فلم يبق إلا الشفاعة ، فنفاها بقوله : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } فهذه أنواع التعلقات ، التي يتعلق بها المشركون بأندادهم ، وأوثانهم ، من البشر ، والشجر ، وغيرهم ، قطعها اللّه وبيَّن بطلانها ، تبيينا حاسما لمواد الشرك ، قاطعا لأصوله ، لأن المشرك إنما يدعو ويعبد غير اللّه ، لما يرجو منه من النفع ، فهذا الرجاء ، هو الذي أوجب له الشرك ، فإذا كان من يدعوه [ غير اللّه ] ، لا مالكا للنفع والضر ، ولا شريكا للمالك ، ولا عونا وظهيرا للمالك ، ولا يقدر أن يشفع بدون إذن المالك ، كان هذا الدعاء ، وهذه العبادة ، ضلالا في العقل ، باطلة في الشرع .
بل ينعكس على المشرك مطلوبه ومقصوده ، فإنه يريد منها النفع ، فبيَّن اللّه بطلانه وعدمه ، وبيَّن في آيات أخر ، ضرره على عابديه{[734]} وأنه يوم القيامة ، يكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضا ، ومأواهم النار { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
والعجب ، أن المشرك استكبر عن الانقياد للرسل ، بزعمه{[735]} أنهم بشر ، ورضي أن يعبد ويدعو الشجر ، والحجر ، استكبر عن الإخلاص للملك الرحمن الديان ، ورضي بعبادة من ضره أقرب من نفعه ، طاعة لأعدى عدو له وهو الشيطان .
وقوله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } يحتمل أن الضمير في هذا الموضع ، يعود إلى المشركين ، لأنهم مذكورون في اللفظ ، والقاعدة في الضمائر ، أن تعود إلى أقرب مذكور ، ويكون المعنى : إذا كان يوم القيامة ، وفزع عن قلوب المشركين ، أي : زال الفزع ، وسئلوا حين رجعت إليهم عقولهم ، عن حالهم في الدنيا ، وتكذيبهم للحق الذي جاءت به الرسل ، أنهم يقرون ، أن ما هم عليه من الكفر والشرك ، باطل ، وأن ما قال اللّه ، وأخبرت به عنه رسله ، هو الحق فبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل وعلموا أن الحق للّه ، واعترفوا بذنوبهم .
{ وَهُوَ الْعَلِيُّ } بذاته ، فوق جميع مخلوقاته وقهره لهم ، وعلو قدره ، بما له من الصفات العظيمة ، جليلة المقدار { الْكَبِيرُ } في ذاته وصفاته .
ومن علوه ، أن حكمه تعالى ، يعلو ، وتذعن له النفوس ، حتى نفوس المتكبرين والمشركين .
وهذا المعنى أظهر ، وهو الذي يدل عليه السياق ، ويحتمل أن الضمير يعود إلى الملائكة ، وذلك أن اللّه تعالى إذا تكلم بالوحي ، سمعته الملائكة ، فصعقوا ، وخروا للّه سجدا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه اللّه من وحيه بما أراد ، وإذا زال الصعق عن قلوب الملائكة ، وزال الفزع ، فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك الكلام الذي صعقوا منه : ماذا قال ربكم ؟ فيقول بعضهم لبعض : قال الحق ، إما إجمالا ، لعلمهم أنه لا يقول إلا حقا ، وإما أن يقولوا : قال كذا وكذا ، للكلام الذي سمعوه منه ، وذلك من الحق .
فيكون المعنى على هذا : أن المشركين الذين عبدوا مع اللّه تلك الآلهة ، التي وصفنا لكم عجزها ونقصها ، وعدم نفعها بوجه من الوجوه ، كيف صدفوا وصرفوا عن إخلاص العبادة للرب العظيم ، العلي الكبير ، الذي - من عظمته وجلاله - أن الملائكة الكرام ، والمقربين من الخلق ، يبلغ بهم الخضوع والصعق ، عند سماع كلامه هذا المبلغ ، ويقرون كلهم للّه ، أنه لا يقول إلا الحق .
فما بال هؤلاء المشركين ، استكبروا عن عبادة من هذا شأنه ، وعظمة ملكه وسلطانه . فتعالى العلي الكبير ، عن شرك المشركين ، وإفكهم ، وكذبهم .
ثم نفى - سبحانه - أن تكون هناك شفاعة من أحد لأحد إلا بإذنه - تعالى - فقال : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } .
والشفاعة : من الشفع الذى هو ضد الوتر - أى : الفرد - ، ومعناها : انضمام الغير إلى الشخص ليدفع عنه ما يمكن دفعه من ضر .
أى : ولا تنفع الشفاعة عند الله - تعالى - من أحد لأحد ، إلا لمن أذن الله - تعالى - له فى ذلك .
قال الآلوسى ما ملخصه : والمراد نفى شفاعة الأصنام لعابديها ، ولكنه - سبحانه - ذكر على وجه عام ، ليكون طريقا برهانيا . أى : لا تنفع الشفاعة فى حال من الأحوال ، أو كائنة لمن كانت ، إلا كائنة لشافع أذن له فيها من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة . ومن البين أنه لا يؤذن فى الشفاعة للكفار ، فقد قال - تعالى - :
{ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } والشفاعة لهم بمعزل عن الصواب ، وعدم الإِذن للأصنام أبين وأبين ، فتبين حرمان هؤلاء الكفرة منها بالكلية . . .
وقوله : { حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق . . } بيان لما يكون عليه المتظرون للشفاعة ، من لهفة وقلق .
والتضعيف فى قوله { فُزِّعَ } للسلب . كما فى قولهم : مَرَّضت المريض إذا عملت على إزالة مرضه .
فمعنى : { فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } : كشف الفزع عنها ، وهدأت أحوالها بعد أن أصابها ما أصابها من هول وخوف فى هذا اليوم الشديد ، وهو ويم القيامة .
و { حتى } غاية لما فهم من الكلام قبلها ، من أن هناك تلهفا وترقبا من الراجين للشفاعة ومن الشفعاء ، إذ الكل منتظر بقلق لما يؤول إليه أمره من قبول الشفاعة أو عدم قبولها .
والمعنى : ولا تقبل الشفاعة يوم القيامة من أحد إلا لمن أذن الله - تعالى - له فى ذلك ، وفى هذا اليوم الهائل الشديد ، يقف الناس فى قلق ولهفة منتظرين قبول الشفاعة فيهم . حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم ، بسبب إذن الله - تعالى - فى قبولها ممن يشاء ولمن يشاء ، واستبشر الناس وقال بعضهم لبعض ، أو قالوا للملائكة : { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } أى : ماذا قال ربكم فى شأننا ومصيرنا .
وهنا تقول لهم الملائكة ، أو يقول بعضهم لبعض : { قَالُواْ الحق } أى : يقولون قال ربنا القول الحق وهو الإِذن فى الشفاعة لمن ارتضى .
فلفظ { الحق } منصوب بفعل مضمر . أى : قالوا قال ربنا الحق أو صفة لموصوف محذوف . أى : قالوا : قال ربنا القول ارتضى .
{ وَهُوَ } - سبحانه - { العلي } أى : المتفرد بالعلو فوق خلقه { الكبير } أى : المتفرد بالكبرياء والعظمة .
قال صاحب الكشاف - رحمة الله - : فإن قلت : بم اتصل قوله : { حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } ، ولأى شئ وقعت حتى غاية ؟ .
قلت : اتصل بما فهم من هذا الكلام ، من أن ثم انتضارا للإِذن وتوقعها وتمهلا وفزعا من لاراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذون لهم أولا ؟ وأنه لا يطلق الإِذن إلا بعد ملىِّ من الزمان ، وطول التربص . .
كأنه قيل : ينتظرون ويتوقفون كليا فزعين وهلين ، حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم ، بكلمة يتكلم بها رب العزة فى إطلاق الإِذن : تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ } قال { الحق } أى : القول الحق ، وهو الإِذن بالشفاعة لمن ارتضى . .
ومن ثم نفى شفاعتهم لهم في الآية التالية . وذلك في مشهد تتفزع له الأوصال في حضرة ذي الجلال :
( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) . .
فالشفاعة مرهونة بإذن الله . والله لا يأذن في الشفاعة في غير المؤمنين به المستحقين لرحمته . فأما الذين يشركون به فليسوا أهلا لأن يأذن بالشفاعة فيهم ، لا للملائكة ولا لغيرهم من المأذونين بالشفاعة منذ الابتداء !
ثم صور المشهد الذي تقع فيه الشفاعة ؛ وهو مشهد مذهل مرهوب :
( حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق وهو العلي الكبير ) . .
إنه مشهد في اليوم العصيب . يوم يقف الناس ، وينتظر الشفعاء والمشفوع فيهم أن يتأذن ذو الجلال في عليائه بالشفاعة لمن ينالون هذا المقام . ويطول الانتظار . ويطول التوقع . وتعنو الوجوه . وتسكن الأصوات . وتخشع القلوب في انتظار الإذن من ذي الجلال والإكرام .
ثم تصدر الكلمة الجليلة الرهيبة ، فتنتاب الرهبة الشافعين والمشفوعين لهم . ويتوقف إدراكهم عن الإدراك .
( حتى إذا فزّع عن قلوبهم ) . . وكشف الفزع الذي أصابهم ، وأفاقوا من الروعة التي غمرتهم فأذهلتهم . ( قالوا : ما ذا قال ربكم ? )يقولها بعضهم لبعض . لعل منهم من يكون قد تماسك حتى وعى . ( قالوا : الحق ) . . ولعلهم الملائكة المقربون هم الذين يجيبون بهذه الكلمة المجملة الجامعة : ( قالوا الحق ) . قال ربكم : الحق . الحق الكلي . الحق الأزلي . الحق اللدني . فكل قوله الحق . ( وهو العلي الكبير ) . . وصف في المقام الذي يتمثل فيه العلو والكبر للإدراك من قريب . .
وهذه الإجابة المجملة تشي بالروعة الغامرة ، التي لا ينطق فيها إلا بالكلمة الواحدة !
فهذا هو موقف الشفاعة المرهوب . وهذه صورة الملائكة فيه بين يدي ربهم . فهل بعد هذا المشهد يملك أحد أن يزعم أنهم شركاء لله ، شفعاء في من يشرك بالله ? !
وقال :{[24304]} { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أي : لعظمته [ وجلاله ]{[24305]} وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة ، كما قال تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وقال : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ [ وَيَرْضَى{[24306]} ] } [ النجم : 26 ] ، وقال : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] .
ولهذا ثبت في الصحيحين{[24307]} ، من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو سيد ولد آدم ، وأكبر شفيع عند الله - : أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلّهم أن يأتي ربّهم لفصل القضاء ، قال : «فأسجد لله فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن ، ثم يقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يُسمع{[24308]} ، وسل تُعْطَه واشفع تشفع » الحديث بتمامه .
وقوله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ } . وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة . وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي ، سمع أهل السموات كلامه ، أرْعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي . قاله ابن مسعود ومسروق ، وغيرهما .
{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم } أي : زال الفزع عنها . قال ابن عباس ، وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي ، وإبراهيم النَّخَعيّ ، والضحاك والحسن ، وقتادة في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم } يقول : جُلِّى عن قلوبهم ، وقرأ بعض السلف - وجاء مرفوعا - : " [ حَتَّى ]{[24309]} إذَا فرغ " بالغين{[24310]} المعجمة ، ويرجع إلى الأول .
فإذا كان كذلك يسأل بعضهم بعضا : ماذا قال ربكم ؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم ، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا ؛ ولهذا قال : { قَالُوا الْحَقّ } أي : أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان ، { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } .
وقال آخرون : بل معنى قوله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } يعني : المشركين عند الاحتضار ، ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم : الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا .
قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } : كشف عنها الغطاء يوم القيامة .
وقال الحسن : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } يعني : ما فيها من الشك والتكذيب . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } يعني : ما فيها من الشك ، قال : فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم ، { قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } قال : وهذا في بني آدم ، هذا عند الموت ، أقروا حين لا ينفعهم الإقرار .
وقد اختار ابن جرير القول الأول : أن الضمير عائد على الملائكة{[24311]} . هذا هو الحق الذي لا مرية فيه ، لصحة الأحاديث فيه والآثار ، ولنذكر منها طرفا يدل على غيره :
قال البخاري عند تفسير هذه الآية الكريمة في صحيحه : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، سمعت عِكْرِمة ، سمعت أبا هُرَيرة{[24312]} يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا قضى الله الأمرَ في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوانَ ، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحقّ ، وهو العلي الكبير فيسمعها مُسْتَرق السمع ، ومسترق السمع - هكذا بعضه{[24313]} فوق بعض - ووصف سفيان بيده - فَحَرّفها وبَدّد{[24314]} بين أصابعه - فَيسمع الكلمة ، فيلقيها إلى مَنْ تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى مَنْ تحته ، حتى يلقيَها على لسان الساحر{[24315]} أو الكاهن ، فَربما أدركه الشّهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كَذْبَة ، فيقال : أليس قد قال لنا يومَ كذا وكذا : كذا {[24316]} وكذا ؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء .
انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه . وقد رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث سفيان بن عيينة ، به . {[24317]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، أخبرنا الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ جالسًا ]{[24318]} في نفر من أصحابه - قال عبد الرزاق : " من الأنصار " - فَرُميَ بنجم فاستنار ، [ قال ]{[24319]} : " ما كنتم تقولون إذا كان مثلُ هذا في الجاهلية ؟ " قالوا : كنا نقول يُولَد عظيم ، أو يموت{[24320]} عظيم - قلت للزهري : أكان يرمى بها في الجاهلية ؟ قال : نعم ، ولكن غُلّظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم - قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا ، تبارك وتعالى ، إذا قضى أمرا سبح حَمَلةُ العرش [ ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح هذه{[24321]} الدنيا ، ثم يستخبر أهل السماء الذين يَلُونَ حملة العرش ، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ]{[24322]} : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ، ويخبر أهل كل سماء سماء ؛ حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، وتخطف الجن السمع فيرمون ، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون .
هكذا رواه الإمام أحمد{[24323]} . وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، من حديث صالح بن كَيْسَان ، والأوزاعي ، ويونس ومَعْقِل بن عبيد الله{[24324]} ، أربعتهم عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن ابن عباس عن رجل من الأنصار ، به{[24325]} . ورواه وقال يونس : عن رجال من الأنصار{[24326]} ، وكذا رواه النسائي{[24327]} في " التفسير " من حديث الزبيدي ، عن الزهري ، به{[24328]} . ورواه الترمذي فيه عن الحُسَين بن حريث ؛ عن الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن رجل من الأنصار ، رضي الله عنه{[24329]} ، والله{[24330]} أعلم .
حديث آخر : قال ابن أبى حاتم : حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي - والسياق لمحمد بن عوف - قالا حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا الوليد - هو ابن مسلم - عن عبد الرحمن بن يزيد{[24331]} بن جابر ، عن عبد الله بن أبي زكرياء ، عن رجاء بن حيوة ، عن النواس بن سَمْعان{[24332]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي ، فإذا تكلم أخذت السموات منه{[24333]} رجفة - أو قال : رعدة - شديدة ؛ من خوف الله ، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا ، فيكون أول مَنْ يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، فيمضي به جبريل على الملائكة ، كلما مَرّ بسماء سماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول : قال : الحقّ ، وهو العلي الكبير . فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله من السماء والأرض " .
وكذا رواه ابن جرير وابن خُزَيمة ، عن زكريا بن أبان المصري ، عن نعيم بن حماد ، به . {[24334]}
قال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : ليس هذا الحديث بالشام عن الوليد بن مسلم ، رحمه الله .
وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العَوفي ، عن ابن عباس - وعن قتادة : أنهما فسرا هذه الآية بابتداء إيحاء الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى ، ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الآية .
المعنى أن كل من دعوتم إلهاً من دون الله لا يملكون مثقال ذرة ولا تنفع شفاعتهم إلا بإذن فيمن آمن ، فكأنه قال ولا هم شفعاء على الحد الذي ظننتم أنتم واختلف المتأولون في قوله تعالى : { إلا لمن أذن له } فقالت فرقة معناه { لمن أذن لهم } أن يشفع ، فيه ، وقالت فرقة معناه { لمن أذن له } أن يشفع هو .
قال القاضي أبو محمد : واللفظ يعمهما ، لأن الإذن إذا انفرد للشافع فلا شك أن المشفوع فيه معين له ، وإذا انفرد للمشفوع فيه فالشافع لا محالة عالم معين لذلك ، وانظر أن اللام الأولى تشير إلى المشفوع فيه من قوله { لمن } تقول شفعت لفلان ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أُذن »{[9653]} بضم ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «أذَن » بفتحها ، والضمير في { قلوبهم } عائد على الملائكة الذين دعوهم آلهة ، ففي الكلام حذف يدل عليه الظاهر فكأنه قال ولا هم شفعاء كما تحسبون أنتم بل هم عبدة مستسلمون أبداً حتى إذا فزع عن قلوبهم .
قال الفقيه الإمام القاضي : وتظاهرت الأحاديث{[9654]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية أعني قوله { حتى إذا فزع عن قلوبهم } إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل وبالأمر يأمر به سمعت كجر سلسلة الحديد على صفوان فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة ، وقيل خوف أن تقوم الساعة فإذا فزع ذلك { فزع عن قلوبهم } أي أطير الفزع عنها وكشف فيقول بعضهم لبعض ولجبريل { ماذا قال ربكم } فيقول المسؤولون قال { الحق هو العلي الكبير } وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى{[9655]} ، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله { الذين زعمتم } [ سبأ : 22 ] لم تتصل لهم هذه الآية بما قبلها فلذلك اضطرب المفسرون في تفسيرها حتى قال بعضهم في الكفار بعد حلول الموت { فزع عن قلوبهم } بفقد الحياة فرأوا الحقيقة وزال فزعهم من شبه ما يقال لهم في حياتهم ، فيقال لهم حينئذ { ماذا قال ربكم } فيقولون قال { الحق } يقرون حين لا ينفعهم الإقرار ، وقالت فرقة الآية في جميع العالم ، وقوله { حتى إذا } يريد في القيامة .
قال الفقيه الإمام القاضي : والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح وهو الذي تظاهرت به الأحاديث ، وهذان بعيدان ، وقرأ جمهور القراء «فُزع » بضم الفاء وكسر الزاي{[9656]} ومعناه أطير الفزع منهم ، وهذه الأفعال جاءت مخالفة لسائر الأفعال ، لأن " فعّل " أصلها الإدخال في الشيء{[9657]} كعلمت ونحوها وقولك : فزعت زيداً معناه أزلت الفزع عنه ، وكذلك جزعته معناه أزلت الجزع عنه ، ومنه الحديث فدخل ابن عباس على عمر بجزعة{[9658]} ومنه مرضت فلاناً أي أزلت عنه المرض .
قال الفقيه الإمام القاضي : وانظر أن مطاوع هذه الأفعال يلحق ( بتحنث وتحرج وتفكه وتأثم وتخوت ){[9659]} ، وقرأ ابن عامر «فزّع » بفتح الفاء وشد الزاي وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وطلحة وأبي المتوكل الناجي واليماني ، وقرأ الحسن البصري بخلاف «فُزِع » بضم الفاء وكسر الزاي وتخفيفها كأنه بمعنى أقلع ، ومن قال بأنها في العالم أجمعه قال معنى هذه القراءة فزع الشيطان عن قلوبهم أي بادر ، وقرأ أيوب عن الحسن أيضاً «فُرّغ » بالفاء المضمومة والراء المشددة غير منقوطة والغين المنقوطة من التفريغ ، قال أبو حاتم رواها عن الحسن نحو من عشرة أنفس وهي قراءة أبي مجلز .
وقرأ مطر الوراق عن الحسن «فزع » على بناء الفعل للفاعل وهي قراءة مجاهد والحسن أيضاً «فرغ » بالراء غير منقوطة مخففة من الفراغ ، قال أبو حاتم وما أظن الثقات رووها عن الحسن على وجوه إلا لصعوبة المعنى عليه فاختلفت ألفاظ فيها{[9660]} ، قرأ عيسى بن عمر «حتى إذا افرنقع » وهي قراءة ابن مسعود ومعنى هذا كله وقع فراغها من الفزع والخوف ، ومن قرأ شيئاً من هذا على بناء الفعل للمفعول فقوله عز وجل { عن قلوبهم } في موضع رفع ، ومن قرأ على بناء الفعل للفاعل فقوله { عن قلوبهم } في موضع نصب ، وافرنقع معناه تفرق ، وقوله { ماذا } يجوز أن تكون «ما » في موضع نصب ب { قال } ويصح أن تكون في موضع رفع بمعنى أي شيء قال ، والنصب في قوله { الحق } على نحوه في قوله { ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً }{[9661]} [ النحل : 30 ] لأنهم حققوا أن ثم ما أنزل ، وحققوا هنا أن ثم ما قيل ، وقولهم { وهو العلي الكبير } تمجيد وتحميد .
وجاء نظم قوله : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } نظماً بديعاً من وفرة المعنى ، فإن النفع يجيء بمعنى حصول المقصود من العمل ونجاحه كقول النابغة :
ومنه قوله تعالى : { لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل } [ الأنعام : 158 ] ، ويجيء بمعنى المساعد الملائم وهو ضد الضار وهو أكثر إطلاقه . ومنه : دواء نافع ، ونفعني فلان . فالنفع بالمعنى الأول في الآية يفيد القبول من الشافع لشفاعته ، وبالمعنى الثاني يفيد انتفاع المشفوع له بالشفاعة ، أي حصول النفع له بانقشاع ضر المؤاخذة بذنب كقوله تعالى : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } [ المدثر : 48 ] . فلما عبر في هذه الآية بلفظ الشفاعة الصالح لأن يعتبر مضافاً إلى الفاعل أو إلى المفعول احتمل النفع أن يكون نفع الفاعل ، أي قبول شفاعته ، ونفعَ المفعول ، أي قبول شفاعة من شفع فيه .
وتعدية فعل الشفاعة باللام دون ( في ) ودون تعديته بنفسه زاد صلوحيته للمعنيين لأن الشفاعة تقتضي شافعاً ومشفوعاً فيه فكان بذلك أوفرَ معنىً .
فالاستثناء في قوله : { إلا لمن أذن له } استثناء من جنس الشفاعة المنفي بقرينة وجود اللام وليس استثناء من متعلَّق { تنفع } لأن الفعل لا يعدّى إلى مفعوله باللام إلا إذا تأخر الفعل عنه فضعف عن العمل بسبب التأخير فلذلك احتملت اللام أن تكون داخلة على الشافع ، وأن ( مَن ) المجرورة باللام صادقة على الشافع ، أي لا تقبل شفاعةٌ إلا شفاعة كائنة لمن أذن الله له ، أي أذن له بأن يشفع فاللام للملك كقولك : الكرم لزيد ، أي هو كريم فيكون في معنى قوله : { ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع } [ السجدة : 4 ] . وأن تكون اللام داخلة على المشفوع فيه ، و ( مَن ) صادقة على مشفوع فيه ، أي إلا شفاعةً لمشفوع أذن الله الشافعين أن يشفعوا له أي لأجله فاللام للعلة كقولك : قمت لزيد ، فهو كقوله تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] .
وإنما جيء بنظم هذه الآية على غير ما نُظمت عليه غيرها لأن المقصود هنا إبطال رجائهم أن تشفع لهم آلهتهم عند الله فينتفعوا بشفاعتها ، لأن أول الآية توبيخ وتعجيز لهم في دعوتهم الآلهة المزعومة فاقتضت إبطال الدعوة والمدعُوّ .
وقد جمعت الآية نفي جميع أصناف التصرف عن آلهة المشركين كما جمعت نفي أصناف الآلهة المعبودة عند العرب ، لأن من العرب صابئة يعبدون الكواكب وهي في زعمهم مستقرة في السماوات تدبر أمور أهل الأرض فأبطل هذا الزعمَ قولُه : { لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } ؛ فأما في السماوات فباعترافهم أن الكواكب لا تتصرف في السماوات وإنما تصرفها في الأرض ، وأما في الأرض فبقوله : { ولا في الأرض } . ومن العرب عبدة أصنام يزعمون أن الأصنام شركاء لله في الإِلهية فنفي ذلك بقوله : { وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } ، ومنهم من يزعمون أن الأصنام جعلها الله شفعاء لأهل الأرض فنفي ذلك بقوله : { ولا تنفع الشفاعة عنده } الآية .
وقرأ الجمهور { أذن } بفتح الهمزة وفيه ضمير يعود إلى اسم الجلالة مثل ضمائر الغيبة التي قبله . وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف بضم الهمزة على البناء للنائب . والمجرور من قوله : { له } في موضع نائب الفاعل .
وقوله : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } { حتى } ابتدائية وهي تفيد ارتباط ما بعدها بما قبلها لا محالة فالضمائر التي في الجملة الواقعة بعد { حتى } عائدة على ما يصلح لها في الجُمل التي قبلها . وقد أفادت { حتى } الغاية بأصل وضعها وهي هنا غاية لما أفهمه قوله : { إلا لمن أذن له } من أن هنالك إذناً يصدر من جانب القدس يأذن الله به ناساً من الأخيار بأن يشفعوا كما جاء تفصيل بعض هذه الشفاعة في الأحاديث الصحيحة وأن الذين يرجون أن يشفع فيهم ينتظرون ممن هو أهل لأن يشفع وهم في فزع من الإِشفاق أن لا يؤذن بالشفاعة فيهم ، فإذا أذن الله لمن شاء أن يشفع زال الفزع عن قلوبهم واستبشروا إذ أنه فزع عن قلوب الذين قبلت الشفاعة فيهم ، أي وأيس المحرومون من قبول الشفاعة فيهم . وهذا من الحذف المسمى بالاكتفاء اكتفاء بذكر الشيء عن ذكر نظيره أو ضده ، وحسنه هنا أنه اقتصار على ما يسرّ المؤمنين الذين لم يتخذوا من دون الله أولياء .
وقد طويت جمل مِن وراء { حتى } ، والتقدير : إلا لمن أذن له ويومئذٍ يبقى الناس مرتقبين الإِذن لمن يشفع ، فَزعين من أن لا يؤذن لأحد زمناً ينتهي بوقت زوال الفزع عن قلوبهم حينَ يؤذن للشافعين بأن يشفعوا ، وهو إيجاز حذف .
و { إذا } ظرف للمستقبل وهو مضاف إلى جملة { فزع عن قلوبهم } ومتعلق ب { قالوا } .
و { فزع } قرأه الجمهور بضم الفاء وكسر الزاي مشددة ، وهو مضاعف فزع . والتضعيف فيه للإِزالة مثل : قشّر العود ، ومَرَّض المريض إذا باشر علاجَه ، وبُني للمجهول لتعظيم ذلك التفزيع بأنه صادر من جانب عظيم ، ففيه جانب الآذن فيه ، وجانب المبلغ له وهو الملك .
والتفزيع يحصل لهم بانكشاف إجمالي يلهمونه فيعلمون بأن الله أذن بالشفاعة ثم يتطلبون التفصيل بقولهم : { ماذا قال ربكم } ليعلموا من أُذِن له ممن لم يؤذن له ، وهذا كما يكَرِّر النظَرَ ويُعَاوِد المطالعَةَ مَن ينتظر القبول ، أو هم يتساءلون عن ذلك من شدة الخَشية فإنهم إذا فُزِّع عن قلوبهم تساءلوا لمزيد التحقق بما استبشروا به فيجابون أنه قال الحق .
فضمير { قالوا ماذا قال ربكم } عائد على بعض مدلول قوله : { لمن أذن له } . وهم الذين أذن للشفعاء بقبول شفاعتهم منهم وهم يوجهون هذا الاستفهام إلى الملائكة الحافّين ، وضمير { قالوا الحق } عائد إلى المسؤولين وهم الملائكة .
ويظهر أن كلمة { الحق } وقعت حكاية لمقول الله بوصف يجمع متنوع أقوال الله تعالى حينئذٍ من قبول شفاعة في بعض المشفوع فيهم ومن حرمان لغيرهم كما يقال : ماذا قال القاضي للخصم ؟ فيقال : قال الفصلَ . فهذا حكاية لمقول الله بالمعنى .
وانتصاب { الحق } على أنه مفعول { قالوا } يتضمن معنى الكلام ، أي قال الكلام الحق ، كقوله :
وقصيدةٍ تأتي الملوك غريبة *** قد قلتُها ليقال من ذا قالها
هذا هو المعنى الذي يقتضيه نظم الآية ويلتئم مع معانيها . وقد ذهبت في تفسيرها أقوال كثير من المفسرين طرائق قدداً ، وتفرقوا بَدَداً بَدَداً .
و ( ذا ) من قوله : { ماذا } إشارة عوملت معاملة الموصول لأن أصل : { ماذا قال } : ما هذا الذي قال ، فلما كثر استعمالها بدون ذِكر اسم الموصول قِيل إن ( ذا ) بعد الاستفهام تصير اسم موصول ، وقد يذكر الموصول بعدها كقوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده } [ البقرة : 255 ] .
وقرأ ابن عامر ويعقوب { فزع } بفتح الفاء وفتح الزاي مشددة بصيغة البناء للفاعل ، أي فَزّع الله عن قلوبهم .
وقد ورد في أحاديث الشفاعة عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن الله يقول لآدم : « أخرج بعث النار من ذريتك » ، وفي حديث أنس في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المحشر كلهم " ليدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار " . وفيه أن الأنبياء أبوا أن يشفعوا وأن أهل المحشر أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأنه استأذن ربه في ذلك فقال له : « سل تُعْطَ واشفع تُشَفّع » ، وفي حديث أبي سعيد « أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لعمه أبي طالب فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه تغلي منه أم دماغه » .
وجملة { وهو العلي الكبير } تتمة جواب المجيبين ، عطفوا تعظيم الله بذكر صفتين من صفات جلاله ، وهما صفة { العلي } وصفة { الكبير } .
والعلو : علوّ الشأن الشامل لمنتهى الكمال في العلم .
والكبر : العظمة المعنوية ، وهي منتهى القدرة والعدل والحكمة ، وتخصيص هاتين الصفتين لمناسبة مقام الجواب ، أي قد قضى بالحق لكل أحد بما يستحقه فإنه لا يخفى عليه حال أحد ولا يعوقه عن إيصاله إلى حقه عائق ولا يجوز دونه حائل . وتقدم ذكر هاتين الصفتين في قوله : { وأن الله هو العلي الكبير } في سورة الحج ( 62 ) .
واعلم أنه قد ورد في صفة تلقّي الملائكة الوحي أن من يتلقى من الملائكة الوحي يسأل الذي يبلغه إليه بمثل هذا الكلام كما في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري } وغيره : أن نبيء الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال الحقّ وهو العلي الكبير " اهـ . فمعنى قوله في الحديث : قضَى صدَر منه أمر التكوين الذي تتولى الملائكة تنفيذه ، وقوله في الحديث : " في السماء " يتعلق ب « قضى » بمعنى أوصل قضاءه إلى السماء حيث مقرّ الملائكة ، وقوله : « خُضْعَاناً لقوله » أي خوفاً وخشية ، وقوله : { فزع عن قلوبهم } أي أزيل الخوف عن نفوسهم .
وفي حديث ابن عباس عند الترمذي " إذا قضى ربنا أمراً سبح له حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " قال : " ثم أهل كل سماء " الحديث . وذلك لا يقتضي أنه المراد في آية سورة سبأ وإنما هذه صفة تلقي الملائكة أمر الله في الدنيا والآخرة فكانت أقوالهم على سنة واحدة .
وليس تخريج البخاري والترمذي هذا الحديث في الكلام على تفسير سورة سبأ مراداً به أنه وارد في ذلك ، وإنما يريد أن من صور معناه ما ذكر في سورة سبأ . وهذا يغنيك عن الالتجاء إلى تكلفات تعسّفوها في تفسير هذه الآية وتعَلّقها بما قبلها .