السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ} (12)

ولما ذكر تعالى خشية الرحمان بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحياء الموتى بقوله تعالى :

{ إنا نحن } أي : بما لنا من العظمة التي لا تضاهى { نحيي الموتى } أي : كلهم حسّاً بالبعث ، ومعنى بالإنقاذ إذا أردنا من ظلمة الجهل { ونكتب } أي : جملة عند نفخ الروح وشيئاً فشيئاً بعده فلا يتعدى التفصيل شيئاً في ذلك الإجمال { ما قدموا } أي : وأخروا من جميع أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم من صالح وغيره فاكتفى بأحدهما لدلالة الآخر عليه كقوله تعالى { سرابيل تقيكم الحرّ } ( النحل : 81 ) أي : والبرد .

وقيل المعنى : ما أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة كقوله تعالى { بما قدّمت أيديهم } ( الجمعة : 7 ) أي : بما قدموا في الوجود وأوجدوه ، وقيل : نكتب نياتهم فإنها قبل الأعمال وقوله تعالى { وآثارهم } فيه وجوه : أحدها : وهو مبني على التفسير الأخير ، وهو كتب النيات المراد بالآثار : الأعمال .

ثانيها : ما سنوا من سنة حسنة وسيئة ، فالحسنة كالكتب المصنفة والقناطر المبنية ، والسيئة كالظلامات المستمرة التي وضعتها الظلمة والكتب المضلة قال صلى الله عليه وسلم : «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها من بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها من بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً » .

ثالثها : خطاهم إلى المساجد لما روى أبو سعيد الخدري قال : شكت بنو سلمة بعد منازلهم عن المسجد فأنزل الله تعالى { ونكتب ما قدّموا وآثارهم } فقال صلى الله عليه وسلم : «إن الله يكتب خطواتكم ومشيكم ويثيبكم عليها » وقال صلى الله عليه وسلم : «أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم مشياً والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام » ، فإن قيل : الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال تعالى { نحيي الموتى ونكتب } ولم يقل نكتب ما قدموا ونحييهم ؟ أجيب : بأن الكتابة معظمة لأمر الإحياء ؛ لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم ، والكتابة في نفسها إن لم يكن هناك إحياء ولا إعادة لا يبقى لها أثر أصلاً ، والإحياء هو المعتبر والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم الإحياء ؛ لأنه تعالى قال : { إنا نحن } وذلك يفيد العظمة والجبروت ، والإحياء العظيم يختص بالله تعالى والكتابة دونه تقرير التعريف الأمر العظيم وذلك مما يعظم ذلك الأمر العظيم .

ولما كان ذلك الأمر ربما أوهم الاقتصاد على ما ذكر من أحوال الآدميين دفع ذلك بقوله تعالى : { وكل شيء } من أمور الدنيا والآخرة { أحصيناه } أي : قبل إيجاده بعلمنا القديم إحصاء وحفظاً وكتبناه { في إمام } وهو اللوح المحفوظ { مبين } أي : لا يخفى فيه شيء من جميع الأحوال والأقوال فهو تعميم بعد تخصيص ؛ لأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم وليست الكتابة مقتصرة عليه بل كل شيء محصي في إمام مبين ، وهذا يفيد أن شيئاً من الأقوال والأفعال لا يعزب عن علم الله تعالى ولا يفوته كقوله تعالى { وكل شيء فعلوه في الزُّبر ( 52 ) وكل صغير وكبير مُستطَر } ( القمر : 52 53 ) يعني ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب لا يبدل ، فإن القلم جف بما هو كائن فلما قال تعالى { نكتب ما قدموا } بين أن قبل ذلك كتابة أخرى ، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ، ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه ، قيل : إن ذلك مؤكد لمعنى قوله تعالى { ونكتب } ؛ لأن من يكتب شيئاً في أوراق ويرميها قد لا يجدها فكأنه لم يكتب فقال تعالى : نكتب ونحفظ ذلك في إمام مبين وهو كقوله تعالى { علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } ( طه : 52 ) .