{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى } أي : نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال ، { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا } من الخير والشر ، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم ، { وَآثَارَهُمْ } وهي آثار الخير وآثار الشر ، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم ، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، فكل خير عمل به أحد من الناس ، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه ، أو أمره بالمعروف ، أو نهيه عن المنكر ، أو علم أودعه عند المتعلمين ، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته ، أو عمل خيرا ، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان ، فاقتدى به غيره ، أو عمل مسجدا ، أو محلا من المحال التي يرتفق بها الناس ، وما أشبه ذلك ، فإنها من آثاره التي تكتب له ، وكذلك عمل الشر .
ولهذا : { من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة } وهذا الموضع ، يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى اللّه والهداية إلى سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك ، ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمام فيه ، وأنه أسفل الخليقة ، وأشدهم جرما ، وأعظمهم إثما .
{ وَكُلَّ شَيْءٍ } من الأعمال والنيات وغيرها { أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } أي : كتاب هو أم الكتب وإليه مرجع الكتب ، التي تكون بأيدي الملائكة ، وهو اللوح المحفوظ .
ثم أكد - سبحانه - أن البعث حق ، وأن الجزاء حق ، لكى لا يغفل عنهما الناس ، ولكى يستعدوا لهما بالإِيمان والعمل الصالح فقال : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى . . . } .
أى : إنا نحن بقدرتنا وحدها نحيى الموتى بعد موتهم ، ونعيدهم إلى الحياة مرة أخرى لكى نحاسبهم على أعمالهم .
{ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } أى : وإنا نحن الذين نسجل عليهم أعمالهم التى عملوها فى الدنيا سواء أكانت هذه الأعمال صاحلة أم غير صالحة .
ونسجل لهم - أيضا - آثارهم التى تركوها بعد موتهم سواء أكانت صالحة كعلم نافع ، أو صدقة جارية .
. . أم غير صالحة كدار للهو واللعب ، وكرأى من الآراء الباطلة التى اتبعها من جاء بعددهم ، وسنجازيهم على ذلك بما يستحقون من ثواب أو عقاب { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ } أى : وكل شئ أثبتناه وبيناه فى أصل عظيم ، وفى كتاب واضح عندنا . ألا وهو اللوح المحفوظ ، أو علمنا الذى لا يعزب عنه شئ .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : وفى قوله : { آثارهم } قولان :
أحدهما : ونكتب أعمالهم التى باشروها بأنفسهم ، وآثارهم التى أثروها - أى تركوها - من بعدهم ، فنجزيهم على ذلك - أيضا - ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشر . كقوله صلى الله عليه وسلم " من سن فى الإِسلام سنة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شئ ، ومن سن فى الإِسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ . . " .
والثانى : أن المراد { وآثارهم } أى : آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية . فقد روى مسلم والإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال : " خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : " إنه بلغنى أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى المسجد ؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، قد أردنا ذلك ، فقال : يا بنى سلمة ، دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم " " .
هذا ، وتلك الرواية الصحيحة تشير إلى أن هذه الآية ليست مدنية - كما قيل - ، لأن هذه الرواية تصرح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال لبنى سلمة ، " دياركم تكتب آثاركم " أى : ألزموا دياركم تكتب آثاركم . . دون إشارة إلى سبب النزول .
قال الآلوسى ما ملخصه : والأحاديث التى فيها أن الله - تعالى - أنزل هذه الآية ، حين أراد بنو سلمة أن ينتقلوا من ديارهم . معارضة بما فى الصحيحين من أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ لهم هذه الآية ، ولم يذكر أنها نزلت فيهم ، وقراءته صلى الله عليه وسلم لا تنافى تقدم النزول . أى : أن الآية مكية كبقية السورة .
وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد أثبتت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وبينت الحكمة من رسالته ، كما بينت أن يوم القيامة آت لا ريب فيه .
وهنا يؤكد وقوع البعث ؛ ودقة الحساب ، الذي لا يفوته شيء :
( إنا نحن نحيي الموتى ، ونكتب ما قدموا وآثارهم ، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) . .
وإحياء الموتى هو إحدى القضايا التي استغرقت جدلاً طويلاً . وسيرد منه في هذه السورة أمثلة منوعة . وهو ينذرهم أن كل ما قدمت أيديهم من عمل ، وكل ما خلفته أعمالهم من آثار ، كلها تكتب وتحصى ، فلا يند منها شيء ولا ينسى . والله سبحانه هو الذي يحيي الموتى ، وهو الذي يكتب ما قدموا وآثارهم ، وهو الذي يحصي كل شيء ويثبته . فلا بد إذن من وقوع هذا كله على الوجه الذي يليق بكل ما تتولاه يد الله .
والإمام المبين . واللوح المحفوظ . وأمثالها . أقرب تفسير لها هو علم الله الأزلي القديم وهو بكل شيء محيط .
ثم قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى } أي : يوم القيامة ، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب مَنْ يشاء من الكفار الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة ، فيهديهم بعد ذلك إلى الحق ، كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ الحديد : 17 ] .
وقوله : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا } أي : من الأعمال .
وفي قوله : { وَآثَارَهُمْ } قولان :
أحدهما : نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم ، وآثارهم التي أثروها من بعدهم ، فنجزيهم على ذلك أيضًا ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سن في الإسلام سنة حسنة ، كان له أجرها وأجر من عمل{[24677]} بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا ، ومَنْ سن في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزرُ مَنْ عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا " .
رواه مسلم ، من رواية شعبة ، عن عون بن أبي جُحَيْفة ، عن المنذر بن جرير ، عن أبيه جرير بن عبد الله البجلي ، رضي الله عنه ، وفيه قصة مُجْتَابِي النَّمَّار المُضريَّين . {[24678]} ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن يحيى بن سليمان الجعفي ، عن أبي المحياة يحيى بن يَعْلَى ، عن عبد الملك بن عمير ، عن جرير بن عبد الله ، فذكر الحديث بطوله ، ثم تلا هذه الآية : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } .
وقد رواه مسلم من رواية أبي عَوَانة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن المنذر بن جرير ، عن أبيه ، فذكره . {[24679]}
وهكذا الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم ، انقطع عمله إلا من ثلاث : من علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده " . {[24680]}
وقال سفيان الثوري ، عن أبي سعيد قال : سمعت مجاهدًا يقول في قوله :{[24681]} { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } قال : ما أورثوا من الضلالة .
وقال ابن لَهِيعَة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } يعني : ما أثروا . يقول : ما سنوا من سنة ، فعمل{[24682]} بها قوم من بعد موتهم ، فإن كان خيرًا فله مثل أجورهم ، لا ينقص من أجر مَنْ عمله شيئا ، وإن كانت شرًّا فعليه مثل أوزارهم ، ولا ينقص من أوزار من عمله شيئًا . ذكرهما ابن أبي حاتم .
وهذا القول هو اختيار البَغَوِيّ . {[24683]}
والقول الثاني : أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية .
قال ابن أبي نَجِيح وغيره ، عن مجاهد : { مَا قَدَّمُوا } : أعمالهم . { وَآثَارَهُمْ } قال : خطاهم بأرجلهم . وكذا قال الحسن وقتادة : { وَآثَارَهُمْ } يعني : خطاهم . قال قتادة : لو كان الله تعالى{[24684]} مُغفلا شيئًا من شأنك يا بن آدم ، أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار ، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله ، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله أو من معصيته ، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله ، فليفعل .
وقد وَرَدَت في هذا المعنى أحاديث :
الحديث الأول : قال{[24685]} الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا الجُرَيْري ، عن أبي نَضْرَة ، عن جابر بن عبد الله قال : خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم : " إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد " . قالوا : نعم ، يا رسول الله ، قد أردنا ذلك . فقال : " يا بني سلمة ، دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم " .
وهكذا رواه مسلم ، من حديث سعيد الجريري وكَهْمس بن الحسن ، كلاهما عن أبي نضرة - واسمه : المنذر بن مالك بن قطْعَة العَبْدِي - عن جابر . {[24686]}
الحديث الثاني : قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الوزير الواسطي ، حدثنا إسحاق الأزرق ، عن سفيان الثوري ، عن أبي سفيان ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : كانت بنو سلَمة في ناحية من المدينة ، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد ، فنزلت : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إن آثاركم تُكْتبُ " . فلم ينتقلوا . انفرد بإخراجه الترمذي{[24687]} عند تفسير هذه الآية الكريمة ، عن محمد بن الوزير ، به . {[24688]} ثم قال : " حسن غريب من حديث الثوري " . {[24689]}
ورواه ابن جرير ، عن سليمان بن عمر بن خالد الرقي ، عن ابن المبارك ، عن سفيان الثوري ، عن طريف - وهو ابن شهاب أبو سفيان السعدي - عن أبي نضرة ، به . {[24690]}
وقد رُوِيَ من غير طريق الثوري ، فقال الحافظ أبو بكر البزار :
حدثنا عباد بن زياد الساجي ، حدثنا عثمان بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن سعيد الجُرَيري ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : إن بني سَلَمة شَكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد ، فنزلت : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } ، فأقاموا في مكانهم .
وحدثنا ابن المثنى{[24691]} ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
وفيه غرابة من حيث ذكْرُ نزول هذه الآية ، والسورة بكمالها مكية ، فالله أعلم .
الحديث الثالث : قال ابن جرير :
حدثنا نصر بن علي الجَهْضَمِي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمَة ، عن{[24692]} ابن عباس قال : كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد ، فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد ، فنزلت : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } فقالوا : نثبت مكاننا . هكذا رواه وليس فيه شيء مرفوع . {[24693]}
ورواه الطبراني عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ، عن محمد بن يوسف الفريابي ، عن إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد ، فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد ، فنزلت : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } فثبتوا في منازلهم . {[24694]}
الحديث الرابع : قال{[24695]} الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثني حُيَيّ بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو قال : توفي رجل بالمدينة ، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " يا ليته مات في غير مولده " . فقال رجل من الناس ولم يا رسول الله ؟ فقال رسول الله {[24696]} صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل إذا توفي في غير مولده ، قِيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة .
ورواه النسائي عن يونس بن عبد الأعلى ، وابن ماجه عن حرملة ، كلاهما عن ابن وهب ، عن حيي بن{[24697]} عبد الله ، به . {[24698]}
وقال{[24699]} ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا أبو تُمَيْلَةَ ، حدثنا الحسين ، عن ثابت قال : مشيت مع أنس فأسرعت المشي ، فأخذ بيدي فمشينا رويدًا ، فلما قضينا الصلاة قال أنس : مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي ، فقال : يا أنس ، أما شَعَرْتَ أن الآثار تكتب ؟ أما شَعَرْتَ أن الآثار تكتب ؟{[24700]} .
وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول ، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك{[24701]} بطريق الأولى والأحرى ، فإنه إذا كانت هذه الآثار تُكتَب ، فلأن تُكْتَبَ تلك التي فيها قُدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى ، والله أعلم .
وقوله : { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } أي : جميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ ، والإمام المبين هاهنا هو أم الكتاب . قاله مجاهد ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وكذا في قوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 71 ] أي : بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير و شر ، كما قال تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [ الزمر : 69 ] ، وقال تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] .
ثم أخبر تعالى بإحيائه الموتى رداً على الكفرة ، ثم توعدهم بذكره كتب الآثار ، وإحصاء كل شيء وكل ما يصنعه الإنسان ، فيدخل فيما قدم ويدخل في آثاره لكنه تعالى ذكر الأمر من الجهتين ولينبه على الآثار التي تبقى ويذكر ما قدم الإنسان من خير أو شر ، وإلا فذلك كله داخل فيما قدم ابن آدم ، وقال قتادة { ما قدموا } معناه من عمل ، وقاله ابن زيد ومجاهد وقد يبقى للمرء ما يستن به بعد فيؤجر به أو يأثم ، ونظير هذه الآية { علمت نفس ما قدمت وأخرت }{[9777]} [ الانفطار : 5 ] ، وقوله { يُنَبَّأُ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } [ القيامة : 13 ] ، وقرأت فرقة «وآثارهم » بالنصب ، وقرأ مسروق «وآثارهم » بالرفع ، وقال ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري إن هذه الآية نزلت في بني سلمة حين أرادوا النقلة إلى جانب المسجد ، وقد بينا ذلك في أول السورة ، وقال ثابت البناني{[9778]} : مشيت مع أنس بن مالك إلى الصلاة فأسرعت فحبسني فلما انقضت الصلاة قال لي : مشيت مع زيد بن ثابت إلى الصلاة ، فأسرعت في مشيي فحبسني فلما انقضت الصلاة قال : مشيت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فأسرعت في مشيي فحبسني ، فلما انقضت الصلاة قال لي : يا زيد أما علمت أن الآثار تكتب .
قال القاضي أبو محمد : فهذا احتجاج بالآية ، وقال مجاهد وقتادة والحسن : والآثار في هذه الآية الخطا ، وحكى الثعلبي عن أنس أنه قال : الآثار هي الخطا إلى الجمعة{[9779]} ، وقيل الآثار ما يبقى من ذكر العمل فيقتدى به فيكون للعامل أجر من عمل بسنته من بعده ، وكذلك الوزر في سنن الشر ، وقوله تعالى : { وكلَّ شيء } نصب بفعل مضمر يدل عليه { أحصيناه } كأنه قال وأحصينا كل شيء أحصيناه ، و «الإمام » الكتاب المقتدى به الذي هو حجة ، قال مجاهد وقتادة وابن زيد : أراد اللوح المحفوظ ، وقالت فرقة : أراد صحف الأعمال .