكر عليهم دعواهم في أن الله أمرهم بهذه الفاحشة ، يبين لهم أن أمر الله يجري في اتجاه مضاد . . لقد أمر الله بالعدل والاعتدال في الأمور كلها لا بالفحش والتجاوز . وأمر بالاستقامة على منهج الله في العبادة والشعائر ، والاستمداد مما جاء في كتابه على رسوله [ ص ] ولم يجعل المسألة فوضى ، يقول فيها كل إنسان بهواه ، ثم يزعم أنه من الله . وأمر بأن تكون الدينونة خالصة له ، والعبودية كاملة ؛ فلا يدين أحد لأحد لذاته ولا يخضع أحد لأمر أحد لذاته :
( قل أمر ربي بالقسط ، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ، وادعوه مخلصين له الدين ) . .
هذا ما أمر الله به ، وهو يضاد ما هم عليه . . يضاد اتباعهم لآبائهم وللشرائع التي وضعها لهم عباد مثلهم ، مع دعواهم أن الله أمرهم بها . . ويضاد العري والتكشف وقد امتن الله على بني آدم بأنه أنزل عليهم لباساً يواري سوآتهم وريشاً يتجملون به كذلك . . ويضاد هذا الشرك الذي يزاولونه ، بازدواج مصادر التشريع لحياتهم ولعبادتهم . .
وعند هذا المقطع من البيان يجيء التذكير والإنذار ؛ ويلوّح لهم بالمعاد إلى الله بعد انتهاء ما هم فيه من أجل مرسوم للابتلاء ؛ وبمشهدهم في العودة وهم فريقان : الفريق الذي اتبع أمر الله ، والفريق الذي اتبع أمر الشيطان :
كما بدأكم تعودون : فريقا هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة ، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ، ويحسبون أنهم مهتدون . .
إنها لقطة واحدة عجيبة تجمع نقطة البدء في الرحلة الكبرى ونقطة النهاية . نقطة الانطلاق في البدء ونقطة المآب في الانتهاء :
{ قل أمر ربي بالقسط } بالعدل وهو الوسط من كل أمر المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط . { وأقيموا وجوهكم } وتوجهوا إلى عبادته مستقيمين غير عادلين إلى غيرها ، أو أقيموها نحو القبلة . { عند كل مسجد } في كل وقت سجود أو مكانه وهو الصلاة ، أو في أي مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم . { وادعوه } واعبدوه . { مخلصين له الدين } أي الطاعة فإن إليه مصيركم . { كما بدأكم } كما أنشأكم ابتداء . { تعودون } بإعادته فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة ، وإنما شبه الإعادة بالإبداء تقريرا لإمكانها والقدرة عليها . وقيل كما بدأكم من التراب تعودون إليه . وقيل كما بدأكم حفاة عراة تعودون . وقيل كما بدأكم مؤمنا وكافرا يعيدكم .
تضمن قوله { قل أمر ربي بالقسط } أقسطوا ، ولذلك عطف عليه قوله { وأقيموا } حملاً على المعنى ، و «القسط » العدل والحقن واختلف المتأولون في قوله { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } فقيل أراد إلى الكعبة قاله مجاهد والسدي والمقصد على هذا شرع القبلة والأمر بالتزامها ، وقيل أراد الأمر بإحضار النية لله في كل صلاة والقصد نحوه كما تقول وجهت وجهي لله قاله الربيع .
قال القاضي أبو محمد : فلا يؤخذ الوجه على أنه الجارحة بل هو المقصد والمنزع ، وقيل : المراد بهذا اللفظ إباحة الصلاة في كل موضع من الأرض ، أي حيث ما كنتم فهو مسجد لكم تلزمكم عند الصلاة إقامة وجهوكم فيه الله عز وجل ، قال قوم : سببها أن قوماً كانوا لا يصلون إلا في مساجدهم في قبلتهم ، فإذا حضر الصلاة في غير ذلك من المساجد لم يصلّوا فيها ، وقوله { مخلصين } حال من الضمير في { وادعوه } ، و { الدين } مفعول ب { مخلصين } .
قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وابن عباس ومجاهد : المراد بقوله : { كما بدأكم تعودون } الإعلام بالبعث أي كما أوجدكم واخترعكم كذلك يعيدكم بعد الموت فالوقف على هذا التأويل { تعودون } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه: قُلْ يا محمد لهؤلاء الذين يزعمون أن الله أمرهم بالفحشاء كذبا على الله: ما أمر ربي بما تقولون، بل "أمَرَ رَبي بالقِسْطِ "يعني: بالعدل...
وأما قوله: "وأقِيمُوا وَجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِد" فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضهم: معناه: وجهوا وجوهكم حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة... حيثما صليتم في الكنيسة وغيرها...
وقال آخرون: بل عني بذلك: واجعلوا سجودكم لله خالصا دون ما سواه من الآلهة والأنداد...
وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية ما قاله الربيع، وهو أن القوم أمروا أن يتوجهوا بصلاتهم إلى ربهم، لا إلى ما سواه من الأوثان والأصنام، وأن يجعلوا دعاءهم لله خالصا، لا مُكاءً ولا تصدية.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله إنما خاطب بهذه الآية قوما من مشركي العرب لم يكونوا أهل كنائس وبِيَع، وإنما كانت الكنائس والبيع لأهل الكتابين، فغير معقول أن يقال لمن لا يصلي في كنيسة ولا بيعة: وجّه وجهك إلى الكعبة في كنيسة أو بيعة.
وأما قوله: "وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ" فإنه يقول: واعملوا لربكم مخلصين له الدين والطاعة، لا تخلطوا ذلك بشرك ولا تجعلوا في شيء مما تعملون له شريكا...
"كَما بَدأكُمْ تَعُودُونَ فَريقا هَدَى وَفَرِيقا حَقّ عَلَيْهِمْ الضّلالَةِ".
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "كَما بَدأكُمْ تَعُودُونَ"؛ فقال بعضهم: تأويله: كما بدأكم أشقياء وسعداء، كذلك تُبعثون يوم القيامة... عن أبي العالية: "كمَا بَدأكُمْ تَعُودون" قال: رُدّوا إلى علمه فيهم...
وقال آخرون: معنى ذلك: كما خلقكم ولم تكونوا شيئا تعودون بعد الفناء...
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، القول الذي قاله من قال معناه: كما بدأكم الله خلقا بعد أن لم تكونوا شيئا تعودون بعد فنائكم خلقا مثله، يحشركم إلى يوم القيامة، لأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلِمَ بما فِي هذه الآية قوما مشركين أهل جاهلية لا يؤمنون بالمعاد ولا يصدّقون بالقيامة، فأمره أن يدعوهم إلى الإقرار بأن الله باعثهم يوم القيامة ومُثيب من أطاعه ومعاقب من عصاه، فقال له: قل لهم: أمر ربي بالقسط، وأن أقيموا وجوهكم عند كلّ مسجد، وأن ادعوه مخلصين له الدين، وأن أقرّوا بأن كما بدأكم تعودون فترك ذكر «وأن أقرّوا بأن» كما ترك ذكر «أن» مع «أقيموا»، إذ كان فيما ذكر دلالة على ما حذف منه. وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لأن يؤمر بدعاء من كان جاحدا النشور بعد الممات إلى الإقرار بالصفة التي عليها يُنشر من نُشر، وإنما يؤمر بالدعاء إلى ذلك من كان بالبعث مصدّقا، فأما من كان له جاحدا فإنما يُدعى إلى الإقرار به ثم يُعَرّف كيف شرائط البعث. على أن في الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي.
حَدثنَاه محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، قال: ثني المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «يُحْشَر النّاسُ عُرَاةً غُرْلاً، وأوّل مَن يُكْسَى إبْرَاهِيمُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ» ثمّ قَرأ: "كمَا بَدأْنا أولَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدا عَلَيْنا إنّا كُنّا فاعِلينَ"... ما يبين صحة القول الذي قلنا في ذلك، من أن معناه: أن الخلق يعودون إلى الله يوم القيامة خلقا أحياء كما بدأهم في الدنيا خلقا أحياء، يقال منه: بدأ الله الخلق يَبْدَأهم... بمعنى خلقهم، لغتان فصيحتان. ثم ابتدأ الخبر جلّ ثناؤه عما سبق من علمه في خلقه وجرى به فيهم قضاؤه، فقال: هدى الله منهم فريقا فوفّقهم لصالح الأعمال فهم مهتدون، وحقّ على فريق منهم الضلالة عن الهدى والرشاد، باتخاذهم الشيطان من دون الله وليّا...
"إنّهُمُ اتّخذُوا الشّياطِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أنّهُمْ مُهْتَدُونَ".
يقول تعالى ذكره: إن الفريق الذي حقّ عليهم الضلالة إنما ضلوا عن سبيل الله وجاروا عن قصد المحجة، باتخاذهم الشياطين نُصَراء من دون الله وظهراء، جهلاً منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحقّ، وأن الصواب ما أتوه وركبوا. وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذّب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عنادا منه لربه فيها، لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسب أنه هاد وفريق الهدى فرقٌ، وقد فرّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قل أمر ربي بالقسط} والقسط هو العدل في القول والفعل وغيره، وأصل العدل هو محافظة الشيء على الحد الذي جعل له، ووضع موضعه.
{وأقيموا وجوهكم}: ويشبه أن يكون الوجه كناية عن الأنفس، كأنه قال: أقيموا أنفسكم لله، لا تشركوا فيها ولا تجعلوا لأحد فيها شركا.
{وادعوه مخلصين له الدين} يحتمل الدعاء نفسه؛ أي ادعوه ربا خالقا ورحمانا {مخلصين له الدين} بالوحدانية والألوهية والربوبية. ويحتمل قوله: {وادعوه} أي اعبدوه {مخلصين له الدين} العبادة المخلصة ولا تشركوا غيره فيها. ويحتمل: أي دينوا بدينه الذي دعاكم إلى ذلك، وأمركم به.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَأَقِيمُوا وَجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. الإشارة منه إلى استدامة شهوده في كل حالة، وألا تنساه لحظةً في كلِّ ما تأتيه وتذره وتقدمه وتؤخره.
وأما قوله: {وادعوه مخلصين له الدين} فاعلم أنه تعالى لما أمر في الآية الأولى بالتوجه إلى القبلة، أمر بعده بالدعاء، والأظهر عندي أن المراد به أعمال الصلاة، وسماها دعاء، لأن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء، ولأن أشرف أجزاء الصلاة هو الدعاء والذكر، وبين أنه يجب أن يؤتى بذلك الدعاء مع الإخلاص.
واعلم أنه تعالى أمر في الآية أولا بكلمة «القسط» وهي كلمة لا إله إلا الله، ثم أمر بالصلاة ثانيا، ثم بين أن الفائدة في الإتيان بهذه الأعمال، إنما تظهر في الدار الآخرة، ونظيره قوله تعالى في «طه» لموسى عليه السلام: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها}.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{قل أمر ربي بالقسط} بالعدل وهو: الوسط من كل أمر المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
..لما كان تعليلهم بأمر الله مقتضياً لأنه إذا أمر بشيء أتبع، أمره أن يبلغهم أمره الذي جاء به دليل العقل مؤيداً بجازم النقل فقال: {قل} أي لهؤلاء الذين نابذوا الشرع والعرف {أمر ربي} المحسن إليّ بالتكليف بمحاسن الأعمال، التي تدعو إليها الهمم العوال {بالقسط} وهو الأمر الوسط بين ما فحش في الإفراط صاعداً عن الحد، وفي التفريط هابطاً منه؛ ولما كان التقدير: فأقسطوا اتباعاً لما أمر به، أو كان القسط مصدراً ينحل إلى: أن أقسطوا، عطف عليه {وأقيموا وجوهكم} مخلصين غير مرتكبين لشيء من الجور {عند كل مسجد} أي مكان ووقت وحال يصلح السجود فيه، {وادعوه} عند ذلك كله دعاء عبادة {مخلصين له الدين} أي لا تشركوا به شيئاً. ولما كان المعنى: فإن من لم يفعل ذلك عذبه بعد إعادته له بعد الموت، ترجمه مستدلاً عليه بقوله معللاً: {كما بدأكم} أي في النشأة الأولى فأنتم تبتدئون نعيدكم بعد الموت فأنتم {تعودون}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وبعد أن أنكر عليهم أن يكونوا على علم في هذا الطريق النقلي وهو باب السلب والنفي، توجهت الأنفس إلى معرفة ما يأمر به تعالى في محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق والخصال، فبينه بطريق الاستئناف قائلا لرسوله {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْط}. أي العدل والاعتدال في الأمور كلها، وهو الوسط بين الإفراط والتفريط فيها، وقد تقدم تفسيره لفظا ومعنى في سورتي النساء والمائدة، والوسط في اللباس الذي يعبد الله تعالى فيه أن يكون حلالا نظيفا لائقا بحال لابسه في الناس لا ثوب شهرة في تفريط التبذل، ولا في إفراط التطرس، وسيأتي الأمر بأخذ الزينة عند المساجد من هذا السياق وقدم عليه هنا ما يتعلق بفقه العبادة ولبابها الدال على جهلهم بها، وهو قوله: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} أي قل لهم أيها الرسول أمر ربي بالقسط فأقسطوا وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد أو وقل لهم أقيموا إلخ. إقامة الشيء إعطاؤه حقه وتوفيته شروطه كإقامة الصلاة وإقامة الوزن بالقسط. والوجه حسي ومعنوي فقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} (البقرة 144) من الأول وقوله: {فول وجهك للدين حنيفا} (الروم 30) من الثاني، والمراد به توجه القلب وصحة القصد، فإن الوجه يطلق على الذات، وما هنا من الثاني وإن ورد عن بعضهم تفسيره بالأول أيضا، وجعله بعضهم بمعنى التوجه إلى الكعبة في كل صلاة في كل مسجد أينما كان. والمعنى: أعطوا توجهكم إلى الله تعالى عند كل مسجد تعبدونه فيه حقه من صحة النية وحضور القلب وصرف الشواغل سواء كانت العبادة طوافا أو صلاة أو ذكرا أو فكرا وادعوه وحده مخلصين له الدين لا تشوبوا دعاءكم ولا غيره من عبادتكم له بأدنى شائبة من الشرك الأكبر هو التوجه إلى غيره من عباده المكرمين كالملائكة والرسل والصالحين، ولا إلى ما وضع للتذكير بهم من الأصنام والقبور وغيرها ولا من الشرك الأصغر وهو الرياء وحب اطلاع الناس على عبادتكم والثناء عليكم بها والتنويه بذكركم فيها. وكانوا يتوجهون إلى غيره معه زاعمين أن المذنب لا يليق به أن يقبل على الله وحده ويقيم وجهه له حنيفا، بل لابد له أن يتوسل إليه بأحد من عباده الطاهرين المكرمين ليشفع لهم عنده ويقربهم إليه زلفى. وهذا من وسواس الشيطان وشبهتهم فيه كشبهتهم في عدم الطواف في ثياب عصوه فيها، وجعلهم هذا وذاك من الدين ونسبته إلى الله تعالى افتراء عليه وقول عليه بغير علم مما أوحاه إلى رسله، وإنما أوحى إليهم ما نطقت به هذه الآية وأمثالها من الآيات الناطقة بالأمر بتجريد التوحيد من كل شائبة والإخلاص في العبادة كما أمر بأخذ الزينة عند كل مسجد وجعل الظاهر عنوانا للباطن في طهارته وحسنه من غير رياء ولا تكلف وهو مقتضى تحري القسط والعدل في كل أمر.
{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَة} هذا تذكير بالبعث والجزاء على الأعمال ودعوة إلى الإيمان به في أثر بيان أصل الدين ومناط الأمر فيه والنهي الوارد في سياق أصل تكوين البشر، واستعدادهم للإيمان والكفر والخير والشر، وما للشيطان في ذلك من إغواء الكافرين الذين يتولونه، وعدم سلطانه على المؤمنين الذين يتولون الله ورسوله. وهذه الجملة من أبلغ الكلام الموجز المعجز فإنها دعوى متضمنة للدليل بتشبيه الإعادة بالبدء، فهو يقول: كما بدأكم ربكم خلقا وتكوينا بقدرته تعودون إليه يوم القيامة حالة كونكم فريقين فريقا هداهم في الدنيا ببعثة الرسل فاهتدوا بإيمانهم به وإقامة وجوههم له وحده في العبادة ودعائه مخلصين له الدين لا يشركون به أحدا ولا شيئا وفريقا حق عليهم الضلالة لاتباعهم إغواء الشيطان، وإعراضهم عن طاعة الرحمن وكل فريق يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ومعنى حقت عليهم الضلالة ثبتت بثبوت أسبابها الكسبية، لا أنها جعلت غريزة لهم فكانوا مجبورين عليها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
بعد أن أبطل زعمهم أنّ الله أمرهم بما يفعلونه من الفواحش إبطالاً عاماً بقوله: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} [الأعراف: 28] استأنف استئنافاً استطرادياً بما فيه جماع مقوّمات الدّين الحق الذي يجمعه معنى القِسْط أي العدل تعليماً لهم بنقيض جهلهم، وتنويهاً بجلال الله تعالى، بأنّ يعلموا ما شأنه أن يأمر الله به. ولأهميّة هذا الغرض، ولمضادته لمدّعاهم المنفي في جملة: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} [الأعراف: 28] فُصلت هذه الجملة عن التي قبلها، ولم يُعطف القولُ على القول ولا المقول على المقول: لأنّ في إعادة فعل القَول وفي ترك عطفه على نظيره لَفْتاً للأذهان إليه.
والقسط: العَدل وهو هنا العدل بمعناه الأعمّ، أي الفعل الذي هو وسط بين الإفراط والتّفريط في الأشياء، وهو الفضيلة من كلّ فعل، فالله أمر بالفضائل وبما تشهد العقول السّليمة أنّه صلاح محض وأنّه حسن مستقيم، نظير قوله: {وكان بين ذلك قَواماً} [الفرقان: 67] فالتّوحيد عدل بين الإشراك والتّعطيل، والقصاص من القاتل عدل بين إطلال الدّماء وبين قتل الجماعة من قبيلة القاتل لأجل جناية واحد من القبيلة لم يُقدَر عليه. وأمَر الله بالإحسان، وهو عدل بين الشحّ والإسراف، فالقسط صفة للفعل في ذاته بأن يكون ملائماً للصّلاح عاجلاً وآجلاً، أي سالماً من عواقب الفساد، وقد نقل عن ابن عبّاس أنّ القسط قول لا إله إلاّ هو، وإنّما يعني بذلك أنّ التّوحيد من أعظم القسط، وهذا إبطال للفواحش التي زعموا أنّ الله أمرهم بها لأنّ شيئاً من تلك الفواحش ليس بقسط، وكذلك اللّباس فإنّ التّعري تفريط، والمبالغة في وضع اللباس إفراطٌ، والعدل هو اللّباس الذي يستر العورة ويدفع أذى القرّ أو الحَرّ، وكذلك الطّعام فتحريم بعضه غلو، والاسترسال فيه نهامة، والوسط هو الاعتدال، فقوله: {أمر ربي بالقسط} كلام جامع لإبطال كلّ ما يزعمون أنّ الله أمرهم به ممّا ليس من قبيل القسط.
ثمّ أعقبه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم عن الله: {أقيموا وجوهكم عند كل مسجد} فجملة: {وأقيموا} عطف على جملة: {أمر ربي بالقسط} أي قُلْ لأولئك المخاطبين أقيموا وجوهكم. والقصد الأوّل منه إبطال بعض ممّا زعموا أنّ الله أمرهم به بطريق أمرهم بضدّ ما زعموه ليحصل أمرهم بما يرضي الله بالتّصريح. وإبطالُ شيء زعموا أنّ الله أمرهم به بالالتزام، لأنّ الأمر بالشّيء نهي عن ضدّه، وإن شئت قلت لأنّ من يريد النّهي عن شيءٍ وفعلَ ضدّه يأمر بضدّه فيحصل الغرضان من أمره.
وإقامة الوجوه تمثيل لكمال الإقبال على عبادة الله تعالى، في مواضع عبادته، بحال المتهيّئ لمشاهدة أمر مهم حين يُوجه وجهه إلى صَوْبه، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فذلك التّوجّه المحض يطلق عليه إقامة لأنّه جعل الوَجه قائماً، أي غير متغاضٍ ولا متوان في التّوجّه، وهو في إطلاق القيام على القوّة في الفعل كما يقال: قامت السّوق، وقامت الصّلاة، وقد تقدّم في أوّل سورة البقرة (3) عند قوله: {ويقيمون الصلاة} ومنه قوله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً} [الروم: 30] فالمعنى أنّ الله أمر بإقامة الوجوه عند المساجد، لأنّ ذلك هو تعظيم المعبود ومكان العبادة، ولم يأمر بتعظيمه ولا تعظيم مساجده بما سوى ذلك مثل التّعرّي، وإشراك الله بغيره في العبادة مناف لها أيضاً، وهذا كما ورد في الحديث: « المصلّي يناجي ربّه فلا يَبْصُقَنّ قِبل وجهه» فالنّهي عن التّعرّي مقصود هنا لشمول اللّفظ إياه، ولدلالة السّياق عليه بتكرير الامتنان والأمرِ باللّباس: ابتداء من قوله: {ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما} [الأعراف: 20] إلى هنا.
ومعنى: {عند كل مسجد} عند كلّ مكان متخَذ لعبادة الله تعالى، واسم المسجد منقول في الإسلام للمكان المعيَّن المحدود المتّخذ للصّلاة وتقدّم عند قوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام} في سورة العقود (2)، فالشّعائر التي يوقعون فيها أعمالاً من الحجّ كلّها مساجد، ولم يكن لهم مساجد غير شعائر الحجّ، فذِكر المساجد في الآية يعيّن أنّ المراد إقامة الوجوه عند التّوجّه إلى الله في الحجّ بأن لا يشركوا مع الله في ذلك غيرَه من أصنامهم بالنّية، كما كانوا وضعوا (هُبَلَ) على سطح الكعبة ليكون الطّواف بالكعبة لله ولهُبل، ووضعوا (إسافاً ونائلة) على الصّفا والمروة ليكون السّعي لله ولهما. وكان فريق منهم يهلّون إلى (منَاة) عند (المشلل)، فالأمر بإقامة الوجوه عند المساجد كلّها أمر بالتزام التّوحيد وكمال الحال في شعائر الحجّ كلّها، فهذه مناسبة عطف قوله: {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} عقب إنكار أن يأمر الله بالفحشاء من أحوالهم، وإثبات أنّه أمر بالقسط ممّا يضادها. وهذا الأمر وإن كان المقصود به المشركين لأنّهم المتّصفون بضدّه، فللمؤمنين منه حظّ الدّوام عليه، كما كان للمشركين حظّ الإعراض عنه والتّفريط فيه.
والدّعاء في قوله: {وادعوه مخلصين له الدين} بمعنى العبادة أي اعبدوه كقوله: {إن الذين تدعون من دون الله} [الأعراف: 194]. والإخلاص تمحيض الشّيء من مخالطة غيره. والدّين بمعنى الطّاعة من قولهم دنت لفلان أي أطعته. ومنه سمّي الله تعالى: الديَّان، أي القهّار المذلّل المطوع لسائر الموجودات ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5]، والمقصد منها إبطال الشّرك في عبادة الله تعالى، وفي إبطاله تحقيق لمعنى القِسط الذي في قوله: {قل أمر ربي بالقسط} كما قدمناه هنالك، و {مخلصين} حال من الضّمير في ادعوه.
وجملة: {كما بدأكم تعودون} في موضع الحال من الضّمير المستتر في قوله: {مخلصين} وهي حال مقدرة أي: مقدّرين عَودكم إليه وأنّ عودكم كبدئكم، وهذا إنذار بأنّهم مُؤاخدون على عدم الإخلاص في العبادة، فالمقصود منه هو قوله: {تعودون} أي إليه، وأدمج فيه قوله: {كما بدأكم} تذكيراً بإمكان البعث الذي أحالوه؛ فكان هذا إنذاراً لهم بأنّهم عائدون إليه فمُجَازَوْن عن إشراكهم في عبادته، وهو أيضاً احْتجاج عليهم على عدم جدوى عبادتهم غيرَ الله، وإثبات للبعث الذي أنكروه بدَفع موجب استبعادهم إياه، حين يقولون: {أ إذا مِتنَا وكنّا تراباً وعظاماً ءإنّا لمبعوثون} [الواقعة: 47] ويقولون {أينا لمردودون في الحافرة أإذا كنّا عظاماً نَخِرة} [النازعان: 10، 11] ونحو ذلك، بأنّ ذلك الخلق ليس بأعجبَ من خلقهم الأوّل كما قال تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} [ق: 15] وكما قال: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27] أي بنقيض تقدير استبعادهم الخلق الثّاني، وتذكير لهم بأنّ الله منفرد بخلقهم الثّاني، كما انفرد بخلقهم الأوّل، فهو منفرد بالجزاء فلا يغني عنهم آلهتهم شيئاً.
فالكاف في قوله: {كما بدأكم تعودون} لتشبيه عود خلقهم ببدئه و (ما) مصدريّة والتّقدير: تعودون عوداً جديداً كبدئه إيَّاكم، فقدم المتعلِّق، الدّال على التّشبيه، على فعلِه، وهو تعودون، للاهتمام به، وقد فسّرت الآية في بعض الأقوال بمعان هي بعِيدة عن سياقها ونظمها.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
مسجد: وردت هذه الكلمة في آيات عديدة في معنى السجود والصلاة مطلقا وفي معنى مكان السجود والصلاة. ويجوز أنها هنا في المعنى الأول كما يجوز أن تكون في المعنى الثاني بل يجوز أن تكون في المعنيين والله أعلم.
{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [سورة الأعراف]: والإقامة أن تضع الشيء فيما هيئ له وخُلق وطُلب منه، وإن وجهته لناحية ثانية تكون قد ثنيته وأملته وحنيته، وعوجته. إذن فإقامة الوجه تكون بالسجود؛ لأن الذي سخر لك هذا الوجود وحكمك بمنهج التكليف هو من جعلت وجهك في الأرض من أجله، وإن لم تفعل ذلك فأنت تختار الاعوجاج لوجهك، واعلم أن هذا الخضوع والخشوع والسجود لله لن يعطيك فقط السيادة على الأجناس الأخرى التي تعطيك خير الدنيا، ولكن وضع جبهتك ووجهك على الأرض يعطيك البركة في العمل ويعطيك خير الآخرة أيضا. والعاقل هو من يعرف أنه أخذ السيادة على الأجناس فيتقن العبودية لله، فيأخذ خيري الدنيا والآخرة حيث لا يفوته فيها النعيم ولا يفوت هو النعيم، أما في الدنيا فأنت تقبل عليها باستخلاف وتعلم أنك قد يفوتك النعيم أو تقوت أنت النعيم، وحين تتذكر الله وتكون خاضعا لله فأنت تنال البركة في حركة الاستخلاف...