37- واعلموا أن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ، ولا يريد منكم مجرد التظاهر بالذبح وإراقة الدماء ، ولكنه يريد منكم القلب الخاشع ، فلن ينال رضاه من وزَّع تلك اللحوم ولا الدماء ، ولكن الذي ينال رضاه هو تقواكم وإخلاص نواياكم . مثل هذا التسخير سخرناها لتنفعكم فَتُعظموا الله على ما هداكم إليه من إتمام مناسك الحج . وبشر - أيها النبي - المحسنين الذين أحسنوا أعمالهم ونواياهم بثواب عظيم .
وقوله : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا } أي : ليس المقصود منها ذبحها فقط . ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء ، لكونه الغني الحميد ، وإنما يناله الإخلاص فيها ، والاحتساب ، والنية الصالحة ، ولهذا قال : { وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر ، وأن يكون القصد وجه الله وحده ، لا فخرا ولا رياء ، ولا سمعة ، ولا مجرد عادة ، وهكذا سائر العبادات ، إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله ، كانت كالقشور الذي لا لب فيه ، والجسد الذي لا روح فيه .
{ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ } أي : تعظموه وتجلوه ، { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أي : مقابلة لهدايته إياكم ، فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد ، وأعلى التعظيم ، { وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } بعبادة الله بأن يعبدوا الله ، كأنهم يرونه ، فإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة فليعبدوه ، معتقدين وقت عبادتهم اطلاعه عليهم ، ورؤيته إياهم ، والمحسنين لعباد الله ، بجميع وجوه الإحسان من نفع مال ، أو علم ، أو جاه ، أو نصح ، أو أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، أو كلمة طيبة ونحو ذلك ، فالمحسنون لهم البشارة من الله ، بسعادة الدنيا والآخرة وسيحسن الله إليهم ، كما أحسنوا في عبادته ولعباده { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }
ثم ختم - سبحانه - الحديث عن شعائر الحج ، بتوجيه عباده إلى وجوب الإخلاص له ، والاستجابة لأمره ، وشكره على نعمه ، فقال - تعالى - : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ . . . } .
أى : لن يصل إلى الله - تعالى - لحم هذه الأنعام ودماؤها ، من حيث هى لحوم ودماء ، ولكن الذى يصل إليه - سبحانه - ويثيبكم عليه ، هو تقواكم ومراقبتكم له - سبحانه - وخوفكم منه ، واستقامتكم على أمره وإخلاصكم العبادة له .
قالوا : وفى هذا إشارة إلى قبح ما كان يفعله المشركون ، من تقطيعهم للحوم الأنعام ، ونشرها حول الكعبة ، وتلطيخها بالدماء ، وتحذير للمسلمين من أن يفعلوا فعل هؤلاء الجهلاء ، إذ رضا الله - تعالى - لا ينال بذلك ، وإنما ينال بتقوى القلوب .
ثم كرر - سبحانه - تكذيره إياهم بنعمه ، ليكون أدعى إلى شكره وطاعته فقال : { كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المحسنين } .
أى : كهذا التسخير العجيب الذى ترونه سخرنا لكم هذه الأنعام لكى تكبروا الله وتعظموه وتقدسوه بسبب هدايته لكم إلى الإيمان .
وبشر - أيها الرسول الكريم - المحسنين لأقوالهم وأفعالهم ، بثوابنا الجزيل وبعطائنا الواسع .
وبذلك ترى أن سورة الحج قد سبحت بنا سبحا طويلا فى حديثها عن البيت الحرام ، وعن آداب الحج ومناكسه وأحكامه ، وعن الجزاء الحسن الذى أعده - تعالى - للمستجيبين لأمره .
وهم حين يؤمرون بنحرها باسم الله ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها )فإن اللحوم والدماء لا تصل إلى الله سبحانه . إنما تصل إليه تقوى القلوب وتوجهاتها - لا كما كان مشركو قريش يلطخون أوثانهم وآلهتهم بدماء الأضحيات على طريقة الشرك المنحرفة الغليظة !
( كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم ) . . فقد هداكم إلى توحيده والاتجاه إليه وإدراك حقيقة الصلة بين الرب والعباد ، وحقيقة الصلة بين العمل والاتجاه .
( وبشر المحسنين ) . . الذين يحسنون التصور ، ويحسنون الشعور ، ويحسنون العبادة ، ويحسنون الصلة بالله في كل نشاط الحياة .
وهكذا لا يخطو المسلم في حياته خطوة ، ولا يتحرك في ليله أو نهاره حركة ، إلا وهو ينظر فيها إلى الله .
ويجيش قلبه فيها بتقواه ، ويتطلع فيها إلى وجهه ورضاه . فإذا الحياة كلها عبادة تتحقق بها إرادة الله من خلق العباد ، وتصلح بها الحياة في الأرض وهي موصولة السبب بالسماء .
يقول تعالى : إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا ، لتذكروه عند ذبحها ، فإنه الخالق الرازق{[20277]} لا أنه يناله شيء من لحومها ولا دمائها ، فإنه تعالى هو الغني عما سواه .
وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابتنهم ، ونضحوا عليها من دمائها ، فقال تعالى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي حماد ، حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن ابن جريج قال : كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنحن أحق أن ننضح ، فأنزل الله : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } أي : يتقبل ذلك ويجزي عليه .
كما جاء في الصحيح : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم{[20278]} ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " {[20279]} وما جاء في الحديث : " إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض " كما تقدم الحديث . رواه{[20280]} ابن ماجه ، والترمذي وحَسّنه عن عائشة مرفوعا . فمعناه : أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله ، وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا ، والله أعلم .
وقال وَكِيع ، عن [ يحيى ]{[20281]} بن مسلم أبي الضحاك : سألت عامرًا الشعبي عن جلود الأضاحي ، فقال : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا } ، إن شئت فبع ، وإن شئت فأمسك ، وإن شئت فتصدق .
وقوله : { كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ } أي : من أجل ذلك سخر{[20282]} لكم البُدن ، { لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أي : لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ، وما يرضاه ، ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه .
وقوله : { وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } أي : وبشر يا محمد المحسنين ، أي : في عملهم ، القائمين بحدود الله ، المتبعين ما شَرَع لهم ، المصدقين الرسولَ فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عز وجل .
[ مسألة ]{[20283]} .
وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول{[20284]} بوجوب الأضحية على من ملك نصابا ، وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضًا . واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله كلهم ثقات ، عن أبي هريرة مرفوعا : " من وجد سَعَة فلم يُضَحِّ ، فلا يقربن مُصَلانا " {[20285]} على أن فيه غرابة ، واستنكره أحمد بن حنبل{[20286]} .
وقال ابن عمر : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي . رواه الترمذي{[20287]} .
وقال الشافعي ، وأحمد : لا تجب الأضحية ، بل هي مستحبة ؛ لما جاء في الحديث : " ليس في المال حق سوى الزكاة " {[20288]} . وقد تقدم أنه ، عليه السلام{[20289]} ضحى عن أمته فأسقط ذلك وجوبها عنهم .
وقال أبو سَريحةَ : كنت جارًا لأبي بكر وعمر ، فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما .
وقال بعض الناس : الأضحية سنة كفاية ، إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة ، سقطت عن الباقين ؛ لأن المقصود إظهار الشعار .
وقد روى الإمام أحمد ، وأهل السنن - وحسنه الترمذي - عن مِخْنَف بن سليم ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات : " على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعَتِيرة ، هل تدرون ما العتيرة ؟ هي{[20290]} التي تدعونها الرَّجبية " . وقد تكلم في إسناده{[20291]} .
وقال أبو أيوب : كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته ، يأكلون ويطعمون [ حتى تباهي ]{[20292]} الناس فصار كما ترى .
رواه الترمذي وصححه ، وابن ماجه{[20293]} .
وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله . رواه البخاري .
وأما مقدار سِنّ الأضحية ، فقد روى مسلم عن جابر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تذبحوا إلا مُسِنَّة ، إلا أن يعسر عليكم ، فتذبحوا جذعة من الضأن " {[20294]} .
ومن هاهنا ذهب الزهري إلى أن الجذَعَ لا يجزئ . وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجَذَع يجزئ من كل جنس ، وهما غريبان . وقال الجمهور : إنما يجزئ الثَّني من الإبل والبقر والمعز ، والجذع من الضأن ، فأما الثني من الإبل : فهو الذي له خمس سنين ، ودخل في السادسة . ومن البقر : ما له [ سنتان ]{[20295]} ودخل في [ الثالثة ]{[20296]} ، وقيل : [ ما له ]{[20297]} ثلاث [ ودخل في ]{[20298]} الرابعة . ومن المعز : ما له سنتان . وأما الجذع من الضأن فقيل : ما له سنة ، وقيل : عشرة أشهر ، وقيل : ثمانية أشهر ، وقيل : ستة أشهر ، وهو أقل ما قيل في سِنِّه ، وما دونه فهو حَمَل ، والفرق بينهما : أن الحمل شعر ظهره قائم ، والجذَع شعر ظهره نائم ، قد انعدل صدْعين ، والله أعلم .
{ لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ }
جملة في موضع التعليل لجملة { كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون } [ الحج : 36 ] ، أي دلّ على أنّا سخرناها لكم لتشكروني أنه لا انتفاع لله بشيء من لحومها ولا دمائها حين تتمكنون من الانتفاع بها فلا يريد الله منكم على ذلك إلا أن تتّقُوه .
والنَيْل : الإصابة . يقال ناله ، أي أصابه ووصل إليه . ويقال أيضاً بمعنى أحرز ، فإن فيه معنى الإصابة كقوله تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [ آل عمران : 92 ] وقوله : { وهموا بما لم ينالوا } [ التوبة : 74 ] .
والمقصود من نفي أن يصل إلى الله لحومها ودماؤها إبطال ما يفعله المشركون من نضح الدماء في المذابح وحول الكعبة وكانوا يذبحون بالمَرْوَةِ . قال الحسن : كانوا يلطخون بدماء القرابين وكانوا يشرّحون لحوم الهدايا وينصبونها حول الكعبة قرباناً لله تعالى ، يعني زيادة على ما يعطونه للمحاويج .
وفي قوله : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } إيماء إلى أن إراقة الدماء وتقطيع اللحوم ليسا مقصودين بالتعبد ولكنهما وسيلة لنفع الناس بالهدايا إذ لا يُنتفع بلحومها وجلودها وأجزائها إلا بالنّحر أو الذبح وإن المقصد من شرعها انتفاع الناس المُهدين وغيرهم .
فأما المهدون فانتفاعهم بالأكل منها في يوم عيدهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم صيام يوم النّحر : « يوم تأكلون فيه من نُسككم » فذلك نفع لأنفسهم ولأهاليهم ولو بالادخار منه إلى رجوعهم إلى آفاقهم .
وأما غيرهم فانتفاع من ليس له هدْيٌ من الحجيج بالأكل مما يهديه إليهم أقاربهم وأصحابهم ، وانتفاع المحاويج من أهل الحرم بالشبع والتزود منها والانتفاع بجلودها وجِلالها وقلائدها .
كما أومأ إليه قوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد } [ المائدة : 97 ] .
وقد عرض غير مرة سؤال عما إذا كانت الهدايا أوفر من حاجة أهل الموسم قطعاً أو ظناً قريباً من القطع كما شوهد ذلك في مواسم الحجّ ، فما يبقى منها حيّاً يباع وينفق ثمنه في سدّ خلة المحاويج أجدَى من نحره أو ذَبحه حين لا يَرغب فيه أحد ، ولو كانت اللحوم التي فاتَ أن قُطعّت وكانت فاضلة عن حاجة المحاويج يعمل تصبيرها بما يمنع عنها التعفُّن فيُنتفع بها في خلال العام أجدى للمحاويج .
وقد ترددتْ في الجواب عن ذلك أنظار المتصدّين للإفتاء من فقهاء هذا العصر ، وكادوا أن تتفق كلمات من صدرت منهم فتاوى على أن تصبيرها مناف للتعبد بهَديها .
أما أنا فالذي أراه أن المصير إلى كلا الحالين من البيع والتصبير لما فضل عن حاجة الناس في أيام الحج ، لينتفع بها المحتاجون في عامهم ، أوفقُ بمقصد الشارع تجنباً لإضاعَة ما فَضِل منها رعياً لمقصد الشريعة من نفع المحتاج وحفظ الأموال مع عدم تعطيل النحر والذبح للقدر المحتاج إليه منها المشار إليه بقوله تعالى : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } [ الحج : 36 ] وقوله : { وكذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم } ، جمعاً بين المقاصد الشرعية .
وتعرض صورة أخرى وهي توزيع المقادير الكافية للانتفاع بها على أيام النحر الثلاثة بحيث لا يُتعجل بنحر جميع الهدايا في اليوم الأول طلباً لفضيلة المبادرة ، فإن التقوى التي تصِل إلى الله من تلك الهدايا هي تسليمها للنفع بها .
وهذا قياس على أصل حفظ الأموال كما فرضوه في بيع الفَرس الحُبُس إذا أصابه ما يفضي به إلى الهلاك أو عدم النفع ، وهي المعاوضة لِرَبْع الحبس إذا خرب .
وحكم الهدايا مركب من تعبّد وتعليل ، ومعنى التعليل فيه أقوى ، وعلّته انتفاع المسلمين ، ومسلك العلّة الإيماء الذي في قوله تعال : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } [ الحج : 36 ] .
واعلم أن توهم التقرب بتلطيخ دماء القرابين وانتفاع المتقرب إليه بتلك الدماء عقيدة وثنية قديمة فربما كانوا يطرحون ما يتقربون به من لحم وطعام فلا يدَعون أحداً يأكله . وكان اليونان يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رماداً ويتوهمون أنّ رائحة الشواء تسرّ الآلهة المتقرب إليها بالقرابين ، وكان المصريُّون يُلقون الطعام للتماسيح التي في النيل لأنها مقدّسة .
وقرأ الجمهور { يَنال ، ويَناله } بتحتية في أولهما . وقرأه يعقوب بفوقية على مراعاة ما يجوز في ضمير جمع غير العاقل . وربما كانوا يقذفون بمِزع من اللحم على أنها لله فربما أصابها محتاج وربما لم يتفطن لها فتأكلها السّباع أو تفسد .
ويشمل التقوى ذكر اسم الله عليها والتصدّق ببعضها على المحتاجين .
و { يناله } مشاكلة ل { ينال } الأول ، استعير النيل لتعلّق العلم . شبه علم الله تقواهم بوصول الشيء المبعوث إلى الله تشبيهاً وجهّه الحصول في كلّ وحسنته المشاكلة .
و ( مِن ) في قوله { مِنكم } ابتدائية . وهي ترشيح للاستعارة ، ولذلك عبّر بلفظ { التقوى منكم } دون : تقواكم أو التقوى . مجرداً مع كون المعدول عنه أوجز لأنّ في هذا الإطناب زيادة معنى من البلاغة .
{ كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المحسنين } .
تكرير لجملة : { كذلك سخرناها لكم } [ الحج : 36 ] ، وليبنى عليه التنبيه إلى أن الثناء على الله مسخّرها هو رأس الشكر المنبه عليه في الآية السابقة ، فصار مدلول الجملتين مترادفاً . فوقع التأكيد . فالقول في جملة { كذلك سخرها لكم لتكبروا الله } كالقول في أشباهها .
وقوله { على ما هداكم } { على } فيه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكن ، أي لتكبّروا الله عند تمكنكم من نحرها . و ( ما ) موصولة ، والعائد محذوف مع جارّه . والتقديرُ : على ما هداكم إليه من الأنعام .
والهداية إليها : هي تشريع الهدايا في تلك المواقيت لينتفع بها الناس ويرتزق سكان الحرم الذين اصطفاهم الله ليكونوا دعاةَ التوحيد لا يفارقون ذلك المكان ، والخطاب للمسلمين .
وتغيير الأسلوب تخريج على خلاف مقتضى الظاهر بالإظهار في مقام الإضمار للإشارة إلى أنهم قد اهتدوا وعملوا بالاهتداء فأحسنوا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} وذلك أن كفار العرب كانوا في الجاهلية إذا نحروا البدن عند زمزم أخذوا دماءها فنضحوها قبل الكعبة، وقالوا: اللهم تقبل منا، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فأنزل الله عز وجل، {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} {ولكن يناله التقوى منكم} يقول: النحر هو تقوى منكم، فالتقوى هو الذي ينال الله ويرفعه إليه، فأما اللحوم والدماء فلا يرفعه إليه، {كذلك سخرها لكم} يعني: البدن {لتكبروا} لتعظموا {الله على ما هداكم} لدينه {وبشر المحسنين}، بالجنة، فمن فعل ما ذكر الله في هذه الآيات فقد أحسن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"لن" يصل إلى الله لحوم بدنكم ولا دماؤها، ولكن يناله اتقاؤكم إياه إن اتقيتموه فيها فأردتم بها وجهه وعملتم فيها بما ندبكم إليه وأمركم به في أمرها وعظمتم بها حرماته...
وقوله: "كَذلكَ سَخّرَها لَكُمْ "يقول: هكذا سخر لكم البُدن، "لِتُكُبّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ" يقول: كي تعظموا الله على ما هداكم، يعني على توفيقه إياكم لدينه وللنسك في حجكم...
"وَبَشّرِ المُحْسِنِينَ" يقول: وبشّر يا محمد الذين أطاعوا الله فأحسنوا في طاعتهم إياه في الدنيا بالجنة في الآخرة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وبشر المحسنين} يخرج قوله: {المحسنين} على وجوه: أحدها: المحسنون إلى أنفسهم. والثاني: المحسنون إلى إخوانهم. والثالث: الذين حسنت أفعالهم وصلح عملهم...
{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} يعني: ذلّلها لتصريف العباد فيما يريدون منها خلاف السباع الممتنعة بما أُعطيت من القوة والآلة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا عِبْرَةَ بأعيان الأفعال سواء كانت بدنيةً محضة، أو ماليةً صِرْفة، أو بما له تعلُّق بالوجهين، ولكن العبرة باقترانها بالإخلاص، فإِذا انضافَ إلى أكسابِ الجوارح إخلاصُ القصود، وتَجَرَّدَتْ عن ملاحظة أصحابِها للأغيار، صَلُحَتْ للقبول...
{وَبَشِّر المُحْسِنِينَ}: والإحسان كما في الخبر:"أن تعبد الله كأنك تراه..". وأمارة صحته سقوطُ التعب بالقلبِ عن صاحبهِ، فلا يستثقلُ شيئاً، ولا يتبرم بشيءٍ.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
أي الصفة التي استولت على القلب حتى حملته على امتثال الأوامر هي المطلوبة، فمن هذا الوجه يجب لا محالة أن تكون أعمال القلب على الجملة أفضل من حركات الجوارح، ثم يجب أن تكون النية من جملتها أفضل، لأنها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي: لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر، والمراد أصحاب اللحوم والدماء، والمعنى: لن يرضي المضحون والمقرّبون ربهم إلا بمراعاة النية والإخلاص والاحتفاظ بشروط التقوى في حلّ ما قرب به، وغير ذلك من المحافظات الشرعية وأوامر الورع، فإذا لم يراعوا ذلك، لم تغن عنهم التضحية والتقريب وإن كثر ذلك منهم...
كرّر تذكير النعمة بالتسخير ثم قال: لتشكروا الله على هدايته إياكم لأعلام دينه ومناسك حجّه، بأن تكبروا وتهللوا، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
والإشارة بهذه الآية إلى أنه لا يقبل اللحوم والدماء إذا لم تكن صادرة عن تقوى الله، وإنما يتقبل ما يتقونه به، وهذا تنبيه على امتناع قبول الأعمال إذا عريت عن نية صحيحة.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{لن ينال الله} لن يصيب رضاه ولن يقع منه موقع القبول. {لحومها} المتصدق بها. {ولا دماؤها} المهراقة بالنحر من حيث إنها لحوم ودماء...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وما جاء في الحديث: "إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض... فمعناه: أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله، وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولكن يناله التقوى} أي عمل القلب وهي الصفة المقصود بها أن تقي صاحبها سخط الله، وهي التي استولت على قلبه حتى حملته على امتثال الأوامر التي هي نهايات لذلك، الكائنة {منكم} الحاملة على التقرب التي بها يكون له روح القبول، المحصلة للمأمول. قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن النية الخالصة خير من الأعمال الموظفة -انتهى...
فقد تفيد النية من غير عمل كما قال صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ما معناه. "إن بالمدينة رجالاً ما نزلنا منزلاً ولا قطعنا وادياً إلا كانوا فيه حبسهم العذر "ولا يفيد العمل بغير نية، والنية هي التي تفيد الجزاء سرمداً والله الموفق...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
والخلاصة: لن يرضي المضحون ربهم إلا إذا أحسنوا النية وأخلصوا له في أعمالهم، فإذا لم يراعوا ذلك لم تغن عنهم التضحية والتقرب بها شيئا وإن كثر ذلك، فقد جاء في الصحيح:"إن الله لا ينظر إلى صوركم و لا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ليس المقصود منها ذبحها فقط. ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء، لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها، والاحتساب، والنية الصالحة، ولهذا قال: {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده، لا فخرا ولا رياء، ولا سمعة، ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات، إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله، كانت كالقشور الذي لا لب فيه، والجسد الذي لا روح فيه...
{وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} بعبادة الله بأن يعبدوا الله، كأنهم يرونه، فإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة فليعبدوه، معتقدين وقت عبادتهم اطلاعه عليهم، ورؤيته إياهم، والمحسنين لعباد الله، بجميع وجوه الإحسان من نفع مال، أو علم، أو جاه، أو نصح، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو كلمة طيبة ونحو ذلك، فالمحسنون لهم البشارة من الله، بسعادة الدنيا والآخرة وسيحسن الله إليهم، كما أحسنوا في عبادته ولعباده {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وبشر المحسنين).. الذين يحسنون التصور، ويحسنون الشعور، ويحسنون العبادة، ويحسنون الصلة بالله في كل نشاط الحياة...
وهكذا لا يخطو المسلم في حياته خطوة، ولا يتحرك في ليله أو نهاره حركة، إلا وهو ينظر فيها إلى الله. ويجيش قلبه فيها بتقواه، ويتطلع فيها إلى وجهه ورضاه. فإذا الحياة كلها عبادة تتحقق بها إرادة الله من خلق العباد، وتصلح بها الحياة في الأرض وهي موصولة السبب بالسماء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحكم الهدايا مركب من تعبّد وتعليل، ومعنى التعليل فيه أقوى، وعلّته انتفاع المسلمين، ومسلك العلّة الإيماء الذي في قوله تعال: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} واعلم أن توهم التقرب بتلطيخ دماء القرابين وانتفاع المتقرب إليه بتلك الدماء عقيدة وثنية قديمة فربما كانوا يطرحون ما يتقربون به من لحم وطعام فلا يدَعون أحداً يأكله. وكان اليونان يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رماداً ويتوهمون أنّ رائحة الشواء تسرّ الآلهة المتقرب إليها بالقرابين، وكان المصريُّون يُلقون الطعام للتماسيح التي في النيل لأنها مقدّسة...
والهداية إليها: هي تشريع الهدايا في تلك المواقيت لينتفع بها الناس ويرتزق سكان الحرم الذين اصطفاهم الله ليكونوا دعاةَ التوحيد لا يفارقون ذلك المكان، والخطاب للمسلمين...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
نفى الله تعالى نفيا مؤكدا، أن يصل إلى الله تعالى منها شيء، لأنه واجد الوجود غير محتاج حتى يحتاج إلى لحم البدن ودماؤها، فإنما يحتاج إلى ذلك من يكون فقيرا إليها، ولا أن تكون مرضاته في لحومها، ولا في دمائها، فإذا كان قد أوجب عليكم نحرها، والتقرب بذبحها، فليس ذلك لأجل رضائه باللحم والدماء، {ولكن يناله التقوى منكم}، أي يبلغ مبلغ رضاه وقبوله التقوى منكم، فالله سبحانه لا يرضى بلحم يؤكل ولا تكون مرضاته في دم مهراق، وإن كان ذلك، وإنما يبلغ مرضاته وقبوله التقوى، وهذه إشارة إلى أمرين: الأمر الأول- أن الدم المهراق مطلوب في الحج تذكيرا بفداء إسماعيل. والأمر الثاني- أن الله تعالى ما طلب شعيرة البدن إلا لأجل التقوى، ولتكون مظهر هذه التقوى القلبية، وشعار مناسك الحج...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
ومهما يكن قصد الآية، فإنها قد احتوت تنبيها بليغا فيه إشارة إلى جوهر وهدف الشريعة الإسلامية. فالله لا ينتفع بصلاة الناس ولا بصومهم ولا بقرابينهم ولا بتوجيه وجوههم قبل مشرق أو مغرب. وإنما يتوخّى من كل ما يأمر به من هذه الأشكال إثارة التقوى في قلوبهم، وحملهم على تحرّي الخير والبرّ والعمل الصالح، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
التقوى سرّ العبودية لله: {وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} في ما يعبر عنه موقف العطاء المادي بلا مقابل تقرباً إلى الله، من حركة داخلية تنمّي التقوى في النفس، وتثيرها في الواقع، ذلك أن الممارسة كلما امتدت في حياة الإنسان، كلما عمقت تجربته الروحية في الداخل، بحيث تصبح الحركة على المستوى العملي هي السلوك الذي يختزن الحالة الروحيّة في المعنى، وبذلك تصبح الممارسة أسلوباً في التربية التي تبني الداخل وتحدد ملامح الشخصية، الأمر الذي يجعلنا نسعى إلى تعميق الفكرة في النفس، عبر تكرار العمل الذي يطبع معناها ويعكسه في الواقع.
{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وتسبحوه وتعظّموه، وتستحضروا عظمته، وتتذكروا نعمته، وتتطلعوا إلى أسرار الإبداع في خلقه، والقدرة المطلقة في قوّته، فإن الالتفات إلى مواقع هداية الله توحي بذلك كله.. {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} الذين عاشوا الحياة إحساناً في الفكر والقول والفعل، على مستوى قضايا الحياة والإنسان، في خط إرادة الله، في أوامره ونواهيه.