وليست الأموال والأولاد بالتي تقرب إلى الله زلفى وتدني إليه ، وإنما الذي يقرب منه زلفى ، الإيمان بما جاء به المرسلون ، والعمل الصالح الذي هو من لوازم الإيمان ، فأولئك لهم الجزاء عند اللّه تعالى مضاعفا الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، لا يعلمها إلا اللّه ، { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } أي : في المنازل العاليات المرتفعات جدا ، ساكنين فيها مطمئنين ، آمنون من المكدرات والمنغصات ، لما هم فيه من اللذات ، وأنواع المشتهيات ، وآمنون من الخروج منها والحزن فيها .
ثم زاد - سبحانه - هذه القضية توضيحا وتبيينا فقال : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } .
الزلفى : مصدر كالقربى ، وانتصابه على المصدرية من معنى العامل . أى ليست كثرة أموالكم ، ولا كثرة أولادكم بالتى من شأنها أن تقربكم إلينا قربى ، لأن هذه الكثرة ليست دليل محبة منا لكم ، ولا تكريم منالكم ، وإنما الذى يقربكم منا هو الإِيمان والعمل الصالح .
كما وضح - سبحانه - هذه الحقيقة فى قوله بعد ذلك : { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ } .
أى : ليس الأمر كما زعمتم - أيها المترفون - من أن كثرة الأموال والأولاد ستنجيكم من العذاب ، ولكن الحق والصدق أن الذى ينجيكم من ذلك ويقربكم منا ، هو الإِيمان والعمل الصالح . فهلاء الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحة لهم عند الله - تعالى - الجزاء الحسن المضاعف ، وهم فى غرفات الجنات آمنون مطمئنون .
قال الشوكانى ما ملخصه : قوله : { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } هو استثناء منقطع فيكون محله النصب . أى : لكن من آمن وعمل صالحا . . . والإِشارة بقوله : { فأولئك } إلى { مَنْ } والجمع باعتبار المعنى . وهو مبتدأ . وخبره { لَهُمْ جَزَآءُ الضعف } أى : فأولئك يجازيهم الله الضعف ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول . أو فأولئك لهم الجزاء المضاعف فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة . .
وأياً ما كانت أسباب بسط الرزق وقبضه من عمل الناس ، ومن حكمة الله ، فهي مسألة منفصلة عن أن تكون دليلاً بذاتها على أن المال والرزق والأبناء والمتاع قيم تقدم أو تؤخر عند الله . ولكنها تتوقف على تصرف المبسوط لهم في الرزق أو المضيق عليهم فيه . فمن وهبه الله مالاً وولداً فأحسن فيهما التصرف فقد يضاعف له الله في الثواب جزاء ما أحسن في نعمة الله . وليست الأموال والأولاد بذاتها هي التي تقربهم من الله ؛ ولكن تصرفهم في الأموال والأولاد هو الذي يضاعف لهم في الجزاء :
( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى . إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون .
ثم قال : { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى } أي : ليست هذه دليلا على محبتنا لكم ، ولا اعتنائنا بكم .
قال{[24370]} الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا كَثير ، حدثنا جعفر ، حدثنا يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[24371]} : «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » . [ و ]{[24372]} رواه مسلم وابن ماجة ، من حديث كثير بن هشام ، عن جعفر بن بُرْقَان ، به . {[24373]}
ولهذا قال : { إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا } أي : إنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح ، { فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا } أي : تضاعف{[24374]} لهم الحسنة بعشرة{[24375]} أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } أي : في منازل الجنة العالية آمنون من كل بأس وخوف وأذى ، ومن كل شر يُحْذَر منه .
قال{[24376]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء الكندي ، حدثنا القاسم وعلي بن مُسْهِر ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن في الجنة لَغرفا ترى ظهورها من بطونها ، وبطونها من ظهورها » . فقال أعرابي : لمن هي ؟ قال : " لمن طيب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، [ وصلى بالليل والناس نيام ] " {[24377]} {[24378]} .
ثم أخبرهم بأن أموالهم وأولادهم ليست بمقربة من الله { زلفى } ، والزلفى مصدر بمعنى القرب ، وكأنه قال تقربكم عندنا تقريباً ، وقرأ الضحاك «زلَفًى » بفتح اللام وتنوين الفاء ، وقوله تعالى : { إلا من آمن } استثناء منقطع ، و { من } في موضع نصب بالاستثناء ، وقال الزجاج { من } بدل من الضمير في { تقربكم } ، وقال الفراء { من } في موضع رفع ، وتقدير الكلام ما هو المقرب إلا من آمن ، وقرأ الجمهور «جزاءُ الضعفِ » بالإضافة ، وقرأ قتادة «جزاءُ الضعفُ » برفعها ، وحكى عنه الداني «جزاءَ » بالنصب «الضعفَ » بنصب الفاء ، و { الضعف } هنا اسم جنس أي بالتضعيف إذ بعضهم يجازى إلى عشرة وبعضهم أكثر إلى سبعمائة بحسب الأعمال . ومشيئة الله تعالى فيها ، وقرأ جمهور القراء «في الغرفات » بالجمع ، وقرأ حمزة وحده «في الغرفة » على اسم الجنس يراد به الجمع ، ورويت عن الأعمش وهما في القراءة حسنتان ، قال أبو علي : وقد يجيء هذا الجمع بالألف والتاء «الغرفات » ونحوه للتكثير ومنه قول حسان بن ثابت :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى . . . وأسيافنا يقطرن من نجدة دما{[9666]}
قال الفقيه الإمام القاضي : وتأمل نقد الأعشى في هذا البيت ، وقرأ الأعمش والحسن وعاصم بخلاف في «الغرْفات » بسكون الراء .
يجوز أن تكون جملة { وما أموالكم } عطفاً على جملة { قل إن ربي يبسط الرزق } [ سبأ : 36 ] الخ فيكون كلاماً موجهاً من جانب الله تعالى إلى الذين قالوا : { نحن أكثر أموالاً وأولاداً } [ سبأ : 35 ] فتكون ضمائر الخطاب موجهة إلى الذين قالوا : { نحن أكثر أموالاً وأولاداً } .
ويجوز أن تكون عطفاً على جملة { إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء } [ سبأ : 36 ] ، فيكون مما أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ويبلغه عن الله تعالى ، ويكون في ضمير { عندنا } التفات ، وضمائر الخطاب تكون عائدة إلى الذين قالوا : { نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين } [ سبأ : 35 ] وفيها وجه ثالث ننبه عليه قريباً .
وهو ارتقاء من إبطال الملازمة إلى الاستدلال على أنهم ليسوا بمحل الرضى من الله تعالى على طريقة النقض التفصيلي المسمى بالمناقضة أيضاً في علم المناظرة . وهو مقام الانتقال من المنع إلى الاستدلال على إبطال دعوى الخصم ، فقد أبطلت الآية أن تكون أموالُهم وأولادهم مقربة عند الله تعالى ، وأنه لا يقرّب إلى الله إلا الإِيمان والعمل الصالح .
وجيء بالجملة المنفية في صيغة حصر بتعريف المسند إليه والمسند ، لأن هذه الجملة أريد منها نفي قولهم : { نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين } أي لا أنتم ، فكان كلامهم في قوة حصر التقريب إلى الله في كثرة الأموال والأولاد فنُفي ذلك بأسره .
وتكرير { لا } النافية بعد العاطف في { ولا أولادكم } لتأكيد تسلط النفي على كلا المذكورْين ليكون كل واحد مقصوداً بنفي كونه مما يقرب إلى الله وملتفتاً إليه .
ولما كانت الأموال والأولاد جمعَيْ تكسير عوملا معاملة المفرد المؤنث فجيء بخبرهما اسم موصول المفرد المؤنث على تأويل جماعة الأموال وجماعة الأولاد ولم يلتفت إلى تغلب الأولاد على الأموال فيخبر عنهما معاً ب ( الذين ) ونحوه .
وعدل عن أن يقال : بالتي تقربكم إلينا ، إلى { تقربكم عندنا } لأن التقريب هنا مجاز في التشريف والكرامة لا تقريب مكان .
والزلفى : اسم للقرب مثل الرُّجعى وهو مفعول مطلق نائب عن المصدر ، أي تقربكم تقريباً ، ونظيره { واللَّه أنبتكم من الأرض نباتاً } [ نوح : 17 ] .
وقوله : { إلا من آمن وعمل صالحاً } استثناء منقطع . و { إلا } بمعنى ( لكنْ ) المخففة النون التي هي للاستدراك وما بعدها كلام مستأنف ، وذلك من استعمالات الاستثناء المنقطع ؛ فإنه إذا كان ما بعد { إلا } ليس من جنس المستثنى منه كان الاستثناء منقطعاً ، ثم إن كان ما بعد { إلا } مفرداً فإن { إلا } تقدّر بمعنى ( لكنّ ) أخت ( إنّ ) عند أهل الحجاز فينصبون ما بعدها على توهم اسم ( لكنّ ) وتقدر بمعنى ( لكنْ ) المخففة العاطفة عند بني تميم فيتبع الاسم الذي بعدها إعراب الاسم الذي قبلها وذلك ما أشار إليه سيبويه في باب يختار فيه النصب من أبواب الاستثناء{[335]} .
فأما إن كان ما بعد { إلا } جملة اسمية أو فعلية فإن { إلا } تقدر بمعنى ( لكنْ ) المخففة وتجعل الجملة بعدُ استئنافاً ، وذلك في نحو قول العرب : « والله لأفعلن كذا إلا حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا » قال سيبويه : « فإن : أَن أفعل كذا ، بمنزلة : إلاّ فِعْل كذا ، وهو مبني على حِلّ ( أي هو خبر له ) . وحِلّ مبتدأ كأنه قال : ولكنْ حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا » ا ه{[336]} .
قال ابن مالك في « شرح التسهيل » : وتقرير الإِخراج في هذا أن تجعل قولهم : إلا حلُّ ذلك ، بمنزلة : لا أرى لهذا العَقد مبطِلاً إلا فِعْلَ كذا . وجعل ابن خروف من هذا القبيل قوله تعالى : { لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه اللَّه العذاب الأكبر } [ الغاشية : 22 24 ] على أن يكون { مَن } مبتدأ و « يعذبه الله » الخبر ودخل الفاء لتضمين المبتدأ معنى الجزاء . وقال أبو يَسعود : إن { إلاّ } في الاستثناء المنقطع يكون ما بعدها كلاماً مستأنفاً اهـ .
وعلى هذا فقوله تعالى هنا : { إلا من آمن وعمل صالحاً } تقديره : لكن من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف ، فيكون { مَن } مبتدأ مضمَّناً معنى الشرط و { لهم جزاء الضعف } جملة خبر عن المبتدأ وزيدت الفاء في الخبر لتضمين المبتدأ معنى الشرط .
وأسهل من هذا أن نجعل { مَن } شرطية وجملة { فأولئك لهم جزاء الضعف } جواب الشرط ، واقترن بالفاء لأنه جملة اسمية . وهذا تحقيق لمعنى الاستثناء المنقطع وتفسير للآية بدون تكلف ولا تردد في النظم .
ويجوز أن تكون جملة { وما أموالكم ولا أولادكم } الخ اعتراضاً بين جملة { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [ سبأ : 36 ] وجملة { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له } [ سبأ : 39 ] وتكون ضمائر الخطاب موجهة إلى جميع الناس المخاطبين بالقرآن من مؤمنين وكافرين . وعليه فيكون قوله : { إلا من آمن وعمل صالحاً } الخ مستثنى من ضمير الخطاب ، أي ما أموالكم بالتي تقربكم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم ، وتكون جملة { فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا } ثناء على الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
وجيء باسم الإِشارة في الإِخبار عن { من آمن } للتنويه بشأنهم والتنبيه على أنهم جديرون بما يرد بعد اسم الإِشارة من أجل تلك الأوصاف التي تقدمت اسم الإِشارة على ما تقدم في قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] وغيره . ووزان هذا المعنى وزان قوله : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } إلى قوله : { لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات } [ آل عمران : 198 ] الآية .
و { الضِعف } المضاعف المكرر فيصدق بالمكرر مرة وأكثر . وفي الحديث " والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة " وقد أشار إليه قوله تعالى : { كمثل حبّة أنبتت سبعَ سنابل في كل سنبلة مائةُ حبة واللَّه يضاعف لمن يشاء } [ البقرة : 261 ] .
وإضافة { جزاء } إلى { الضعف } إضافة بيانية ، أي الجزاء الذي هو المضاعفة لأعمالهم ، أي لما تستحقه كما تقدم .
وكنّي عن التقريب بمضاعفة الجزاء لأن ذلك أمارة كرامة المجزي عند الله ، أي أولئك الذين يقربون زلفى فيجزون جزاء الضعف على أعمالهم لا على وفرة أموالهم وأولادهم ، فالاستدراك ورد على جميع ما أفاده كلام المشركين من الدعوى الباطلة والفخر الكاذب لرفع توهم أن الأموال والأولاد لا تقرب إلى الله بحال ، فإن من أموال المؤمنين صدقات ونفقات ، ومن أولادهم أعواناً على البرّ ومجاهدين وداعين لآبائهم بالمغفرة والرحمة .
والباء في قوله : { بما عملوا } تحتمل السببية فتكون دليلاً على ما هو المضاعف وهو ما يناسب السبب من الصالحات كقوله تعالى : { هل جزاء الإِحسان إلا الإِحسان } [ الرحمن : 60 ] ، وتحتمل العوض فيكون « ما عملوا » هو المجازَى عليه كما تقول : جزيته بألف ، فلا تقدير في قوله : { جزاء الضعف } .
و { الغرفات } جمع غُرفة . وتقدم في آخر الفرقان وهي البيت المعتلي وهو أجمل منظراً وأشمل مرأى . و { آمنون } خبر ثان يعني تلقي في نفوسهم الأمن من انقطاع ذلك النعيم .
وقرأ الجمهور { في الغرفات } بصيغة الجمع ، وقرأ حمزة « في الغُرْفة » بالإِفراد .